الزمن والزمان في رواية فريجُ المُرر

بقلم الأستاذ: زياد مبارك - كاتب سوداني  المصدر: ساسة بوست

رواية (فريجُ المُرر) لمؤلفها حامد الناظر؛ أدلف إليها بين الزمن والزمان بقراءةٍ في البناء والتشكيل الزمني.

رواية فريج المرر 

الزمن «بمعناه اللغوي في الحقل الدلالي الذي تحتفظ به اللغة العربية وهو مندمجٌ في الحدث، متداخلٌ معه مثله مثل المكان الذي يتداخل مع المُتمكِّن فيه»، والزمان بمعناه الفلسفي الذي يمثل ما تحمله تجربة التواتر والتكرار في أبديةٍ لتعاقب الأحداث، والميلاد والموت، والليل والنهار.

الزمن يمثل عنصرًا يقوم عليه هيكل البناء السردي، لكن حامد الناظر يلتقطه كلازمة زمنية تحمل دلالات ينثرها بإيقاعية رمزية ليعبِّر عن شخصيات ومواقف مرتبطة بفريج المرر المكان، ومرتبطة بالزمان اللا منظور ليعيد استرجاعه عبر ذهنيات شخصيات فريج المرر وينقله إلى حالة ترهين في الحاضر تؤسس للآتي، للحلم الذي صار مطاردًا يحمل خصائص التهمة في الحاضر.

فريج المرر تعقّد الجدلية التي تناقش الرواية من حيث هل هي مصاغة في الزمن أم أن الزمن هو ما يصاغ فيها، ليزيدها جدلًا وتعقيدًا؟ تقدِّم الرواية المزاوجة بين حاضر الشخصيات وماضيها وتبعثر هذه المزاوجة نحو: الموت، والأفول، واستشراف الآتي. ونحو المجهول أيضًا كما وود في الفصل قبل الأخير على لسان الطيب: «منذ أن عدت من أديس أبابا، بدا لي فريج المرر مختلفًا، كما لو كان جدارًا شاهقًا بين الناس وماضيهم، أمانًا منه، من يدخله ينبغي أن يخلع تاريخه، ذاكرته، وينفض على عتباته نعليه من أيامه السالفة».

ومع اجتثاث الماضي فحتمًا لا حاضر يُحرِّض نحو مستقبلٍ غير المجهول والضباب، إنه الزمن حين يتهيأ في ملامح كابوس عبثي صنعه الزمن الذاتي لا الزمن المُقاس بعقارب الساعة ولا الزمان بحمولته الحضارية، وإنما الزمن الذي تصنعه الذات بنفسية تسقط تجاربها وواقعها داخلها لتتفاعل وتنتج حالة راهنة تصنع القطيعة مع الماضي القريب والبعيد وتمضي نحو اللاشيء. وتقدِّم الرواية تماهي الزمن الذاتي للشخصيات مع الزمن الجمعي وتؤسس لهذه المفارقة عبر حكايات تولدّت من (مقهى الزمن) في مفارقة ساخرة.

يفضِّل حمد المُري الصمت، ويقرر الطيب في الفقرة الأخيرة من الرواية الصمت أيضًا، ويسم المكان نفسه بالصمت: «عاد الصمت إلى فريج المرر، كأنه مقبرة، غدًا سيُبعث ليبدأ يومًا جديدًا بوجوهٍ جديدة، بحكايات أُخرى. سأنتظرها لأسمع، وأسمع فقط». كأن حامد الناظر يضبط إيقاع المكان بما يحتويه من حكايات وشخصيات على إيقاع الزمن الذي حطّم شخصيات روايته، وأزاحها، ليأتي بأخرى.

