الغولاغ الأرتري مشاهدات سوداني في معتقلات الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة - الحلقة الأولى
بقلم الأستاذ: أمير بابكر عبدالله المصدر: دفاتر أمير
"إن الحقيقة تستعاد دائماً -بينما يمكن أن تدفن الحياة إلى الأبد" رازوميخين ـ الجريمة والعقاب لدستيوفسكي.
هي مجرد رواية لما حدث.. ولمشاهدات وروايات يملي علي ضميري نقلها، ولا أود هنا رواية مسببات اعتقالي لمدة شهر كامل في سجن تحت الأرض من قبل الاستخبارات الأرترية - وما مارسته ضدي من تعسف ومحاولات بائسة لقهري وتطويعي - إلاّ بالقدر الذي يتيح لي أن أعكس ما سمعته وما رأيته هناك من معاناة يرزح تحتها المواطن الأرتري، وكذلك ربما تقودني الرواية لتناول العلاقات بين الشعبين السوداني والأرتري وإلى تقييمي الخاص لنظام الجبهة الشعبية (للديمقراطية والعدالة) الحاكم في أرتريا، خاصة في علاقته مع الشعب السوداني وتنظيماته السياسية.
الأربعاء، 31 مارس 2004م:
لماذا تبحث عني المخابرات الأرترية ؟؟
علمت من زملائي في مكتب إعلام التحالف بأسمرا أن أفراد من جهاز الاستخبارات الأرتري يبحثون عنى، يقودهم فرد من مكتب قوات حرس الحدود يدعى (برهاني)، ذهبت إلى مقر المكتب التنفيذي للتجمع فإذا ذات الشيء يحدث "ولكنهم لم يجدوك" هكذا قال لي مدير المكتب. ذهبت مصادفة بالشارع المؤدي لمنظمة السودان للرعاية الاجتماعية، أيضاً وجدت ذات الخبر. فقط لم يسألوا عني في الإستراحة التي يقيم فيها عبدالعزيز خالد رئيس المكتب التنفيذي للتحالف حيث كنت متواجداً بصفة شبه دائمة، أساهم مع زملائي في التغلب على الحصار المفروض علينا لعلاج أزمة التحالف التنظيمية (كما كان يطلق عليها) الذي قادته إليها الطرق الملتوية لتحقيق (طموحات مشروعة)، وإن غلب عليها طابع الذاتية والوصولية وعدم التأهيل الذاتي والموضوعي للدكتور تيسير محمد أحمد علي الذي تصدى لقيادة تيار حاول الإنقلاب على إرث وتاريخ - رغم بدايات عمره - أسهم في صياغة أحداث جسام في مسيرة السياسة السودانية. وخطط لذلك الإنقلاب (الذي مني بالفشل الزريع) وساهم في تنفيذه -بشكل مباشر ودون حياء - الدولة الأرترية التي تسيطر عليها الجبهة الشعبية (للديمقراطية والعدالة)، وسخرت له كل قدراتها السياسية والإعلامية والمالية والعسكرية والأمنية.
ولكن لماذا تبحث عني الاستخبارات الأرترية ؟؟ لم يكن التساؤل مثيراً للدهشة بقدر ما هو مثير للسخرية، خاصة إذا كان من وضع نفسه في موقع العدو بالنسبة لك يجهل قدراتك، ويبدأ في فعله أو رد فعله بعد فوات الأوان. وكان فعلها (الجبهة الشعبية) مجرد رد فعل بعد فوات الأوان. هل لأني ساهمت بشكل رئيسي في عرقلة مخططها الذي يستهدف التحالف بالفضح المتواصل لما يرمي إليه تيسير محمد أحمد علي بعد تقديم إستقالتي من أمانة الثقافة والإعلام، التي تقع ضمن دائرة اختصاصاته. وهل لأني أشرت في إحدى مقالاتي إلى علاقة الجبهة الشعبية بما يجري للتحالف. لست أدري.. ولكن وجدت نفسي معتقلاً منذ الأول من أبريل 2004م ولمدة ثلاثين يوماً مع الأشغال الشاقة في سجن تحت الأرض على الحدود الغربية لأرتريا، بعد رحلة طويلة بشاحنة مرسيدس من أسمرا. وصرت مهدداً للأمن القومي الأرتري (لأني قلت لا للتدخل الأرتري في شئون التحالف)، ومتجسساً على التجمع الوطني الديمقراطي لصالح السفارة السودانية بأسمرا، وغيرها من الاتهامات التي ظلت ترددها أبواق الجبهة الشعبية عبر ممثليها السودانيين الأصل.
