حرب الجياع - الحلقة الثانية
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
الفصــل الأول:
1. رفاق السلاح.
2. التدخل الأمريكي في أفريقيا.
3. التغيير في سياسة واشنطن.
4. من وثائق وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
5. عقد الثمانينات.
فــــاق الســــــلاح:
إن ارتريا أحدث أمة إفريقية تم تقديمها للمدينة في أفريقيا، إنها خالية من كل آفات الفساد، التي أصبحت شائعة في جميع أجزاء القارة / جيرالدين بروكس - كاتب في صحيفة وول ستريت جنرال.
تثير الحرب الارترية الاثيوبية الكثير من الأسى والشجن لأن الحرب بين النظامين هو مصدر الأسى والشجن لشعبي البلدين، إن الشيء المؤسف أن تحدث الحرب ورئيسا الدولتان هما شقيقان دون أن يكونا من أم وأب واحد فهما رئيسا الحركتين الحليفتين للشعبيتين في كلٍ من ارتريا واثيوبيا.
رئيس دولة اثيوبيا هو نفسه رئيس الجبهة الشعبية لتحرير تجراي، ورئيس دولة ارتريا هو نفسه رئيس الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا.
ماذا حدث بين رفاق سلاح الأمس، وصاحبي الأماني الكبيرة بإنشاء دولتهم الموعودة دولة تجراي تجرينيا.
هل يؤدي نزاع حدودي بين دولتين تعتبران بعضهما دولة واحدة إلى حرب طاحنة تأكل الأخضر واليابس؟!.
هل كان من الضروري الاحتكام إلى السلاح لحل النزاع الحدودي؟
إن استقلال ارتريا عن اثيوبيا بكل تاريخها وحجمها وموقعها الإفريقي وتحويلها إلى دولة سجينة ليس لها أي منفذ بحري، ومما لا شك به مطلقاً إن الاستقلال كان بفضل دماء أبناء ارتريا وسلاح العرب إلا أن تحالف الشقيقان الرئيسان، كان له دوره في منح ارتريا استقلالها من قبل القومية التجرينية.
إن الحدود التي يستند إليها الطرفان والخرائط التي يبرزانها هي من رسم وتخطيط القوى الاستعمارية الإيطالية والإنكليزية والفرنسية، هذه الخرائط تم إعدادها وفقاً لأطماع هذه الدول وقوة سطوتها وقدرتها على فرض مطالبها في هذا الجزء من إفريقيا. وهذه الخرائط تعتبر خرائط مأساوية وقد أدت إلى تقسيم هذه المنطقة الإفريقية، والمثال الحي والواضح لذلك هو الصومال الذي جُزّء إلى خمسة أقسام:
الأول: الصومال الإيطالي والإنكليزي: ومنه شكلت الجمهورية الصومالية.
الثاني: الصومال الإنكليزي: جمهورية أرض الصومال حالياً، بعد أن كان جزءاً من الجمهورية الصومالية.
الثالث: الصومال الفرنسي: دولة جيبيوتي.
الرابع: الصومال الحبشي: "أوغادين" أو الصومال الغربي الذي لا زال يرزح تحت نير الاستعمال الاثيوبي.
الخامس: الصومال الكيني: "أنفدي" والذي لا زال يرزح تحت الاستعمار الكيني أيضاً.
إن الحدود التي رسمها الاستعمار ليست شيئاً مقدساً أو شرعياً، إنها حدود استعمارية رسمتها وفرضتها دول استعمارية في وقت المد الاستعماري.
إن العقل والمنطق ورغبة أهالي البلدين من الممكن أن تحل وبشكل نهائي وحاسم مشكلة الحدود، فحينما قررت منظمة الوحدة الإفريقية في ميثاقها التزام كل الدول والأعضاء بالحدود الموروثة، وأكيد حدود استعمارية مغرضة في أغلب الأحيان.
لقد كان أكبر تجاوز لهذه الفقرة في ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية هو استقلال ارتريا ذاتها، لأن الإمبراطور هيلا سلاسي حين وقّع ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية كانت ارتريا جزءاً من اثيوبيا وكان ميثاق المنظمة يساند بالأصل الإمبراطور "هيلا سلاسي" وبعده نظام منغستو هيلامريام وذلك في رفض مناقشة القضية الارترية في أي محفل دولي وإقليمي من منطلق أنها مشكلة داخلية إثيوبية ولا يجوز لأي جهة التدخل فيها. ففي فترة النضال الطويل التي خاضها الشعب الارتري ضد سلطة وجيش هيلاسلاسي و منغستو هيلامريام.
