حجي جابر يكتب سيرة عشق مستحيل في رامبو الحبشي
بقلم الأستاذ: علي عطا المصدر: اندبندنت عربية
صاحب "الإشراقات" يسمي نفسه "عبد ربه" وفي هرر يختبر الحب والقات والتجارة.
تتضمن أحداث رواية الكاتب الإريتري حجي جابر الجديدة "رامبو الحبشي" (مكتبة "تنمية" ومنشورات "تكوين")، ثلاث شخصيات رئيسة تدور في فلك الحب المستحيل، بما يجلبه من تعاسة وشقاء، أكثر مما يمنح مِن لحظات السعادة والهناء.
العنوان يحيل إلى الشاعر الفرنسي أرتور رامبو، وتحديداً خلال سنوات عمره الأخيرة التي قضى معظمها في مدينة هرر الإثيوبية. لكن متن العمل تحتله فتاة هررية يُفترض أنها رافقته في تلك السنوات التي عُرِف فيها في هرر باسم "عبد ربه"، وهامت به عشقاً لم يبادلها بمثله. بينما يطل ثالثهما عبر سرد الفتاة نفسها وراو عليم، لنعرف أنه لطالما حاول استمالتها عاطفياً من دون جدوى إلى أن يتعرف إلى رامبو ويصبح خادمه وعشيقه في الوقت ذاته. وبحسب ما جاء على ظهر غلاف الرواية، يسعى حجي جابر إلى إعادة الاعتبار لامرأة هررية (تدعى ألماز) رافقت آرتور رامبو في سنواته الأخيرة في الحبشة، من دون أن يأتي الشاعر الفرنسي على ذكرها بكلمة واحدة في رسائله الكثيرة إلى أمه وشقيقته، ولتسقط بذلك من كتب التاريخ.
يمنح حجي الهررية اسماً وتاريخاً وذاكرة ويمنحنا بالتالي فرصة لرؤية رامبو من وجهة نظر الأحباش، وكأنه بذلك يقلب الصورة فيزيح رامبو إلى الهامش ويجلب العشيقة إلى متن الحكاية، عبر سرد بعض ما جرى والكثير مما لم يحدث. إضافة إلى قصص الحب المبتورة ومسارات الحكاية المتداخلة زمنياً، يتناول النص هرر، مدينة البن والقات؛ وكان يحرم على غير المسلمين دخولها، وتنسج حولها الحكايات التي أغرت الرحالة من كل مكان، في وقت كانت القوى الكبرى تعيد تشكيل منطقة القرن الأفريقي.
كان رامبو في تلك الأثناء قد انقطع عن كتابة الشعر، وتفرغ للتجارة والترحال، وبات الناس في هرر ينادونه "عبد ربه"؛ معتقدين أنه تحوّل إلى الإسلام بعدما تعلم اللغتين العربية والأمهرية وحفظ الكثير من آيات القرآن، بل وكان يخضعها لتفسيره الخاص. "عبد ربه"، "وإن لم ينطق بالشهادة ويحضر الجماعة، فقد ذهب - بحسب الراوي العليم - بعيداً في معرفة الدين، والناس كانوا بين ظان أنه يكتم إيمانه، وبين من يرجو ذلك" (الرواية ص108).
في سبيل الفردوس:
ويمكننا القول إن رامبو في هذه الرواية التي يتصدر كل فصل من فصولها الـ21 مقطع من شعره (بترجمة الشاعر كاظم جهاد) لا يتصدر الاهتمام بقدر ما تتصدره المرأة الحبشية التي تعذبت كثيراً في حبه من دون أن يبادلها الحب. علماً أنها ربما لم توجد أبداً، سوى في خيال حجي جابر، الذي أجاد رسم شخصيتها ومعاناتها الممتدة منذ طفولتها. فهي لم تعرف لها أباً بينما كانت أمها المسيحية تنفرها من جسدها خوفاً عليها من الوقوع في الخطيئة، وتقف في طريق حلمها المتمثل في ترك السهل الذي تعيش فيه واجتياز السور الذي يفصله عن هرر التي كانت في مخيلتها بمثابة الفردوس.