ما لا يعلمه أحد تلك الأبواق (وقد كان قيادياً في التحالف)، ومن أعمته وصوليته ممن وقفوا إلى جانبه، أن المؤامرة ضد التحالف - بزرع الفتنة من أجل تدميره - لم تبدأ عندما استدرجته القيادة السياسية الأرترية منذ المؤتمر التمهيدي الثاني في يوليو 2001م للعب دور "بروتس"، بل هي بدأت عندما جاء دور الجبهة الشعبية، المسيطرة على مقاليد السلطة في إرتريا، لدفع فاتورة الدعم الذي تلقته من بعض الجهات أثناء حربها مع إثيوبيا، وكان بعض الثمن هو استهداف التحالف والعمل على شل قدراته. ورغم أن هذه الجهات قدمت طلباتها - بقوة عين - للقيادة السياسية الإرترية، إلاّ أنها لم تكن تدرك ماهية التحالف ومكامن قوته ومواضع ضعفه. وكان من حسن حظه أن (عظْمه السياسي وانتشاره) كان بعيداً عن المركز الأرتري سوى وجود رمزي للمكتب التنفيذي.
ولكن لماذا تستهدف تلك الجهات التحالف ؟ لم يكن يهم تلك الجهات التحالف ولا غيره، ولم يكن يهمها معرفة التحالف عن قرب او بعد. ولكنها، وفي خضم الصراع السوداني السوداني، قررت الانحياز لحليف مؤثر داخل الخارطة السياسية السودانية كان يرى في التحالف "بعبعاً" سيجعله يعيد حساباته، وهو (الحليف) لا يريد ذلك - على الأقل - في الوقت الحاضر. وكان الانحياز هو الضغط على الجهاز السياسي الأرتري من أجل شن حرب ضد التحالف (كان الاعتقاد السائد أن التحالف مجرد صنيعة أرترية يمكنها أن تدمره متى ما أرادت ذلك، خاصة وأن قوات التحالف - التي لعبت دوراً مؤثراً في الصراع المسلح في الجبهة الشرقية - يمكن السيطرة عليها بالقوة بواسطة القوات الأرترية إن استدعى الأمر ذلك). وكان لابد للجهاز السياسي الأرتري من الاستجابة للطلب، فما زال صوت المدافع الأثيوبية يتردد صداه في أرجاء أرتريا ولا يزال نظام الجبهة الشعبية الحاكمة مهدداً بالفناء.
كان الأقرب بالنسبة لقادة الجبهة الشعبية وجهاز أمنها هو البحث عن أقصر الطرق لتنفيذ هذا الطلب (المتواضع). ووجدوا ضالتهم في إحياء الإشاعة التي ماتت في مهدها حينها (في عام 2000م)، وهي أن قائد التحالف يتجسس لصالح أثيوبيا وأن قوات التحالف المتواجدة في شمال النيل الأزرق هي الغطاء الذي تعبر به المعلومات عن أرتريا إلى أثيوبيا. ولكنها لم تكن كافية هذه المرة أيضاً (في العام 2001م) ولابد من دعمها بأسباب تنظيمية داخلية تخص التحالف. ولكن من هو الدوغمائي الذي يمكنه أن يلعب هذا الدور، وكيف ؟ وجدوا ضالتهم في (القيادي) الطامح للجلوس على كرسي رئاسة التحالف (باي ثمن)، خاصة بعد اقترابه منه درجة، وقد شغر كرسي الدائرة السياسية بعد إقالة رئيسها السابق. وجدوا فيه كل المواصفات التي يمكن ان تدعم حربهم التدميرية على التحالف خاصة وأنه قد أوهمهم بمركز قوته التنظيمية.
وكانت خطوة الخطة القادمة على محورين، إغواء دذلك القيادي بالتحالف بأهمية وحدة التحالف مع الحركة الشعبية، وأنها ستخلق بالنسبة لها إضافة سياسية نوعية تقوي من قدراتها السياسية (هذا ما ظل يرددانه كلا من عبدالله جابر والأمين محمد سعيد (لحليفهم القيادي بالتحالف) ولكن من أجل إنهاء وجوده، وليس حباً في إرتقاء سياسي يمكن أن تحدثه هذه الخطوة كما كنا نحلم. وكما كتب الدكتور منصور خالد في استهلال كتابه "السودان، اهوال الحرب.. وطموحات السلام" على لسان ليو تولستوي: ولكن وراء هذه الأهداف التي يوحي بعضها بالنبل، تكمن في أغلب الأحايين طموحات ذاتية لسياسيين طائشين أو دعاة قلّما يراودهم شك في حتمية دعاواهم) وتصوير الأمر بالنسبة له على أن هذه الوحدة سترفع من أسهمه السياسية درجات، والتركيز على تدمير رئيس المكتب التفيذي سياسياً بإشاعة فتح قنوات اتصال سرية مع حكومة الخرطوم إضافة إلى اتصالاته المزعومة مع النظام الأثيوبي على حساب أرتريا، وشن حرب ضده بكافة الوسائل لهز صورة التحالف وإضعاف موقفه السياسي ليسهل تسديد الضربة النهائية.