لقد عرضت اليمن الديمقراطي ممثلة برؤسائها وكذلك الرئيس الجزائري الراحل "هواري بومدين" أن يقبل قادة الثورة، مبدأ الحكم الذاتي، ورفض هذا المبدأ كل إنسان ثوري شريف وكنت أنا معه في هذا الرفض. لقد تحالفت جبهة تحرير تجراي والجبهة الشعبية لتحرير ارتريا على النضال سوية لإسقاط نظام حكم "منغستو هيلامريام" ولولا هذا التحالف لتأخر إسقاط النظام الاثيوبي. وطبعاً هذا مع مساهمة عوامل أخرى منها انهيار الاتحاد السوفيتي الذي ساعد كثيراً في إنهاء نظام "منغستو هيلامريام" الماركسي.
لقد نال الارتريون استقلالهم وأقاموا دولتهم. واستعاد التجراويون سيطرتهم على اثيوبيا بعد 400 سنة من حكم قومية الأمهرا.
بعد استقلال ارتريا بوقت قصير وتحديداً في أول اجتماع لمنظمة الوحدة الإفريقية وبعد أن انضمت ارتريا إليها، وقف السيد الرئيس "أسياس أفورقي" ليعلن ويقول كلاماً لا اعرف ماذا اسميه أو بماذا أصفه، قال السيد أفورقي: (إن بلاده ارتريا تنضم للمنظمة كإطار إقليمي يضم الدول الإفريقية إلا أنه لا ينظر ولا يتوقع من هذا الانضمام أية فائدة لبلاده، فالمنظمة لم تقدم لارتريا شيئاً ولن تقدم، بل إن العكس صحيح فالمنظمة كانت تؤيد الموقف الاثيوبي الظالم الذي كان يحتل بلاده).
قال حينها المراقبون: (لا بأس فليتكلم الرئيس على كيفه فهو لا زال ثائراً يسمي الأمور بمسمياتها ولا يجامل في الحق، ولا ينافق) كما أن الرئيس "أفورقي" صرح في أكثر من مناسبة بأن ارتريا لن تنضم إلى جامعة الدول العربية قائلاً: (نحن لسنا عرباً نحن أفارقة، أفارقة فقط). حينها لم يعترض عليه أحد؟..
لقد فهمنا وعرفنا أن أصابع إسرائيل تلعب بالنظام الحاكم لارتريا، فإسرائيل حريصة كل الحرص ألا يكون البحر الأحمر بحيرة عربية كاملة. لقد تنكرت الشعبية الارترية لكل من دعمها خلال معركة التحرير والاستقلال وتنكرت لأصول وجذور أكثرية شعبها، ثم رفعت السلاح ضدهم، وضد رفاق السلاح وأبناء العمومة. هل هذه الأفعال هي من صلب النظام أم أنها معركة للبحث عن الهوية؟.
إنني لا أستطيع التخلي عن احترامي وحبي للشعب الارتري الذي عشت معه وعلى أرضه أثناء فترة النضال لأكثر من ثلاثين عاماً ومازلت معه. هنا يجدر الإشارة إلى أنه بعد سنوات من الإطاحة بحكم الرئيس "منغستو هيلامريام" الاشتراكي، تبدلت أوضاع الزعامات في كل من الجبهتين والتي أصبحت تشكل القيادات السياسية في كل من ارتريا واثيوبيا، إضافة إلى بعض التصرفات السياسية التي تمت دون تنسيق، الأمر الذي افقدهما لغة الحوار وأورد على ذلك بعض الأمثلة:-
أ) شكلت شعبية ارتريا السلطتين التشريعية والتنفيذية والهيكل الإداري للدولة في أبسط أشكالها معتمدة أساساً على المكتب السياسي للجبهة وبعض الشخصيات الارترية القريبة من السلطة بينما أخذت أو بالأحرى ورثت شعبية تجراي الدولة الاثيوبية بكل مؤسساتها وقومياتها المتعددة.
