رواية هاشم محمود فجر أيلول
بقلم الأستاذ: عفيف قاووق المصدر: جريدة الديار اللبنانية
"إلى أرضي التي يشرق منها الصباح، إلى بلادي التي تسطع منها الحريّة، إلى أريتريا
مهد الرجال وعهد الوفاء ووهج الأمل، إلى إفريقيا السمراء العذراء الحورية". بهذه الكلمات صدَّر الروائي هاشم محمود روايته "فجر أيلول" لنعرف كم هو مسكوناَ بحب الوطن وحاملٌ لقضاياه وإنه يستحق بجدارة لقب "كاتب الوطن".
لمن لا يعرّف هاشم محمود فهو الأديب الأريتري الذي سخّر قلمه لتعريف القراء خاصة في الشرق العربي على هذا البلد المنسي "أريتريا" والمعاناة التي عاشها هذا الشعب المظلوم جراء الإحتلال الإثيوبي والإستعمار البريطاني، فجاءت رواياته "فجر أيلول" وقبلها "عطر البارود" لتشير إلى تلك المعاناة بأسلوب ملؤه الأمل بالغد الآتي والمستقبل المشرق، من هنا كانت عناوين رواياته - عطر البارود و فجر أيلول - تبرز جدلية وتضاد كلمتان العطر والبارود أو الفجر وأيلول، لهذا التضاد الظاهر دلالات مهمة فالبارود لا بد ان يحمل في النهاية عطر وعبق التحرير والإستقلال وكذلك فجر أيلول فإن كان أيلول شهر الخريف التي تتهالك فيه اوراق الشجر وتتعرى من إخضرارها فإن مع كل إنكسار وتهاوٍ لا بد من فجر سيبزغ بسواعد الأحرار، فكان فجر أيلول فجر تحرير أريتريا وحريتها، هذه الحرية التي شكلت هاجساً كبيرا لدى الكاتب جسّدهُ في حلم أحد شخوص روايته "إبراهيم" الحالم دوماً بالحرية "فالمتحررون من الخوف هم أول الناجين من النار، وأول الوجوه التي تطلع عليها الشمس". والأحرار فقط هم من يلهمون العالم وهم فقط من يلدون أحراراً، والحرية هي دين البشرية التي لا يختلف عليها إثنان، ولا حرية من دون فجر" ولذا كان فجر أيلول.
إستطاع الكاتب في روايته أن يجمع وبحرفية عالية بين الماضي والحاضر في حكايتين هما حكاية إبراهيم وترحاس وخكاية ولدهما إدريس الطالب الوافد إلى بريطانيا للدراسة. ومن خلال هاتين الحكايتين تطرق الكاتب إلى عدة موضوعات ونقاط إشكالية سنحاول ذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر.
• الزواج المختلط بين إبراهيم المُسلم وترحاس المسيحية، هذا الزواج الذي أريد له أن يكون أول خرقٍ لقانون أقره المجتمع خلافا لإرادة الله. فالله الذي جمع بين بيتيه الجامع والكنيسة في بقعة واحدة لا يحق للمجتمع أن يمنع على عاشقين كإبراهيم وترحاس من الإلتئام في بيت واحد.
بالمقابل نوعا آخر من الزواج كان بإنتظار إدريس في بريطانيا عندما نشأت علاقة حب بينه وبين الفتاة الإنجليزية "ليزا". وقد حاول إدريس النأي بنفسه عن مثل هكذا علاقة فنصيحة أمه ترحاس كانت تطارده بإستمرار "إحترس يا ولدي، الفتاة البيضاء كالبعوضة الشبقة تمتص دم الرجل وفحولته، فلا تكن نعجة في حظيرتها (صفحة 65).
وعلى الرغم من كون ترحاس وليزا تنتميان الى الدين المسيحي، إلا أن ترحاس خشيت من إرتباط إبنها وزواجه من ليزا البريطانية، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدُل على ان الكاتب اراد تغليب الإنتماء الوطني لدى ترحاس على إنتمائها الديني، هي رفضت ليزا الآتية من بلاد المستعمر الإنجليزي أكثر من رفضها بسبب ديانتها.
