قراءة في رواية (عطر البارود) للروائي الإريتري هاشم محمود

بقلم الأستاذة: أريج محمد أحمد  المصدر: المحور نيوز

استوقفني كثيرا عنوان رواية (عطر البارود) للروائي الارتيري الأستاذ هاشم محمود،

رواية عطر البارود 2

وخلق لدي تساؤلاً عميقاً لجمعه بين نقيضين في عبارة عجيبة غريبة جدا، فكان لا بد من القراءة لكي أتمكن من الحصول على إجابة مقنعة، ولكي أصل من خلالها لمعرفة كنه هذا العنوان، وإن كان الكاتب قد وفق في إختيار هذا العنوان لروايته وتمكن من خلال السرد تقديم رؤية تشرح مضمونه بصورة ترضي القراء.

وقد وجدت ان الكاتب كان موفقا في اختيار عنوانه المركب من خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا، والبارود مضاف اليه وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، وتمكن وبامتياز من توضيح المعنى ورؤيته من خلال السرد العميق جداً والمتميز… إذ كيف يكون للبارود عطر ورائحة، البارود الذي يحيي ويميت، يقتل ويحرر، ويشكل أداة للشر والخير ويستعمل في الحرب والسلم معا، ووفق هذه الازدواجية نسج لنا الروائي أحداث هذه الرواية البديعة والشائقة.

تندرج الرواية تحت تصنيف ما يسمى بأدب الحروب وهي توثق لحرب الإريتريين ضد العدوان الأثيوبي الغاشم، وقصة نضال هذا الشعب العظيم، وقد نجح الكاتب من خلال السرد المُدعم بدرايته الكاملة بأسرار تلك المرحلة ومعايشته لتفاصيلها إضافة لامتلاكه ناصية الكتابة وأدواتها في أن يقدم لنا هذا العمل الروائي بأسلوب شائق بعيد جدا عن الجمود الذي يرافق عادة المادة التأريخية أو التوثيقية، وذلك نتيجةً لإعتماده محاور عدة، تمثل الى جانب الهدف الأساسي وهو التوثيق لتلك المرحلة، دعامات إرتكزت عليها الرواية في مجملها دون ضياع أي محور او تقليصه لحساب محور آخر وهذا مامنحها الشيء الكثير من المتعة و نأى بها عن نفور القاريء من الأحداث الشنيعة التي ترافق أي حرب.

ومن خلال اطلاعي على (عطر البارود) تجلت لي خمسة محاور سأتطرق اليها تباعاً في محاولة مني لتقديم قراءة تشمل كل أبعاد الرواية دون إغفال أي جانب.

المحور الأول: دار حول الأرض، الإنسان، الحرب، وتلك الفترة العصيبة (المكان والزمان )، الأرض الوطن وماهيته عند كل إنسان ومشاعره عندما يتعرض للاعتداء والإحتلال وحلول لعنة الحرب وما يرافقها من ضياع وخوف وشتات وويلات وموت.

لا وطن يعني لا أمن، لا بيت يعني مخيمات، ويعني هروب، ويعني دمار، ويعني زوال كل مقومات الحياة وأنت حي، تعرض الكاتب بالتفصيل لكل هذا الجحيم وكان قديراً جدا في دقة الوصف وسلاسة العبارات، وقدم لنا الانسان الإريتري كنموذج للصمود والجلد والتماسك وهذا يقودنا مباشرة إلى...

المحور الثاني: الذي تحدث فيه عن شخوص الرواية بدءاً من الاصدقاء (محمد و أحمد و إبراهام و مكئيل و إبراهيم) الذين من خلالهم أشار إشارة واضحة وأكد على فكرة التسامح الديني في حياة الشعب الاريتري سلماً وحرباً، وأن الإيمان كان موجوداً وراسخاً في قلوبهم من خلال دعائهم للوطن وصلواتهم بغض النظر عن انها نابعة من مسلم أو مسيحي يجمعهم إيمانهم العميق بنصر من الله ولحمة الوطن و الولاء له وأنهم أصحاب أرض واحدة وقضية واحدة وإن اختلف الدين والمعتقد.

وتجدر الإشارة أيضاً لسيادة مفهوم الجماعة رغم قساوة الظرف، فقد كانوا متجمعين في كل شيء في إيمانهم في محبتهم حتى في شتاتهم وهروبهم ونزوحهم للمخيمات البغيضة، والذي كان يتم من خلال مجموعات تحوي أفراد مختلفين في العمر والجنس والقدرة حيث يتم التكافل فيما بينهم حتى يصلون بأقل الخسائر، والتي غالبا ما تكون هناك ياللحسرة أرواح بريئة من الأطفال، ومن كبار السن والحوامل رغم المحاولات المستميتة.