ب) تحول الجناح العسكري للشعبية الارترية إلى الجيش الارتري بينما أعيد تشكيل القوة العسكرية لشعبية تجراي في إطار القوات المسلحة والني تضم أفراداً من مختلف القوميات وقد ورثت شعبية التجراي كافة المعدات العسكرية الاثيوبية التي زوَّد بها الاتحاد السوفيتي السابق الجيش الاثيوبي إبان حكم الرئيس "منغسستوهيلامريام".
ت) أصبح الرئيس "ملس الزينادي" رئيساً لاثيوبيا بكل ثقلها الدولي والإقليمي بينما أصبح الرئيس "أسياس أفورقي" رئيساً لدولة صغيرة فقيرة الدخل، إلا أنه وضع نصب عينيه أن يأخذ دوراً يتشبه به بدولة إسرائيل.
ث) إن المنطقة المتنازع عليها لا تشكل أهمية لاثيوبيا فحسب بل إنها تهم الرئيس التجراوي "ملس الزيناوي" ذلك أن التجراويين بعد أن انتزعوا السلطة من أيدي الأمهرا لا يستطيعون التفريط في أي أرض تنتمي إلى التجراي حسب الخرائط الاستعمارية، وذلك بتأكيد ثقلهم القومي في الهضبة الاثيوبية في وجه أي محاولة أمهرية في المستقبل لاستعادة السلطة. علماً بأن الأمهرا متغلغلون في أجهزة ومؤسسات الدولة واقتصادها بشكل كبير، إن الأمر وإن اتخذ شكل خلاف إلا أنه في واقع الأمر مسألة تتعلق بين رفاق السلاح الذين يأتمرون من قبل مُعَلِمَيّن الأول أمريكا والثاني إسرائيل؟!!.
التدخل الأمريكي في إفريقيا:
نعيش الآن في عالم أحادي القطب تمثله أمريكا التي تتدخل بكل صغيرة وكبيرة وفي أي مكان من هذا العالم، سابقاً تدخلت في إفريقيا لكنها الآن اندفعت بقوة أكثر نحو القارة السمراء بعد أن بدأت السياسة العسكرية والاقتصادية الإنكليزية والفرنسية في أخذ طريقها نحو الاضمحلال. إن زيارة الرئيس الأمريكي السابقة بيل كلينتون لعدد من الدول الإفريقية تعتبر الضوء الأخضر للإدارة الأمريكية بالتدخل في هذه القارة.
قبل شهرين من بداية الحرب الاثيوبية الارترية منح الرئيس الأمريكي "بيل كلينتون" دعمه لارتريا واثيوبيا من خلال جولته الإفريقية حيث وصف النظامين المذكورين بأنهما من أفضل الأنظمة التي تسعى للتطور ثم وصف كلينتون الدولتين بأنهما من الدول التي تشهد نهضة إفريقية جديدة؟.
منذ الأربعينات كانت الحبشة تمثل العمق الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية. وكانت واشنطن تتخذ منها نقطة الانطلاق للسيطرة على الدول الإفريقية عامة وعلى دول القرن الإفريقي بشكل خاص حيث كان الكثير من دول القارة الإفريقية تحت النفوذ الأوربي، وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت أمريكا في تصميم وإقامة بنية تحتية لاثيوبيا وفق المعايير التالية:-
1. إقامة برلمان على نظام الطراز الغربي.
2. دعمت وحاولت تطوير الجيش.
3. فتحت المجال وساعدت الكنائس على التغلغل بين الشعب الاثيوبي ذي الأكثرية المسلمة.
