الأريتري أبو بكر حامد في روايته الأولى بالعربية "رائحة السلاح"... بنكهة سواحلية
بقلم الأستاذ: محمد علي اليوسفي - تونس المصدر: الحياة السعودية
قد تكون "رائحة السلاح" أول رواية أريترية تكتب باللغة العربية. وقد صدرت الرواية عن منشورات المؤتمر في الجماهيرية الليبية
(في 95 صفحة من القطع المتوسط).
لا أعرف شيئاً، شخصياً، عن كاتب الرواية أبو بكر حامد كهال. ويبدو من سياق الرواية ونشر الكتاب، انه كان ينتمي إلى جبهة التحرير الأريترية ويقيم حالياً في ليبيا. هوذا عمل أول، روائياً، و... لغوياً أيضاً.
ما نلاحظه، بداية، حول اللغة، ان المؤلف يجيد التعبير عن مضامينه بأسلوب سلس ولغة ثرية، يزداد ثراؤها بنكهة جديدة تفتقر إليها اللغة العربية طالما انها لغة مستخدمة في عدد من بلدان شرقي أفريقيا.
لذلك يفاجأ القارئ بمفردات وأسماء هي خليط من العربية والسواحلية، كما يفاجأ بأسماء جميلة لأنواع الأشجار والنباتات والطيور وما إلى ذلك. ويلجأ المؤلف، في حال استغلاق المعنى إلى بعض الحواشي بغية الشرح (على غرار هذه الكلمات: الدوسا: بيت تقليدي مشيد من الجذوع والقش بأساس قصير من الصخور: كحنو: بلغة الساهو، تعني المحب، المحبب، المفضّل، البلس: التين الشوكي الخ...).
ومن المصطلحات التي تجمع بين العربية واللهجات المحلية يمكن أن نقرأ، على سبيل المثال، "مندريتا حبرسما" وتعني بلغة التجري: علمنا في زرقة السما - (حبر سما!)، إلا ان كلمات أخرى، من لغات أخرى، وخصوصاً الايطالية، تتسرب إلى الكتابة انطلاقاً من الماضي الاستعماري للمنطقة.
وكما هو متوقع، من تداعيات اسم "أرتريا" أولاً، ومن عنوان الرواية ثانياً، أي "رفقة السلاح"، تخوض أحداث الرواية في مرحلة الكفاح الأريتري من أجل الاستقلال عن أثيوبيا. ولا يدع لنا الإهداء مجالاً للشك حول ذلك: "هذه الرواية مهداة للبطل الشهيد حامد ادريسي عواتي، مؤسس جبهة تحرير اريتريا ومفجر الكفاح المسلح الأريتري".
تبدأ الرواية بضمير المتكلم، وتتخلى عنه، لتعود إليه. لكن البداية المستحضرة للطفولة لا تخلو من لغة شاعرية: "سأنتظر أبي هنا أمام (الدوسا) سأرى عمامته مبللة بالعرق ومقبض خنجره الذي يبرز خلال الجلباب، سأرى فراغات حذائه الجلدي المملوء بتراب الحقل...".
وهكذا تتولد الأحداث انطلاقاً من طفل يراقب ما حوله: اللقاءات، والاجتماعات السرية، وأخبار الجبهة، والاعتداءات الأثيوبية على المدنيين، والنزوح الدائم.
وسيفقد هذا الطفل، أمه، في هجوم قوات الكومندوز الأثيوبية على القرية، ليظل صحبة "رفاق السلاح". يقضي أيامه راعياً للنعاج أو نازحاً باتجاه جبال أخرى، وأمامه نعاجه.
وبذلك تسير أحداث الرواية ضمن مسارين: الأول يتعلق بما يرويه الطفل، في شبه سيرة ذاتية من الكاتب، والمسار الثاني يتفرع ملاحقاً الأحداث في تشعباتها العسكرية والجاسوسية، إلى جانب الحياة في مسيرها اليومي.
ما يجعلنا نشير إلى جزء من سيرة الكاتب الذاتية، ضمن هذه الرواية، أمران، ربما لهما ثالث. الأول: ان المؤلف، أبو بكر حامد، يضيف إلى اسمه في الغلاف الداخلي للرواية اسماً إضافيا! ليصير (أبو بكر حامد كهال). والثاني أن الراوي - الطفل، عندما يتحدث عن مهاجمة الأثيوبيين لقريته، يذهب به الظن إلى موت أمه وأخته. لكن، بعد انتهاء المجزرة، وعودته إلى القرية صحبة أبيه ورفقة السلاح، يتأكد من موت أمه دون أخيه: "كان بيتنا أول بيت مرّوا به. عثروا وسط الفناء المحترق على جثة أمي، ولم يجدوا أثراً لأخي الرضيع الذي كنا خلعنا عليه اسم "كهال" على اسم جدي لأبي...".
وهو الاسم الذي أضافه المؤلف إلى اسمه في الغلاف الداخلي كما ذكرنا.
أما كيف تم العثور على "كهال" الحفيد، فقد "بحثوا عنه في كل مكان وسط أنقاض الدوسا المحترق. داروا حول شجرة الكسرة التي سفحت عليها الريح اللهب... وبينما كان أبي يبحث في الجوار... وحالما نزل إلى الحفرة، سمع بكاء "كهال" الذي كان مخبأ داخل إحدى قفاف الذرة... انتشله من هناك وخرج به وسط دهشة الرجال الذين كانوا أحاطوا بالمطمورة".
ويمكن العنصر الثالث المشكّل للسيرة الذاتية أن يكون ذا علاقة بانتماء الطفل - الراوي - المؤلف إلى الجبهة بدوره، ومن ثم عودته إلى أيامها استرجاعياً، ضمن عمل سردي.
تتوالى الأحداث كما يرويها الطفل، حتى يعود في منتصف الرواية إلى ضمير المتكلم، وقد غدا يافعاً، تطرق قلبه نفحات الحب الأولى إلى جانب "زهرة" التي سيلتقيها لاحقاً، مقاتلة هي الأخرى، ضمن صفوف الجبهة. وقبل ذلك يكون قد أهداها هدية الإنسان الأول، فينقش اسمها على صخرة في أحد الكهوف الجبلية!
وفي الأثناء نعايش أحداثاً متواترة، من دور المرأة في القتال إلى دورها الأنثوي التجسسي. وكذلك طريقة فرز الطلاب المتطوعين وعدم قبول إلا من احترقت سفنهم وباتوا ملاحقين، وصولاً إلى معركة حاسمة يشارك فيها الراوي، وكذلك صديقته زهرة التي تسقط مضرّجة في المعركة، ويتحقق النصر. وهو نصر ينهي به المؤلف روايته لكن بأسلوب رمزي متحدثاً عن طوفان هائل جرف معه السواتر الترابية والمدافع الثقيلة وبقية العتاد:
"ومن وراء السواتر التي أزيلت كانت ترتفع أياد كثيرة بالاستسلام بعد أن رمت بالبنادق. وعندما لاحت تباشير الصباح كانت أمواه الطوفان فوق الساحة تنحسر رويداً رويداً لتكشف عن جثث الأعداء وأطنان من العتاد مغمورة تحت الوحل". تحدثنا في بداية هذه القراءة عن لغة الكاتب السلسة، البسيطة، لكننا لم نتحدث عن عيوبها: الوقوف على السكون! وليته استعان بمن يدقق له نص المخطوطة.