تبدأ فريج المرر من البداية بشرح علاقة المكان بالزمن، وباللحظة التي لا تعني غير أنها لحظة راهنة. تبدأ بحوارية بين الراوي والمكان: «هل يمكن أن تكون اللحظة الصغيرة الضئيلة شيئًا ذا وزن؟ شيئًا مهمًا إلى هذا الحد؟ قد يجيب المكان (نعم) اللحظة هنا كل شيء، كيانٌ حقيقي له هُويّة، له شكل ملامح واضحة، بل وقادر على التأثير في مجريات الأمور بطريقة غامضة». وهي تبدو محاولة أنسنة بنقل الزمن الشيء إلى حالة عاقلة تواصل طرقها الإيقاعي في السرد كلازمة زمنية تؤثر بدور البطولة في كافة عناصر الرواية، وأولها المكان الذي أسند حامد الناظر إليه الإجابة بنعم، احتمالاً.

تشكَّل الزمن السردي في الرواية في بناء تتابعي، متخذًا خطيّته المميزة بالأحداث التي تحكمها السببية والمنطقية بحيث يقود الحدث إلى الذي يليه وهكذا، وهي خطية/ الماضي، الحاضر، المستقبل؛ التتابعية. كان هذا الشكل الأبرز في الأحداث التي تتسرب في زمن الطيب بطل الرواية. تداخلت عدة أشكال أيضًا مثل البناء الدائري، حيث يدور نصف الرواية الأول في حلقة تعيد نفسها بمراوحة الطيب في المقاهي وجلسات القهوة والتعارف بالفتيات الإثيوبيات. مع إبطاء لسرعة السرد بالمشاهد والمونولوج الداخلي في استرجاع إيلسا ومجنون ليلى لحياتهما السابقة بشكل تزامني مما كسر دائرية الزمن إلى حد ما بفتح مصاريع لنوافذ الماضي. بينما يتسارع الزمن في النصف الثاني. ويمكن اعتبار أن هذا التشكيل الزمني في شكله العام متشظّيا يبدأ بإماطة الستار عن وقائع ماضية جرت للشخصيات ويضع هذا الماضي مجرداً من وقائعه لا من آثاره في مواجهة الحاضر ليقطّر جدليات تشير إلى الذاتي والتغريبي والواقعي والحضاري.

من خلال تأسيس ورسم أشبه بوضع سن برجل ورسم دائرة قام حامد الناظر بتبئير رؤيته السردية للزمن في بداية الرواية. وقلَّص حقل الرؤية عند الراوي في رؤيتين للزمن، أو وجهتي نظر، أو بؤرتين؛ وهما رؤية إيلسا التي تنظر إلى أن خير وسيلة للهروب من الماضي هي بالتفكير فيه، فعاشت في حاضرها فجائع سنواتها الخالية. ورؤية أستير أن الماضي هو الغد بصورة من الصور، وأنه طاقة خفية متجددة تشحن التاريخ وتحرِّك أحداث الحاضر في إطار الماضي، وتؤكد أن المستقبل ما هو إلا حقبة من ماضٍ ما.

وعبر شخصية أستير طالبة التاريخ يوّجه حامد الناظر شراع السرد نحو حِقب الزمان القديم ليبحر في فلسفة تاريخية تقول إن تلك الأزمنة ما هي إلا مجموع كثيف من لحظات زمنية ضئيلة اتسعت لتحمل حضارات مؤثرة. وصارت أستير مناضلة متهمة ومطاردة لأجل بحثها التاريخي الذي تؤكد فيه أن الحاضر سوف يمضي ضمن أوجه ماضية ليشكِّل واحد منها المستقبل وهو ما يرفضه الحاضر، أو حاكم الحاضر.

المفارقات الزمنية ماثلة بين ثنائية الاسترجاع بشكليه الخارجي والداخلي، والاستباق بتوقع وانتظار القارئ لحدث ما، مثل حكاية الطيب لقصة حبه التي لم يحكها إلى آخر الرواية رغم استنطاقه للحكايات من شخصيات مقهى الزمن. وحاضرة أيضًا في ثنائية الحاضر مع الماضي القريب، فترة حكم هيلاسيلاسي، الفترة التي كان يُنادى فيها على الحمالين (عرب.. عرب.. عرب). ومع الماضي الموغل في التاريخ في إطار مقارنة حضارية تستنهض حكم أكسوم وملوك السلالات السليمانية.

