أربعة أعوام من الترقب متى نفرح بصدور ديوان (الأطفال والبحر) للحبيب عبدالقادر ميكال
بقلم الشاعر والناقد الأستاذ: يبات على فايد - الخرطوم
بين يدي الديوان:
تقديم وتوطئة:
"ما لا ريب فيه أن الشعر يرتبط بحكم أصوله بالموسيقى، ومن ثم بفكرة الوزن،
ولكن إيقاع الجملة وعلاقات النغمات بالمعاني، والقوة المثيرة للكلمات، والحد الغامض للإيحاء الذي يضاف لمحتواها الواضح المحض والصور، إنما هي مستقلة عن الشكل المنظوم شعرا. وعندما يتحجر هذا الشكل في قوالب تعليمية، وعندما لا يعود "الشعراء" أكثر من غيرهم ناظمين للشعر... يصبح إذن من الضروري إيجاد شكل آخر أكثر حرية وأكثر مرونة".
ولما كان معلوما بالضرورة أن الإيقاع والجرس ليسا بكافيين للإتيان بالتغريب في كتابة الشعر؛ فكم من قصيدة مقفاة موزونة التفاعيل، خالية من أي تغريب يأخذ بالألباب إعجابا، أو ربما كان بها بعض الأبيات المدهشة، وباقيها موسيقا وقافية ليس إلا، لما كان ذلك كذلك برَّر أصحاب قصيدة النثر سببا لنشأتها، وهنا أرى ضرورة التفريق بين قصيدة النثر والنثر الشعري، إذ إن الفرق بين الكلام العادي والشعر هو الإرادة الواعية من الكاتب بأنه إنما يقصد كتابة الشعر وليس غيره، وأن يكون ذلك القصد في وحدة عضوية مستقلة. بينما يمكن أن يأتي النثر الشعري عرضا، نسبة لما يمتلكه الكاتب من لغة شاعرة، كما نجهده من سرد في كُتَيِّب الشاعر نزار قباني "قصتي مع الشعر"، الذي يحكي فيه فعلا قصته مع الشعر، فهو لم يرد كتابة شعر في هذا الكتيب، ولم يقصده، ولكن لغته كانت شاعرة خرجت بالكتيب من حيز النثر العادي إلى حيز النثر الشعري، وهذا رأيي.
فهل أدت قصيدة النثر دورها بعيدا عن القافية والموسيقى الخارجية، من تفاعيل وإيقاعات خليلية؟، هذا سؤال سيجيب عليه المستقبل!
هذا وما يزال تطور الشعر العربي في استمرار، وما ذلك إلا لتطور الحياة من حوله، وهذا دأب الإنسان وطبعه دون سائر المخلوقات.
وقد مر الشعر العربي بالكثير من التغييرات في بنية القصية أعني هيكلها، منذ دولة الأندلس - إذا استثنينا خروج الشعراء عن بحور الخليل في وقت أبعد من تلك الحقبة في بعض أشعارهم - وذلك لما ابتدعه الأندلسون من موشحات، مرورًا بالشعر المرسل، ثم بقصيدة التفعيلة، وأخيرًا قصيدة النثر.
تلك التي فرضت ذاتها ووجودها رغم كيد التقليديين (وأنا منهم) لها، ورغم محاولتهم النيل منها وأدًا.
قدمت هذه الخلفية النقدية البسيطة بين يدي ديوان الشاعر الإرتري عبدالقادر ميكال (الأطفال والبحر)، هذا العمل الأدبي الذي تفرد فيه صاحبه بالبعد عن كل ما ذكرنا من أنماط الشعر، فالشاعر يخرج عن النص التقليدي المقفى، ولا يلتزم التفعيلة، وهذا دأب الشعر في قصيدة النثر، لكن يخالف صاحبي هذا النمط الكتابي ليأتي بالقافية بين الفينة والفينة في نصوصه، فهل يخرج بذلك الأستاذ ميكال عن شروط قصيدة النثر؟ وهل يقبل منه النقاد أعماله هذه تجديدا آخر؟ علما بأن هناك مجموعة كبيرة من متخذي هذا النوع من الشعر، والطريقة.
هذا ما ستبينه مقبل الأيام في دفتر التأريخ للشعر العربي عامة وفي إرتريا خاصة.
في هذا العمل الأدبي يبحر الأستاذ عبدالقادر ميكال مع أولئك الأطفال في بحرهم لهوا كان أو موتا، وما أراه إلا هلاكا؛ ذلك لنشأة دلالات جنائزية للبحر في أيامنا هذه أكثر منها دلالات فرائحية، وعسى أن يأتي في عالمنا ومجتمعنا العربي والإرتري زمان لا يكون فيه للبحر ولذكره معنىً غير اللهو واللعب والترفيه! إنه عنوان مثير للأحزان، باعث للأشجان، تتراكم فيه صور المراكب المنشطرة في شواطئ لامبيدوس، وسواحل ليبيا!! إنها قصة الهجرات العربية والإفريقية إلى أوروبا عبر ذلكم البحر الأبيض الذي اسودَّ بجثث من اغتالتهم أيادي زعمائهم قبل أمواجه، ودفعهم إلى مصارعة الأمواج ظلما قادتهم ورؤساؤهم قبل مد الأبيض وجزره!
ها هو يقول في نص الأطفال والبحر:
أصيل لامع "خيوط ذهبية"
تلون هذا البحر..
الهادر بالأسرار
كانت تركلني..
تخنقني
تقتلني أحذية الجند
تقتل صوت الحقيقة
كلماتي
تطفئ ثورة أعماقي..
وتدفنني
وتدفن كل آهاتي..
لتزين تلك الألوان بلون دمي
في هذا البحر المتموج بالآهات.
إنها قصة الإنسان في سعيه للحرية، وقصة ملاقاته عين الموت في طلب النجاة.
بين يديك عزيزي القارئ عملا اجتهد فيه صاحبه، لينقل إليك إحساسه ومشاعره، كما رآه وأَحَبَّ أن يترجمه. إنها قصة الأحلام والواقع، قصة الأمل والألم، قصة الفرح والحزن، قصة الحياة والموت. بل هي قصة الإنسانية دموعا ولوعات، فراقا وآمالا عراضا بلقاء. إنها قصة حياة شاعر يحلم بالحرية التامة غير منقوصة يكون فيها للإنسان خياراته في أن يحيا كيفا شاء دون تسلط وطغيان. إنها قصة الأطفال والبحر، برؤية الشاعر عبدالقادر ميكال في أول مد شعري له.
هامش: برنار، سوزان، 1999، قصيدة النثر،
ترجمة: مغامس، زهير مجيد، الطاهر، علي جواد، ص 12، القاهرة، مؤسسة الأهرام للنشر والتوزيع.