• النقطة الثانية التي أثارتها الرواية وأُفردت لها حيزاً لا بأس به تمثلت في الظلم والمجازر التي تعرض لها الشعب الأريتري. وكم كان الكاتب مبدعاً وموضوعيا بتعاطفه مع كافة القضايا الإنسانية المحقة عندما زاوج بين مجزرة منطقة "عونا" الأريترية ومجزرة "صبرا وشاتيلا" في بيروت، فالظلم واحدٌ أينما وجد ومجزرة عونا في أريتريا لا تقل فظاعة عن مجزرة صبرا وشاتيلا، والسفاحين كلهم ملّة واحدة تجمعهم شراكة القتل وشهية الإحتلال، لذا إن الكاتب كان محقا عندما أطلق على الجاني في كلتا المجزرتين إسم " شارون الحبشي".
وهنا لا بد من التنويه بدقة الوصف الذي أجاده الكاتب حين يقول "جنين أوشك على الإكتمال كالبدر في بطن أمه، يرفع يده يستعطف الشيطان المسعور أن يمنحه بضعة أيام كي يخرج إلى فضاء "عونا"، هذا الجنين المذعور يواصل الهرب إلى أعمق نقطة في الرحم لكن الحبشي يطارده ويبقر البطن بلا هوادة حتي يسقط الرحم مذبوحا بإمرأة ووليد خرج إلى الموت قسراً" (صفحة 42). هذه الصورة تكاد تكون مطابقة تماما لما حدث في صبرا وشاتيلا كون إن شارون والحبشي كلاهما "وجهان يبحثان عن موسى في بطون الحوامل، كلاهما رأى في كل بطن حُرّة مشروع نبيّ وليد سيكون سبب هلاك الطغاة" (صفحة 43).
• أيضا من بين المواضيع المُثارة في الرواية قضية التاريخ المُزيف الذي إعتمده الغرب لإخفاء جرائمه وهذا ما رغب إدريس في إماطة اللثام عنه وفضحه وتصويب الأمر من خلال إصراره على دراسة القانون الدولي في بريطانيا، وعندما سأله أستاذه الدكتور جون عن سبب إلتحاقه ببرنامج القانون الدولي كان جوابه حاسما بقوله "لأننا عانينا كثيراً من هذا القانون" (صفحة 49).
ولم يتوانى إدريس عن فضح هذا التاريخ المزيف، يقول مخاطبا الفتاة الإنكليزية ليزا "تاريخ مزيّف يُخفي عن عمد وجها لا يعرفه البريطانيون ويُغفل مذابح الإنجليز في إفرقيا والهند". وفي موضع آخر يخاطب إدريس أستاذه جون بالقول "إن الحاجة أصبحت ملحّة لإعادة رسم عالم جديد يقوم على التكافؤ والتعايش السلمي، عالمٌ يسوده القانون الذي لا ينحاز إلى قوي ولا يتحامل على ضعيف" (صفحة 240).
لكن إدريس في سعيه لتحقيق حلمه بإنجاز رسالته في القانون الدولي يصطدم بملاحقة أجهزة الإستخبارات التي بدأت بالتضييق عليه ولعل هذا النوع من التضييق والملاحقة ينسحب على معظم الطلاب العرب الوافدين للدراسة في جامعات الغرب، وهذا ما أفصح عنه الدكتور جون أستاذ إدريس بعد أن أرغمته السلطات الأمنية على عدم متابعة الإشراف على رسالة إدريس، قال له "إنهم يا عزيزي يراقبون الأنفاس في صدورنا والأفكار في عقولنا حتى إذا إستشعروا من وجودنا خطراُ ظهرت جيناتهم المتغولة في أبشع صورها (صفحة 272).
• هاشم محمود المراقب والمتابع اليومي للحدث، لم يشأ إلا ان يأتي على ما نعانيه حاضرا من جائحة فيروسية، فجعل إدريس يستذكر وفاة فاطمة زميلته في جامعة الخرطوم آنذاك والتي أصيبت بفيروس سارس، لينطلق بعدها للقول إن مثل هذه الفيروسات ما هي إلا نوعا من الحروب، فالثورة الرقمية أخذت اللعبة إلى ميدان آخر، والكبار يُمكنهم أن يخلقوا فيروساٌ صغيرا يكبد مزيداٌ من الخسائر ثم يبتكرون مصلاٌ ويبيعونه فتكون حربا وغنيمة في آن (صفحة 178).
ختاما لا بد من القول إذا كانت رواية فجر أيلول إتخذت من قمة أمباسيرا رمزا للتحرر والإنطلاق، فإن هذه الرواية سمحت للروائي هاشم محمود ان يصعد أولى درجات السلم نحو قمة الأدب العربي والإفريقي والأمل ان يصل إلى العالمية في أدبه.