التفكير نفسه يتم بالتشاور، التبرير الوحيد لهذا السلوك هو انهم وجدوا ان هذا التجمع يشكل بلسما لآلامهم وعذاباتهم، فالحزن والجزع عندما يتوزع على من حولك، ومن تحب يهون شعورك الشخصي ويتماهى مع مشاعر الآخرين، وتستشعر اوجاع غيرك وتتقوى وتعمل على تخفيفها خاصة عندما يكون القلب واحدا، والوطن واحدا، والجرح واحدا، فتزداد القدرة على الإحتمال ومواصلة المسيرة كتفاً بكتف ويداً بيد شيباً وشباباً رجالاً ونساء.

المحور الثالث: المرأة في (عطر البارود)

أبدع الكاتب حين خلق من المراة رمزاً مقدساً للوطن، ورمزاً للحياة وللأمل وللنجاة وذلك من خلال الطفلة (مريم) التي ولدت من رحم الموت، وعلى أرض المخيمات والنزوح، وبحبكةٍ عالية حولها الى نسمة أمل هبت على صحراء بؤسهم، وكرس لفكرة أن تكون نجاة مريم وحياتها دون أمها ووالدها وخارج وطنها وسط كل هذا الهول هي نجاتهم.

رسخت هذه الفكرة في عقول الجميع وأصبحت (مريم) هي (إريتريا) الوطن الواجب إنقاذه، تحول الجميع الى آباء وامهات صوت صراخها كانه تشجيع لهم واستثارة لمشاعر الغضبة والثورة: اعيدوا لي وطني، أو دعوني الحق بوالدي.

ويواصل الكاتب التوثيق الرائع للمرأة الاريترية من خلال شخصية (أم ابراهيم) الصلبة المتوكلة والصابرة، و(عافيت) الجميلة الطموحة وكذلك (زوجة ابراهام) الذي قدم روحه فداء للوطن، ولم يردعها ذلك لا خوفا من ملاقاة نفس المصير او يأسا فمنحت الجرحى دماءها وهي في ميدان المعارك تداوي جراحهم وجراح روحها وقلبها.

ويالها من نماذج هن رفيقات الدرب والحرب شقيقات الروح والدم رفيقات النضال.

في المحور الرابع: طرح الكاتب الفكر الثوري وكيفية تكون الثورة الأرترية و إيمان الشعب بها بكل اطيافه وكيف كان الشباب يتسابقون للالتحاق برفاقهم للذود عن الوطن، وتحمل كل التداعيات التي لازمت تلك الثورة منذ نشأتها وحتى نجاحها أفراح وأحزان خوف وترقب شهداء كل ذلك تم تحمله بصبر وجلد ضاربين أروع الأمثال في التكاتف والتجرد ونكران الذات في سبيل أن تسترد الأرض ويحيا من بقى منهم آمناً مطمئناً.

المحور الخامس: نجد أن الكاتب لم يغب عن ذهنه أهم شيء الا وهو الحب والذي بذكاء منه جعله حاضراً في الرواية رغم الحرب والدمار الا ان الحب كان كالطائر يحلق في سماء أريتريا الملبدة بغيوم البارود، ويتبع أبطالها في حلهم وترحالهم وكأنه يبعث الأمل فيهم بأن الحياة لابد ستستمر.

الحب حاضر بكل انواعه في الرواية، حب الوطن حب الاباء والامهات والاجداد حب الابناء حب الحبيبة وقصة الحب الجميلة بين (عافيت ومحمد) الحب النقي الذي عاش مكتوما ولكنه حي ومتقد روته (عافيت) من دموع إنتظارها الخفية ورواه (محمد) من عزيمته في الخلاص من أجل العودة لها وإعادتها الى موطنها ومهرها إريتريا حرة.

إريتريا الوطن و الحبيبة إريتريا الإنتماء والجذور كل هذا جعل من رائحة البارود عطراً يتمنى الإريتري تنسمه طالما هو السبيل الوحيد للتحرير وللحرية والإنعتاق.

تحياتي لك أستاذ هاشم إنجاز رائع سيخلده التاريخ.

Top
X

Right Click

No Right Click