حرب الجياع - الحلقة التاسعة عشر

بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية

الأسباب التي أدت إلى انطلاق شرارة الحرب:

هناك من يرى عدة أسباب لهذا الصراع الذي أخذ يتطور وينمو تدريجياً

حرب الجياع 2

لتصبح حرباً شاملة خسر فيها الشقيقان الكثير لكن الخسارة الكبيرة والتي كادت أن تطيح بالنظام الارتري من رأسه إلى ذيله.

أولاً: إذا نظرنا نظرة فاحصة إلى الأرض المختلف عليها حسب رأي وتقارير الخبراء الزراعيين والجيولوجيين نجدها أرض عادية، لا تبدو أنها واعدة بالثروات البترولية أو المعدنية، أرض تصلح للزراعة وتربية الماشية، كما أنها تنتج كميات كبيرة من السمسم وهذه المادة تعتبر الغذاء الرئيسي للشعبين الاثيوبي والارتري.

ثانياً: عمدت الحكومة الارترية إلى استبدال العملة الاثيوبية (البر) بصك عملة خاصة بها وسمتها (نقفة)( ) وبذلك تكون حكومة شعبية ارتريا خرجت عن توأمها وهو حكومة شعبية تجراي وهذا سبب مهم للحرب الذي حدث بين الشقيقين.

ثالثاً: رفضت اثيوبيا معادلة العملة الارترية "النفقة" بعملتها البر وأصرت أن تتم المبادلات بين الحكومتين بالدولار الأمريكي.

رابعاً: إن منفذ اثيوبيا التجاري والاقتصادي الخارجي يتم عبر مينائي عصب ومصوع على البحر الأحمر إلا أن اثيوبيا استغنت عن خدمات ارتريا المتمثلة بحركة الترانزيت الهائلة عير مينائي عصب ومصوع وهذا شكل ضربة كبيرة للاقتصاد الارتري.

خامساً: لجأت الحكومة الاثيوبية إلى استخدام ميناء جيبوتي لنقل بضائعها إلى بلادها. هنا اعتبرت ارتريا أن عمل الحكومة الاثيوبية هو (لوي) أذرعه بل تحطيم ارتريا اقتصادياً حيث أن القسم الكبير من موازنة الحكومة الارترية يؤخذ من حركة الترانزيت التي تتم عبر مينائي عصب ومصوع، ونتيجة لتعامل الحكومة الاثيوبية مع الحكومة الجيبوتية بدأت العلاقات تفتر ما بين ارتريا وجيبوتي، ومما أفقد ميزانية ارتريا المالية نصف مواردها تقريباً. هنا بدأ النظام في ارتريا بإقامة علاقات مع المعارضة الجيبوتية وذلك لزعزعة أمن جيبوتي.

سادساً: نتيجة لاستيراد البضائع من ميناء جيبوتي حصل تقارب سياسي اقتصادي بين البلدين الجارين اثيوبيا وجيبوتي كما انتعش قطار جيبوتي ديرداوة وبذلك تكون اثيوبيا خرجت من ارتهان اقتصادها من الموانئ الارترية، ثم تجسد التعاون الجيبوتي الاثيوبي بأن قبلت الحكومة الجيبوتية بأن تشغّل عناصر أمنية وموظفين من الجمارك الاثيوبية في أراضيها، وبرر الطرفان الجيبوتي والاثيوبي بالقول إن هذا التعاون قام من أجل مكافحة التهريب؟

سابعاً ـ الملح: انقطع الملح الارتري عن اثيوبيا، وبشكل أدق خنقت الحكومة الارترية إرساله عبر القنوات النظامية وأطلقت العنان للمهربين وذلك لإرهاق الحكومة الاثيوبية مما زاد سعر الملح بحدود خمس إضعاف سعره الأصلي علماً بأن الملح يستخرج من مناطق قريبة من مصوع وعصب.

ثامناً: ضاعفت الحكومة الارترية رسوم الميناء التي تتقاضاها.

تاسعاً: طردت الحكومة الارترية مئات الموظفين الاثيوبيين في الجمارك اللذين يعملون في مينائي عصب ومصوع وذلك رداً على الحكومة الاثيوبية الذي ضبطت حركة البضائع الداخلة إلى اثيوبيا.