اسمها "ألماز"، والسرد يبدأ من نهاية سنوات رامبو في هرر حيث أصيب بسرطان أتلف رجله قبل أن ينتشر في بقية جسده، حتى أنه لم يجد سبيلاً للنجاة من علته التي أنهكته تماماً سوى العودة إلى فرنسا، التي فرّ منها أصلاً ليعيش في ترحال بلا انتهاء. وهي العودة التي أعقبها موتُه عن عمر ناهز الـ37 سنة، متأثراً بالمرض الخبيث الذي كان قد استشرى، بعد بتر ساقه، في سائر جسده.
طابع تأريخي:
السرد يتناوب عليه راو عليم مع "ألماز" نفسها، ويُكسب الرواية طابعاً تأريخياً لتلك الحقبة الزمنية من ثمانينيات القرن التاسع عشر، حين كانت تعيش في هرر قبائل موالية لإيطاليا وأخرى تمدها فرنسا بالسلاح نكاية في الإيطاليين. وكان هناك أيضاً متعاطفون دينياً مع الأتراك وهم يشهدون انحسار وجودهم الأفريقي، إلى أن يتمكن قائد حبشي يدعى "مينلك" من اقتحامها وتحويل مسجدها الكبير إلى كنيسة، وينهي أسطورتها تماماً، مفسحاً المجال لكثير من الرحالة والمستكشفين والمبشرين الأوروبيين لدخولها من دون إخفاء هويتهم الدينية، سواء كانت مسيحية أو يهودية.
"ألماز"؛ بائعة القات، ما إن تنجح في اجتياز الأسوار الحصينة، متظاهرة بأنها مسلمة، سرعان ما تتعرف إلى رامبو الذي أبدى تجاهها في البداية ما اعتقدت أنه اهتمام بها، حين كان يجالسها في السوق محاولاً أن يتعلم منها الطريقة الصحيحة لتخزين القات، في إطار حرصه على التشبه بأهل البلد ليستثمر ذلك في العيش بينهم بسلام يشمله هو وتجارته في الآن ذاته.
كان رامبو يتخذ من الطابق الثاني لمبنى فرع شركة "باردي" منزلاً له، وجعل الطابق الأرضي مخزناً للحبوب. تخلى عن مترجمه وأخذ يلتقط الأمهرية من الشوارع. إيزابيل شقيقته ذهبت إلى هرر بعد أعوام من وفاته بحثاً عن الخادم "جامي" لتعطيه نصيبه من تركة رامبو، بحسب الراوي العليم الذي يلاحظ استغراب "ألماز" في بداية استقرارها في هرر مما للقات "من قدسية لمتناوليه، بينما يقابَل العمل في حقوله التي تزدهر طوال العام بالاستنكاف" (ص50).
ويلاحظ القارئ أن سرد "ألماز" يأتي دائماً بين مزدوجين، وكأنما أراد حجي جابر أن يقول إن ذلك السرد تركته الفتاة التي تجيد الأمهرية بطبيعة الحال، وعلّمها رامبو الفرنسية، بعدما قررت كتابة حكايتها التي لم ينتبه إليها؛ لا رامبو ولا كاتبو سيرته. تتداخل الأزمنة والأماكن عبر تقاطع السردين اللذين لم نلحظ تفاوتاً بينهما ولو في مستوى اللغة على الأقل. تلاحظ "ألماز" في معرض تبريرها لا مبالاة رامبو بها أن الأخير "يستخدم الأشياء لمرة واحدة، حتى لو كانت حكاية آسرة". ومن بين ما كتبته بعد رحيل رامبو عن هرر نهائياً: "لم يقل شيئاً عني في رسائله؛ لأني لا شيء عنده" (ص55). بينما يتوقف الراوي العليم عند أن الهرريين "أصبحوا ينادونه "عبد ربه" معتقدين أنه أسلم وحسُن إسلامُه، تعلّم العربية، امتنع عن شرب الخمر، حفظ سوراً من القرآن، بل غدا يعلمها للصبية".