استدعى حامد الناظر عبر شخصية عابرة لحبشي التقاه الطيب في فندق في أديس أبابا معلومة عن نقوس (النجاشي) وهو اللقب الذي يحمله ملوك مملكة أكسوم، تفيد أن العرب كانوا يجبون خراج أرضهم وأنعامهم لصالحه. وهذه معلومة خاطئة لم يحفظها التاريخ. فمعروف أن أبرهة لم ينصع له العرب حين بنى كنيسته في صنعاء. وبعد هلاكه بعقود قليلة استولى سيف بن ذي يزن الحميري على اليمن ودحر منها الأحباش، وزاره وفد من قريش بينهم عبد المطلب بن هاشم. والثابت هو تقديم الهدايا للنجاشي ليردّ المهاجرين الأوائل إلى قريش.

في تشكيل الزمن يلاحظ صنع صدفتين مرتبطتين بشخصية بيتي وبناء الأحداث عليهما. الأولى التقاء الطيب ببيتي زوجة جيمي الذي يجالسه في قهوة سوق الزمن، أثناء مروره أمام أحد المحلات الذي تعمل فيه وتروج بضاعته للمارة. والثانية حين التقاها وزوجها في أديس أبابا في سهرة مع حمد المري بمسرح ما. والصدفتان غير منطقيتين معًا، وخصوصًا الثانية حيث يقابلها في دولة جاءها مع المري لأيام قليلة ليجدها في وسط تعداد سكاني يصل إلى مائة مليون نسمة، وفي أمسية صادفت ميلاد ابنها الذي كانت وزوجها يحتفلان بمناسبته في المسرح. هذا غير ما رافق شخصية بيتي من أحداث تتنافر مع المنطق: ممارسة الطيب الجنس معها في أديس أبابا وهي التي كان يعتبرها ابنته، ومسامحته لها ولزوجها وهما من سرقا ماله بل وزيارتهما واعتبارهما صديقين. شخصية بيتي وما ارتبط بها من أحداث خفضت جميعها قيمة العمل الفنية.

تحمل الرواية ملامح السرد الما بعد حداثي الذي نهض بالتجريب خارجًا على ما أسسته مدرسة الرواية الحداثية. فبينما «يبحث أدب الحداثة عن القيم والمعاني في عالم الفوضى مما يفسر نزوع المبدع نحو تحقيق الوحدة والانسجام والبحث عن الجمال وإعادة إنتاجه من خلال العملية الإبداعية، لكنه من ناحية أخرى يعيش صراعًا وجوديًّا ومعاناة داخلية جراء التوتر الناتج من المغايرة بين العالم الداخلي المنسجم والخارجي العبثي المتشتت. فيأتي أدب ما بعد الحداثة لينكر المعنى في ذلك العالم العبثي، لأن الانسجام الذي يتطلع إليه الحداثي لا يكون مع تقرير المعنى وحضوره، وإنما يكون في غيابه وتشظيه، إذ لا وجود لمعنى حقيقي أو طبيعي. وفي هذا السياق يزعم برايان ماكهال أن الأسلوب المهيمن على أدب ما بعد الحداثة يتضمن شكًا وجوديًّا حيال الطبيعة المتناقضة للعالم الذي يعرضه النص».

تمثل رواية فريج المرير استعارة لحالة اختلال ما يتعذر معها تحديد من أية أوضاع في العالم الواقعي استمدت، أو من أي معيار لسلامة العقل يمكن القول أنها تنطلق منه كما يقول نقاد روايات ما بعد الحداثة. عرضت الرواية جزءًا مبتورًا للمكان الذي يعج بالوافدين في واقعه، أما في متخيّله فهو لم يكترث بهذه الفسيفساء العرقية خارج العرقية الحبشية في اصطلاحها القديم. تميّزت الرواية بلغة ناضجة جدًا، شعرية ووصفية دقيقة. شكرًا لحامد الناظر على هذه الرواية الأنيقة.

Top
X

Right Click

No Right Click