عاشراً: اعتمدت الحكومة الارترية عملية جديدة خاصة بها وفي الوقت ذاته أعلن البنك الوطني الاثيوبي (وهو بنك اثيوبيا الوطني) وقف تعامله مع بنك (انترناشيونال هورن) هذا البنك الذي أنشئ في عاصمة اثيوبيا أديس أبابا، والسبب في ذلك هو ما صرح به مدير البنك قائلاً: إن عدداً من الأجانب يحملون جنسية إثيوبية يساهمون في البنك مساهمة كبيرة والمقصود بالأجانب هم الارتريون وهذا مخالف للقانون والعرف الاثيوبي.

هنا انتهى التفاهم وبدأ العمل على إزالة كل المساهمة الارترية في البنك. إلى غاية الآن الكلام طبيعي، لكن الموضوع الأهم هو التالي:-

إن مساهمة الأفراد الارتريين لم تكن مساهمة فردية مدفوعة بكسب مادي فقط فا الأمر أخطر من ذلك، إذ أن هؤلاء الأفراد كانوا ينفذون تعليمات جهاز الأمن الارتري، وإن المساهمة هي مساهمة الحكومة الارترية ممثلة بهؤلاء الأفراد بهدف إخراج النقد الاثيوبي بكميات كبيرة جداً وذلك عندما تريد الحكومة الارترية الضغط الاقتصادي على اثيوبيا.

حادي عشر: إن السلبيات التي غابت أيام شهر العسل بين الشعبيتين عادت مدعومة بالتناقضات الأساسية إلى الظهور بعد اختلاف على من سيرأس دولة تجراي تجرينيا، أي دولة الناطقين باللغة التجرينية أي أهل مرتفعات تجراي ممثلين بجبهة تحرير تجراي، ورئيسها ملس زيناوي رئيس وزراء اثيوبيا والطرف الآخر ممثل بعدد كبير من سكان الهضبة الارترية وممثلين بالجبهة الشعبية لتحرير ارتريا وبرئيس الجبهة الفعلي ورئيس الدولة السيد اسياس أفورقي.

إن الكثير من الاثيوبيين يعتبرون أن اثيوبيا هي الأم الحقيقية للقرن الإفريقي وخاصة قومية الأمهرا فهم غير راضون عن الاستقلال الارتري ويشعرون أن عضواً عزيزاً قد بتر من جسدهم، يشعرون بنوع من الخسارة الجسيمة لتخلي حكومتهم عن المحافظة الارترية وساحلها الحيوي الذي يبلغ طوله 1116 كم وهو المنفذ الوحيد لدولة اثيوبيا مع العلم أن حوالي 500 ألف إرتري يعيشون ويعملون في اثيوبيا ومن حق هؤلاء الارتريين الحصول على عمل في الحكومة والجيش أيضاً، في حين أن الحكومة الارترية أبعدت كثيراً من الاثيوبيين من أراضيها.

ثاني عشر ـ التيار المتشدد: إن رئيس وزراء اثيوبيا ملس الزيناوي هو الحاكم القوي داخل الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب اثيوبيا والتي تهيمن على البلاد، فالتيار المتشدد ضمن الجبهة الديمقراطية الاثيوبية يرفض رفضاً تاماً أن تستمر اثيوبيا بتقديم المعونات والتسهيلات الأمنية والعسكرية والتجارية والنقدية إلى ارتريا.

قاوم الرجل القوي في التنظيم هذه الضغوط، لكنه رضخ أخيراً أمام حقائق أساسية وهي أن الاستنزاف الارتري لموارد اثيوبيا يضر بالمصلحة الاقتصادية لاثيوبيا، عندها أوقف كل الامتيازات والتسهيلات الأمنية والعسكرية والاقتصادية، وهنا أقدمت السلطة في ارتريا إلى تضيق الخناق على اثيوبيا مما دفع العلاقة بين الشقيقين إلى القطيعة والحرب، هذه العلاقة التي كانت مبنية وقائمة على قرابة الدم والتاريخ المشترك لكلا الهضبتين، ومن جوار جغرافي، ورؤى سياسية ذات بعد واحد وهو إيجاد دولة جديدة.