فما بين عامي 1952 إلى 1976 قدمت الولايات المتحدة أضخم المعونات إلى اثيوبيا واشتملت تلك المعونات على أول دفعة من الطائرات المقاتلة "السوبر سونيك" وبهذا تكون اثيوبيا أول دولة في إفريقيا تدخلها طائرات مقاتلة أسرع من الصوت.. مقابل هذا وفرت اثيوبيا لأمريكا جنوداً مقاتلين للعمليات العسكرية الأمريكية التي خاضتها في كل من /كوريا والكونغو، ثم قامت اثيوبيا بمنح الولايات المتحدة قواعد عسكرية للبحرية الأمريكية في ميناء مصوع ومقر قيادة في العاصمة الارترية أسمرا وذلك لإدارة النواحي الاستخبارية وهنا قامت أمريكا بإنشاء أكبر مقراً استخبارتياً أمريكياً في العالم عبر البحار حيث عرف باسم كانيو ستيشن أثناء هذا التواجد الضخم تفاقمت الحرب التحريرية التي يشنها ويديرها ضباط وصف ضباط وجنود إرتريون تلقوا تدريباتهم في سوريا والعراق. هنا أرسلت أمريكا قوات خاصة لتدريب الاثيوبيين على فنون القتال، كما أرسلت إسرائيل أيضاً أسلحة وخبراء لاثيوبيا لدعمها ضد الثوار الارتريين المدعومين من العرب والمسلمين فقط.
إن التدخل الأمريكي في إفريقيا له تاريخ طويل وحافل. ومن الممكن تحديد بعض مراحله، فبعد مؤتمر برلين الذي وزعت فيه المستعمرات على الدول الكبرى. وبعد نهاية الاستعمار في شكله التقليدي من حرب وجيوش إلى شكله الجديد من التدخل الاقتصادي الأمني. وإذا نظرنا وأمعنا النظر نرى أن نهاية الاستعمار التقليدية لم تضع حداً للتدخل في الشؤون الداخلية للقارة السمراء بل أصبح رهاناً سياسياً خلال سنين الحرب الباردة. فمنذ نهاية الحرب الباردة ظهر شكل جديد من التدخل تحت غطاء الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية، وإن ما رافق نهاية الحرب الباردة من التحولات والتبدلات التي عرفها المعسكر الاشتراكي، دفع إلى إقامة نظام عالمي جديد يصيغ الأسس التشريعية لحق التدخل وهذا ما تقوم به أمريكا الآن. إنها المهيمنة على القوة المحلية والإقليمية والعالمية أيضاً، وهذا ما يشكل تحدياً خطيراً للعالم ولمنظمة الأمم المتحدة، هذه المنظمة التي يساير معظم أعضائها أمريكا باستثناء بعض دول العالم الذين تتهمهم أمريكا بأنهم إرهابيون ويخفون الإرهابيين في بلدانهم.
أصبحت الأمم المتحدة أداة طيعة في يد أمريكا صاحبة النظام العالمي الجديد، هذه المسايرة أجبرت معظم دول العالم إلى خدمتها. وصار على الدول المستضعفة أن تبحث عن بديل لمواجهة الاستبداد والغطرسة، وأن تبحث عن نهج بديل لمواجهة الموقف والدفاع عن سيادتها.
وكثير من الأنظمة تتأثر بدعوى الأخلاق والإحسان فتطلب من أمريكا التدخل لإنقاذ وضع ما والأغلب تطلب التدخل لإنقاذ نظامها.
إن سلوك وحوافز الذين يتحدثون عن حق التدخل أو يمارسونه ليست بريئة وإن أي تدخل أمريكي هو عمل شائن فيه نهاية ومذلة للإنسان وللدولة الطالبة، إنهم يلجؤون في الغالب إلى التدخلات بوحي من الأغراض السياسية والاستراتيجية للهيمنة ومهما كانت المبررات التي تعطى للتدخل فإنه أمر غير مشروع مطلقاً.
إن التدخل في الماضي والحاضر والمستقبل يستهدف فقط الدول المستضعفة ومنها الدول الإفريقية وكذلك الشعوب والبلدان التي تنادي بحقها في تقرير المصير، كفلسطين وجامو وكشمير والشيشان، وبعض دول امريكا اللاتينية، فظاهرة النمو التي تظهر في المستعمرات القديمة مصدر تخوف للاستعمار الجديد لدرجة أن أحد رموز الصهيونية وهو "شمعون بيريز" دعى إلى تسليط الأوبئة الفتاكة كالطاعون على الشعوب العربية والمستعمرات القديمة في إفريقيا، كل ذلك لوقف عجلة النمو في هذه المستعمرات التي تمردت! هكذا يتجلى واجب التدخل من خلال سلوكيات وممارسات الاستعمار الجديد الذي يشكل خرقاً للحقوق والمعايير، ولو غلف هذا التدخل بدعاوى ومبررات إنسانية.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة