رواية الإريتري حجي جابر ”رغوة سوداء“ على حبل نجاة لا يوصل إلى السماء

بقلم الأستاذالمثنى الشيخ عطية  المصدر: صحيفة القدس العربي

ومن نحن سوى حكاياتٍ نرويها عن أنفسنا ، وحكاياتٍ يرويها آخرون عنّا ، لتشكّل شخصياتٍ تتفاوت أبعاد قربها

رواية رغوة سوداء

من الحقيقة إن لم تكن غيرها ، فنكونَ بوعيٍ لها ما نحبّ ، أو ما نحلم أو ما يفيد مصالحنا ؟ لكنّ الحكايات قد تختلط في لاوعينا ، لتصبح غامضةً عن إدراك أنفسِنا؛ وقد تخلقُ عقولُنا حكاياتٍ ماضيةً مختلَقةً عنّا ، تتثبّت في ذكرياتنا وكأنّها حكاياتُنا التي تشكّل قناعاتِنا.

في بلوغ كوننا حكاياتٍ ، إلى الذرى التي تجعلها هكذا واضحةً أو مختلطةً بغموضٍ أمام مرايانا ، على حبل صراعنا للنجاة واضطرارنا لتمويه أنفسنا من أجل ذلك ، تبرز رواية الكاتب الإريتري حجّي جابر ”رغوة سوداء“ ، متمحورةً حول موضوع اللاجئ ، وما يلجأ إليه من سبل وسلوكيات غير شرعية للنجاة من عوالم سابقة عانى فيها من الإذلال وتهديد الحياة ، إلى عوالم جديدة يحلم أن يجد فيها حياة كريمة يتوفر فيها الأمان:

”لا يعرف لم بدأ يشعر بتوتر غامض ، كأنه إزاء استجواب كالذي مرّ به في إنداغابونا. بدت المرأة مريحة ، لكنه تعلّم ألا يثق بأحد ، خصوصاً أولئك الذين يبذلون لطفاً مبالغاً فيه. ”حدّثني عن نفسك“. لا يحبّ داويت هذا السؤال. يشعر به ينخر حجبه ، يقشر مكنونه طبقةً تلو أخرى ، حتى لو لم يُجب ، فما يخبّئه الصدر يقوم الوجه بتعريته. ”من أين أبدأ ؟“ قذف داويت بهذا السؤال وهو يدرك لا جدواه ، لكنه في الأثناء كان يبحث عن حكاية يملأ بها الوقت ، وتبقيه آمناً“.

يتلخّص موضوع رواية ”رغوة سوداء“ ببساطة خادعة في شاب إريتري ، يولَدُ وينمو في ساحات قتال الإريتريين من أجل استقلالهم ، ثمرةً للعلاقات العابرة بين الجنود ، ويكون بهذا فرداً مما عرف بأفراد ”ثمار النضال“ ، الذين لا يعرفون أباً وأماً سوى الثورة التي تشكّل حياتَهم ومصيرَهم. في احتفالات تحرير العاصمة أسمرا يلتقي بفتاة يحبّها وتحبّه ، ويفرّ من الجيش بسبب هذا الحب؛ فيتعرّض للعقاب في سجن الوادي الأزرق الذي لا يخرج منه السجين حيّاً في الغالب. لكنه يهرب إلى أثيوبيا ، ليضمّه مخيّم غوندار ، الذي تفشل فيه محاولته للتوطين في بلد ثالث عن طريق مكتب مفوضية اللاجئين التابع للأمم المتحدة ، فيلجأ إلى تزوير نفسه بالرشوة كيهودي من يهود الفلاشا الذين تأخذهم إسرائيل للتوطين فيها. وفي إسرائيل ينكشف أمره ، فيهرب ليعيش متخفياً بين الإرتيريين الفلسطينيين في القدس القديمة ، وتنتهي حياته بطلقة لا تخصه من جندي إسرائيلي عند هربه خلال حصار المكان ، كي لا ينكشف أمره...

ومن موضوع الرواية البسيط على هذه الصورة ، ينسج جابر رواية متألّقة بحق ، ليس ببنيتها المتداخلة بجمالٍ ، ولا منظومتها السردية المنسابة بتناقل أخاذ للزمن ، أو شخصياتِها المركّبة بعمقٍ ، أو متعةِ تشويقها المثير ، وعمقها الثقافي والنفسي الثريّ فحسب ؛ بل أيضاً ، بكونها أحد أهم الاستخدامات التفاعلية العميقة المبدعة لحكايات ”ألف ليلة وليلة“ بين الروايات التي تنهج أسلوب تداخل الحكايات. بالإضافة إلى التعاطف الإنساني الغامر الذي تثيره نحو اللاجئين ، ودفعها لقارئها إلى تفهم دوافعهم غير القانونية للنجاة ، في مقابل كشف وإدانة المتعاملين معهم كأغراض ، مثلما فعلت صاحبة الفندق ويزاريت سابا التي ساعدت دافيد على التحول إلى داويت ، ومثل طالبة الجامعة العبرية سارة التي أجرت عليه بحثاً نفسياً وجنسياً معمقاً ، ثم أهملته عندما انتهى غرضها منه في عزّ حاجته لها.

في البنية الظاهرة يركّب جابر روايته من ثمانية وعشرين فصلاً مرقّمة من دون عناوين ، وتجري الأحداث في سواقي هذه الفصول بتداخل لا يخضع للتسلسل الزمني ، وبمنظومة سردية بسيطة ، يقوم فيها كاتب الرواية - الراوي بسرد الأحداث مستخدماً فعل الماضي على الأغلب ، مع إدخال فعل الحاضر لخلق مشهدية سينمائية ، مع سرده عن شخصيات بطل الرواية وفقاً للاسم الذي يتقمصه ، خلال محاولاته للنجاة بهذا التقمص. ويتخلل هذا سردُ بطل الرواية حكايته عن نفسه بدءاً من الصفحة 82 ، الفصل العاشر ، ناقلاً سرد الرواية إلى تشويق ألف ليلة وليلة ، حيث تتسمر أنظار مقرّر مكتب المفوضية مدهوشةً بحكايات ”دافيد“ ، الذي يقرّر عند انكشاف استعارته لقصص اللاجئين أمامه أن يرمي نرده بحقيقته. ويأخذ سرده صيغة التناوب مع سرد الراوي وفقاً لما تتطلبه متعة تشويق جريان الأحداث ، إلى النقطة التي يسكت فيها دافيد عن الكلام المباح ، ليس استجابةً منه لصياح ديك الصباح ، الذي يحدث بتقاطعات السرد ، وإنما استسلاماً لقضاء سيفِ مقرّر مكتب مفوضية اللاجئين ، الذي شهره لامعاً وقاطعاً لجوءه ، بمديحه لحكايته التي تؤهله للجوء ، أنها اختلاق جديدٌ مبتكرٌ ومختلف عن الحكايات المستعارة بين طالبي اللجوء.

في البنية العميقة للرواية ، تبرز المعالجة الروائية متألّقةً لموضوعٍ تم الشغل عليه من قبلِ روايات متعددة المواطن والاتجاهات ، بكَثرةٍ تفتَحُ فخاخ الوقوع في التكرار. ويفعل جابر ذلك من خلال خلق الارتباطات في معالجة الشخصية كحكاياتٍ تنسجها عن نفسها ، وكأسماءٍ تتحوّل لتشكل شخصيات ، وكشخصياتٍ إنسانية تتأثّر وتتغيّر بتقاطعاتها مع البشر والمكان ، في البؤر الحرجة التي تعترض هذه الشخصيات ، وتتمحور حول دافع النجاة:

• أمام الحب مثلما قدّم جندي ثمرة النضال ”أدال“ الخجِل من هذا الاسم نفسَه إلى عائشة التي أحبّها ، بالاسم المسلم ”داوود“ ، ليعيش قصة حبّه بهذا الاسم ، ومن ثم هربه من الجيش وسجنه وهربه ثانية.

• وأمام الحاجة إلى التوطين في بلد أوروبي ، حيث قدّم نفسَه لموظف مكتب مفوضية اللاجئين بالاسم المسيحي ”دافيد“ ، ليعيش قصة محاولته الفاشلة في الحصول على اللجوء ، ومن ثم علاقته بسابا التي ساعدته بالتحوّل إلى يهودي فلاشا ، أو بيتا إسرائيل.

• وأمام الحاجة إلى إثبات نفسه كيهودي في مخيم الانتقال الذي تم تعميده به وتعليمه العبرية ، وفي المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين ، حيث قدمته سابا بالاسم اليهودي ”داويت“ ، ليعيش تبعات انتحال هذا الاسم وتبعات انكشاف زيفه. دون أن ينسى جابر أدقّ التفاصيل النفسية المرتبطة بالخوف في هذه التحولات ، مثل خجله من كونه ثمرة علاقة عابرة ومنقطع الأصل ، مع محاولته المحرجة في إخفاء هذا حتى عمّن يحب. ومثل حاجته للانتماء وتأثير المكان على سدّ هذه الحاجة ، بتألّقٍ في عرض ما أثارته كنيسة القيامة لديه ، ومن ثم قبة المسجد الأقصى ، وعرض ما لم يُثِر لديه سوى الحيادية مثل حائط المبكى الذي دسّ في أحد شقوقه ورقةً بيضاء تتضمّن مطالبه من إله الحائط. مع إغناء كشف شخصية اللاجئ المضطرّ ليس بما يعانيه من مصاعب تدفعه للمخاتلة والكذب وارتكاب الجرائم فحسب ، بل أكثر من ذلك ما يعانيه ويؤثّر في بنيته النفسيّة ، من خلال البحث المشوّق الذي أجرته عليه طالبة الجامعة العبرية سارة ، بتفاصيل تتعلق بكل ما يمت بصلة ، لتأثير معاناة اللاجئين في مجتمعات لا تتقبّلهم بسهولة على حياتهم الجنسية.

وفي البنية العميقة لروايته تتبلور متألقةً علاقة نصّ الرواية بعنوانها الذي يجسّد تفاصيلها بنجاح ، حيث ترد الرغوة بمعانيها وتجلّياتها أربع مرات تبدأ بـ: ”أتعبه هذا الترقّب لما سيأتي. من أسمرا إلى إنداغابونا إلى تل أبيب ، والآن إلى القدس ، وكل مكان يلفظه إلى السطح كرغوة ، دون أن يمنحه التفاتة تبقيه في العمق“. يليها تكشّف الرغوة عن التمييز العنصري الذي يعانيه الأفارقة بسبب لونهم حتى من أبناء عمومتهم الفلسطينيين: ”نعم هناك مشاكل تحيط بنا ، فالإسرائيليون يعادوننا بسبب موقفنا من الاحتلال ، وبعض أهلنا لم يستطيعوا حتى الآن أن يتقبّلوا لون بشرتنا ، لكن لا يمكن للحياة أن تكون بلا مشاكل... أليس كذلك يا داوود ؟ كان داوود غارقاً في المفارقة التي يعيشها الأفارقة الفلسطينيون. لا يعرف لماذا رأى نفسه فيهم. إنها الرغوة السوداء مجدداً ، تطفو على السطح رغم كل محاولاتها أن تصبح في قلب المكان“. ويلي ذلك تطور الرغوة إلى استسلام داوود وتآلفه مع وضعه كرغوة تطفو على السطح ، ثمّ الصرخة المدوية المنطلقة من جسد داوود الذي يوشك على التحوّل إلى جثة ، والتي تختم الرواية بإدانة إدارة الإنسانية ظهرها للاجئين:

”أخذ سؤال الجندي يتردّد داخله ببطء شديد. يرى الوجوه من حوله متوتّرة ، دون أن يغير ذلك من تراخيه. حاول أن يجيب على السؤال ، غير أن لسانه قد بدأ يثقل. تمنّى لو يستطيع خوض حوار مع الجنود من حوله. لا يريد الإجابة الآن ، بقدر ما يود طرح الأسئلة. أراد أن يسألهم عن هويّته ، عن اسمه إن كان داوود أم دايفيد أم داويت. أن يسأل عن ديانته إن كان مسلماً أم مسيحياً أم يهودياً. عن جنسيته ، إن كان إرترياً أم إثيوبياً أم إسرائيلياً أم فلسطينياً. ليته يجد الإجابة. كم يحتاجها الآن ، والآن بالذات ، حين التفت له الناس أخيراً ليعرفوا هويته التي قضى عمره يبحث عن مستقرّ لها.

بدأ الضجيج يخفّ من حوله. غاص جسده في استرخائه. شعر بالحاجة إلى النوم. سينام قليلاً ليصحو بعدها وقد وجد الناس من حوله لسؤاله. سيترك لهم هذه المهمة التي أعيته طويلاً. أغمض عينيه ، وقد شعر بروحه رغوةً تطفو على السطح“.

Top
X

Right Click

No Right Click