الشهيد هنقلا القائد الأمين والإنسان النبيل قراءة أولية
بقلم الأستاذ: أبوبكر علي عثمان المصدر: عدوليس
ترك الشهيد القائد إدريس هنقلا انجازآ استثنائيا غير مسبوق للمكتبة الاريترية عبر كتابه الموسوم
"كفاحي فى حرب التحرير الاريترية" الصادر مؤخرا عن دار الآثار للنشر والتوزيع بالقاهرة فى نيف وأربعمائة صفحة. يقوم الكتاب على يوميات كُتبت بشكل راتب ويومي منذ ٣١ يناير عام ١٩٧٧م وحتى تاريخ إستشهاده فى العشرين من سبتمبر عام ١٩٨٥م. وأول ما يثير إنتباه القارئ للكتاب هذه المنهجية الصارمة فى كتابة اليوميات وطريقة عرض الوقائع والأحداث، مما ينم عن إيمان عميق ووعي راسخ بقيمتها وأهميتها لدى صاحبها منذ بداية تصوره لمشروعه التوثيقي، هذا اذا لا تحس ابدا فتوره وقلة همته لها مهما كانت الظروف المحيطة به أو تعقيدات الواقع وتحدياته.
احتوى الكتاب على اليوميات التي وثقها الشهيد هنقلا ابتداءآ من ٣١ يناير 1977 وحتى أكتوبر ١٩٨٢م، أما ما تبقى من اليوميات فلا زالت غير متوفرة للأسرة الكريمة كما جاء فى تصدير أسرة الشهيد هنقلا للكتاب، ومن هنا اضم صوتى لصوت الأسرة التي حافظت طيلة هذه الفترة على هذه الوثيقة المتميزة بأن يتم مساعدتهم للحصول على ما تبقى من هذه اليوميات حتى ترى النور وتتمكن الاجيال الحديثة من الاطلاع على وقائع وأحداث تاريخية مهمة في مسيرة الثورة الاريترية عامة وجبهة التحرير الاريترية خاصة.
من أبرز مايميز هذه اليوميات ويضفى عليها قدرآ كبير من الخصوصية والحيوية أنها تغطي مرحلة حساسة ومفصلية فى تجربة جبهة التحرير الاريترية، حيث القاعدة العريضة و الانتشار الواسع على امتداد إريتريا بر وبحرآ، وتحرير كامل الريف الاريترى ومعظم المدن الاريترية وتعاظم الأمال بتحرير ما كان متبقيا منها فى ذلك الوقت، كما شهدت نفس الفترة التراجع والانسحاب ثم الانكسار والانهيار الكامل لتنظيم وطني عريض أسس ثورة شعبة، و صنع مجده وانتصاراته بدماء وتضحيات مناضليه ومعاناتهم. ورغم تبدل الظروف والمعطيات، لم يفقد الشهيد رباطة جأشه وحرصه على تسجيل الوقائع التي شارك فيها بأمانة ودقة فائقة تثير الاعجاب والتقدير على هذا الوعي المبكر بأهمية هذا النمط من أشكال التوثيق اليومي ليوميات مقاتل وقائد لجوانب من تجربة ثورة، وتنظيم تحمل أعباء المواجهة والنضال فى فترات عصيبة من نضالنا الوطني.
يتضح من مجريات الأحداث والوقائع التى تضمنها الكتاب أنها كتبت فى وقت حدوثها أو قريب من ذلك حيث تحتشد الذاكرة بالتفاصيل والمعطيات المحيطة بالحدث مما يخلق حالة شعورية وتوقد ذهني يرجح معها الإلمام بكافة تفاصيل المشهد وتداعياته، مما يحول دون تأثير التباعد الزمني بين الحدث ولحظة تدوينه مما قد يؤدي إلى تلوين ذلك الحدث أو تقويض معطياته بفعل ضعف الذاكرة أو تحولات الزمن وتقلبات ظروفه. إلا أن الشهيد هنقلا اظهر قدرة هائلة على عزل هذه العناصر من خلال حرصه على تسجيل يومياته بشكل منتظم يحافظ على التسلسل الزمني ولا يترك فجوات زمنية مهما كانت ضآلة أحداثها أو طبيعتها الشخصية أو الأسرية أو الإشارة بأنه كان يوما عاديا تخلله بعض الأعمال الإدارية اليومية وكأنه يقدم بذلك تقريرا يوميا لكل نشاطاته اليومية للشعب الذي كرس من أجله حياته.
يكتفي الشهيد هنقلا بتسجيل الوقائع والأحداث وفق تسلسلها الزمني دون شحنها بمشاعره وانفعالاته الخاصة تجاه الأفراد أو الظروف المحيطة بها بأقصى درجات ماهو ممكن من عزل الذاتي عن العام، حيث يعزف بشكل مقصود على ما يبدو عن الإفصاح عن مواقفه وملاحظاته الشخصية مكتفيا بتسجيل الحدث دون تعليق ألا في حالات خاصة تتعلق بتقييم جماعى لمعركة ما او جلسات ونقاشات ذات طبيعة عامة. وربما يعود هذا إلى طبيعة تكوينه العسكري وحسه الامني المرتبط بذلك، خاصة وأن هذه اليوميات كتبت فى الميدان تحت هدير المدافع ولهيب المعارك وغارات الطائرات مما يزيد من احتمالات الإستشهاد فى اية لحظة الأمر الذى يتطلب حذرا شديدآ لتأمين هذه اليوميات والحيلولة دون وقوعها فى ايدي الأعداء.