الخلاص المستحيل:
تكتب "ألماز": "كنتُ أبحث عن الخلاص على يد رامبو. خلاص من هرر التي وجدتُها، إلى هرر التي أردتُها. أعادني رامبو؛ وليس هرر، بعد هذه الطريق الطويلة إلى حيث بدأت". ويقول الراوي: "هل تعيد الفتاة من حيث لا تدري سيرة رامبو؟ تلك الغشاوة اللذيذة من السهو، من الانشغال به عن الحياة، وذلك الاستغراق الموجع غالباً من دون رغبة في الفكاك منه. لكن رامبو تيقّظ في منتصف المشوار وسلك درباً آخر، مرغماً أو مختاراً، فيما بلغت ألماز نهاية الطريق حتى تنتبه، ولعلها لم تفعل". (ص 106-107).
"جامي" انضم إلى جيش مينلك، ملك شوا، الذي كان يسعى لتوحيد الحبشة، فيما رامبو يبيع له السلاح سراً بثمن بخس ليدك به هرر. بالتالي نحن هنا أمام شخص مغاير إلى حد كبير لذلك الشاعر الحداثي الفذ. تنشغل الرواية برسم صورة منفرة له، لكنها تجلب في الوقت نفسه تعاطفاً ما تجاه مصيره المأسوي، وهو ما سبق أن عرفناه في غير عمل تناول سيرة رامبو، خصوصاً حياته ما بين هرر وعدن... "بقدر ما كان موجوعاً من خسارته الفادحة، وتبدد أحلام الثراء السريع، استقر في يقينه أنه لم يكن يوماً أهلاً للتجارة، فشراكته في بيع الحبوب، انتهت إلى خصام وافتراق، والبن الذي يتلذذ به لم يطاوعه ويعمر جيوبه بالتالرات (عملة محلية) كما كان يتمنى. وها هي تجارة السلاح التي كان كل شيء مواتياً لتكون طوق نجاة من الشقاء الذي يلازمه، ترتد كحجر ضخم يكاد يقتله" (ص120).
بذلك السلاح وبغيره، قتل مينلك أفراد الحامية المصرية في هرر وارتكب مذبحة أودت بعدد كبير من أهلها العُزل، فيما نجت "ألماز" بعدما لاحظ أحد الجنود الصليب منقوشاً على جبينها، بينما هلكت صديقتها "كلثوم" بلا جريرة ارتكبتها. وبات "جامي" قادراً على اقتحام حياة "ألماز" مجدداً، وهو موزّع بين رغبته في الانتقام منها لصدها إياه، والأمل في أن يتمكن هذه المرة من إقناعها بالزواج منه. لكن سرعان ما ينسى "جامي" الرغبة والأمل معاً، بعد أن يوقعه رامبو في شِباك علاقة مثلية معه، تعيد إلى الأذهان، علاقة رامبو بالشاعر بول فيرلين.
وفي الختام، وبحسب الراوي العليم فإنه "حين يغمض رامبو عينيه للمرة الأخيرة، سيكون جامي هائماً على وجهه بحيث يتعذر الوصول إليه لينال نصيبه من تركة سيده. وسيكون مر وقت طويل على توقف ألماز فجأة عن الالتفات خلفها، فكفت عن الكتابة، وتركت كل شيء على حاله؛ القلم والدواة وفناجين القهوة المملوءة عن آخرها، وبخطى بطيئة لكن شديدة العزم، اتجهت صوب الباب، وغادرت البيت والمدينة بأسرها إلى وجهة غير معلومة".