طلاق الطبقة الاثنية:

إن وصول ملس الزيناوي أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير تجراي إلى السلطة بالقوة حكم أتوماتيكياً بالطلاق بين الاثنتين المتناحرتين فا اثنية السلطة القديمة المتمثلة بقومية الأمهرا والتي كانت تاريخياً مسيطرة على كافة قوميات الدولة الاثيوبية التي خرج منها الإمبراطور ماكنن هيلاسلاسي الذي سمى نفسه المسيح الأسود وحفيد الملك سليمان الحكيم والملكة ماكيندا بلقيس..

سقطت القومية الأمهرية التي حكمت 400 سنة وحلت مكانها القومية التجراوية وأمر طبيعي أن يتم الطلاق الاثني بين القوميتين المتناحرتين عبر التاريخ مع العلم أن اثيوبيا متعددة القوميات وهي على الشكل التالي:-

أ) الأرومو ـ وهي أكبر قومية حيث تشكل 40% من سكان اثيوبيا البالغ عددهم 60 مليون نسمة، ونسبة المسلمون بهم تبلغ 90%.
ب) الأمهرا والتجراي ـ 30% ونسبة المسلمون بهم مرتفعة.
ت) السيدامو ـ 9 % ونسبة المسلمين بهم عالية.
ث) العفر الدناكل ـ كلهم مسلمون.

وهناك بعض القوميات الصغيرة، وأكثرية شعوب هذه القوميات غير راضية عن استقلال ارتريا ولما كان حكم قومية التجراي يمثل أقلية في البلاد فإنها لا تستطيع أن تتجاهل مواقف القوميات الكبرى مثل الأورمو و الأمهرا.

حيث أن هاتين القوميتين غاضبتان حانقتان في الأصل على قومية التجراي وزاد غضبهما وحنقهما بعد أن منحت الجبهة الشعبية لتحرير تجراي ارتريا استقلالها، حيث ذهب معها الميناءان عصب ومصوع وهما مدخل اثيوبيا الموحدة.

ج) إن قوميات اثيوبيا الكبرى ترى أن البلاد ستبقى رهينة لارتريا إذا بقيت بلا منفذ بحري وهذا سيؤثر ويضعف الاقتصاد الاثيوبي على المدى القريب والبعيد هذه القوميات تكفر بحكومة قومية التجراي القليلة العدد، 10% نسبياً، لارتكابها الغلطة التاريخية الكبرى بفقدانها مدينتي عصب ومصوع الاستراتيجيتين.

ح) في السابق كانت قومية الأمهرا هي التي تقود البلاد حيث كان شعب قومية الأمهرا يشكلون العصب الحساس للدولة في الماضي، أما الآن فالمعادلة اختلفت فالقومية التجراوية القليلة العدد هي الحاكمة والأمرة الناهية، أي أن التجراويون هم الذين يقودون البلاد مدعومين من بلدان غربية وإقليمية معروفة.

فورقة دعم قومية الأمهرا سحبت منهم وسلمت إلى التجراويين أي تم استبدال قومية الأمهرا المتمثلة بالرئيس منغستوهيلامريام إلى قومية التجراويين والمتمثلة برئيس الوزراء ملس الزيناوي ولكن إلى متى ستبقى قومية الأمهرا مكفوفة اليد ومهمشة ؟

خ) إذن فقد الأمهرا السلطة وحل محلهم التجراويين، ومن الصعب أن تحافظ قومية التجراي على كيانها وتمسكها بالسلطة دون أن تتعاون مع بقية القوميات.

لأنه من المستحيل على الدولة الاثيوبية أن تحافظ على تماسكها بدون صيغة تضمن لشعوبها حقوقهم وسبب ذلك هو التركيبة الإثنية للحبشة حيث لا توجد لغة واحدة مشتركة تُوحِّد هذه القوميات، فلكل قومية لغتها ولهجاتها المتقاربة حيناً والمتباعدة أحياناً أخرى، إلا أن اللغة الأمهرية هي الرسمية والسائدة.

فالنظام التجراوي الحالي لم ينجح بعد مرور حوالي إحدى عشرة سنة على إسقاطه لنظام هيلامريام الأمهري القومية من بناء تكامل أو تقارب اثني لقوميات الأرومو والتجراي والعفر لمعاداة ومجابهة القومية الأمهرية ذات النفوذ القوي.

الى اللقاء... فى الحلقة القادمة

Top
X

Right Click

No Right Click