كما يمكن تفسير عزوفه عن إبداء ملاحظاته لما كان يجري من حوله من أحداث ومواقف خاصة في مراحل حساسة من تجربة الجبهة وتصاعد وتيرة التناقضات الداخلية فى اطرها القيادية بكافة مستوياتها حيث نجده يكتفى بالقول ناقشنا بعمق الكثير من القضايا المهمة خلال جلساته الثنائية مع رفاقه دون أن يفصح عن طبيعة هذه القضايا لنفس الأسباب. ورغم هذا كله لم يلجأ الشهيد هنقلا لإعادة صياغة هذه اليوميات بعد هزيمة الجبهة ليبرر خياراته ويسود صفحات رفاقه الذين خالفوه فى مواقفه وتقديراته كما فعل غيره، وهذه أمانة تأريخية ونبل انساني يستحق عليه التقدير والاحترام.
يسلط هذا الرصد الدقيق والمتتابع على مدار اليوم لأنشطة ومهام أحد قطاعات جيش التحرير الاريتري (اللوائين ٦٩ و١٩) في إدارة مهامه القتالية فى مواجهة العدو وتسجيل انتصاراته وإخفاقاته بصدق وامانة، كما يلقي الضوء على مجمل القضايا الإدارية واللوجستية والقدرات التسليحية والاستعداد النفسي والبدني للمقاتل في تلك الظروف الصعبة مما يفتح المجال واسعا للباحثين والمهتمين للإنطلاق نحو توثيق يوميات القطاعات والأجهزة الأخرى من خلال التنقيب فيما كتب مع قلته أو استنطاق الأحياء من قيادات ومقاتلي جيش التحرير حتى يتم بناء قاعدة معلوماتية راسخة ومتكاملة تساعد على فهم ودراسة تجربة جبهة التحرير الاريترية. ذلك المشروع الوطنى الكبير الذى جسد طموحات وتطلعات الشعب الاريترى فى الحرية والكرامة مما جعله هدفا لمختلف القوى الإقليمية والدولية التي تتعارض مصالحها مع حق الشعوب فى تقرير مصيرها وبناء نظامها السياسي المستقل.
كما كانت الجبهة ضحية لمغامرات قوى سياسية إريترية ارتكبت أخطاء تاريخية لازال الشعب الاريترى يدفع ثمنها، ويكتوي الشباب الاريترى بنيرانها، دون التقليل بطبيعة الحال مما ارتكبته قيادة الجبهة من أخطاء كارثية اقعدت التنظيم عن الدفاع عن نفسه وحماية مكتسبات مشروعه الوطني التحرري.
حقيقة لا يمكن إغفال وهي المجهود الكبير الذى بذله مركز دراسات القرن الأفريقي ومديره الأستاذ/ عبدالله إسماعيل آدم الذي قام بتحرير يوميات هذا الكتاب وإعداد هوامش تساعد القارئ على الإحاطة بجوانب متعددة من حيث الامكنة والافراد والمعطيات المحيطة بالأحداث الواردة فى الكتاب وهو مجهود مقدر يستحق كل الثناء والتقدير على أمل أن يكون هذا الكتاب محفزا ودافعا للمركز للبحث والتنقيب عن المخطوطات والوثائق التاريخية التى تتناول مختلف جوانب الثورة الاريترية بكافة فصائلها وتنظيماتها حتى يتم دراسة هذه التجارب الحاسمة وفي مقدمتها تجربة جبهة التحرير الاريترية التي أطلقت شرارة الثورة الاريترية، ودور الثورة الحاسم فى تثوير أوضاع القرن الأفريقي. ومن جهة أخرى اتمنى ان تكون هذه التجربة حافزا للآخرين من قيادات ومقاتلي مختلف التنظيمات الاريترية ابان مرحلة الثورة الارتريية لتسجيل مذكراتهم ويومياتهم للمساهمة فى سد الفجوة الكبيرة التى تعاني منها المكتبة الاريترية فى هذا الجانب وبشكل مخيف لا يليق بأصحاب تجارب عميقة كان عمادها التضحية والعطاء اللامحدود من أجل الحرية والكرامة الإنسانية.
بطبيعة الحال هذه انطباعات وملاحظات أولية تم استخلاصها من خلال مرور أولي سريع على مادة الكتاب دون الادعاء بأنها عرض تحليلي لمحتوياته التي لاتتكامل صورتها الكلية إلا بالبحث والتنقيب عن مجمل نشاطات التنظيم بكافة هياكله وأجهزته ومؤسساته عبر مختلف مراحل نموه وتطوره من جهة ومن جهة أخرى سطوته و انتصاراته وسقوطه وانهياراته. إلا أن هذا لا يمنع من تسجيل كلمة شكر وامتنان عميق لاسرة الشهيد هنقلا وخاصة رفيقة دربه وام أولاده التي حافظت على هذه الوثيقة الهامة طيلة هذه الفترة رغم ظروف عدم الاستقرار ومشقة الحياة التي ظلت تكابدها أسر المقاتلين خاصة والمواطن عامة عبر مختلف مراحل الثورة والدولة من تنقل دائم ولجوء متواصل كان ومازال قدر الإنسان الاريترى حتى إشعار آخر.