ابتلع (صاحبنا القيادي) الطعم (وكان على آخرين أن يبتلعوه معه لدعم مشروعه المستقبلي)، فقد لاقت الأمور في نفسه هوىً وها هي احلامه ستتحقق، وسيسير على خطى الزعامة دون كبير عناء. وبدأ في تنفيذ المخطط المرسوم دون أن يدري خلفياته ودون أن يدري مآلاته، ولا المأزق الذي أدخل نفسه فيه (وهو لا يدري أنه لا يدري). وصار مجرد (شماعة) إضافية، ستعلق عليها الجبهة الشعبية أخطاء قراءاتها السياسية في مستقبل علاقاتها مع الشعب السوداني وتنظيماته السياسية.
هذا هو المشهد قبل الأخير لبدء الخطوات العملية (فكلنا يعلم كثير اللغط الذي دار داخل التحالف وخارجه عن الوحدة مع الحركة الشعبية ومظاهر الأزمة التنظيمية قبل هذا المشهد). وقد حان وقت تسديد الضربة القاضية بلغة حلبات الملاكمة وساعة الصفر بلغة العمليات العسكرية.
ولكن لماذا استهدفتنا الاستخبارات الأرترية بعد فشل مخطط قياداتها السياسية وقد شاركت مجموعة عمل في تعاون تام من أجل كشف المخطط أولاً ومن ثم التعامل معه.
كان جهاز الاستخبارات والأمن الأرتري - رغم سلحفائية أدائه - يتابع ما يدور في التحالف فقد خلق داخله أزرع أغنته عن كل اجتهاد وإجهاد، فهذه الأزرع تتبرع له بما يشتهي وما لا يشتهي، حتى أن مكاتب الجبهة الشعبية الأرترية صارت وكأنها مكاتب لها. ولكن غابت عنه معلومة مهمة وهي أن أفراد محددين كانوا يعلمون ما تخطط له الجبهة الشعبية وعن طريق الصدفة المحضة، وليس لأن التحالف لديه جهاز استشعار عن بعد.
كان علينا في تلك المرحلة الأولى - بعد المؤشرات الواضحة لما تفكر فيه الجبهة الشعبية ما قبل المؤتمر الثاني للتحالف 2001م - التعامل والتفكير بصورة جماعية لمتابعة المخطط، من خلال ما سيقوم به (القيادي) من خطوات، وهو معروف عنه تعجله وتهوره وسريعاً ما يكشف خطوته التالية، وربما ما بعدها دون انتظار لما ستسفر عنه الخطوة الأولى. وسريعاَ ما كشف كل أوراقه قبل انتهاء المؤتمر الثاني بطرح نفسه البديل الأفضل لمرحلة ما بعد عبدالعزيز خالد "الذي انتهى دوره". ولكن سارت الأمور على غير ما يشتهي بعد حضور عبدالعزيز خالد الغير متوقع بعد زيارة للولايات المتحدة الأمريكية، وكان الرهان على عدم تمكنه من الحضور. نجح العمل على الصعيد الجماعي في خلق (مصدّات) متينة، خاصة بعد إطمئنانه وثقته في قدراته على استقطاب من يريد إلى جانبه متى شاء. وكان علي لعب دور الأعمى لأوافق على ترشيحه لي لتكليف امين أمانة الثقافة والإعلام (فهو لا يثق في الأمين الذي سبقني والذي سيقف حاجزاً بينه وتحقيق طموحاته).
جاء موضوع الوحدة مع الحركة الشعبية متوافقاً مع الآفاق السياسية للتحالف. بعد لقاء قيادات التحالف لوفد الحركة الشعبية - بقيادة القائد جيمس واني إيقا - في سبتمبر 2001م، وإن اختلف الطرفان على آليات تحقيقها، كان واضحاً رغبة الطرفين في المضي بها إلى نهاياتها. وبعد أن وقع الدكتور جون قرنق زعيم الحركة الشعبية وعبدالعزيز خالد رئيس المكتب التنفيذي للتحالف إعلان الوحدة بينهما في 28 فبراير 2002م على أسس واضحة، أسقط في يد قادة الجبهة الشعبية، وبرز تناقض واضح في موقفها تجاه هذه الخطوة الاستراتيجية، خاصة بعد أن بدأت خطوات السلام السودانية تتضح ملامحها في مشاكوس ومن ثم نيفاشا وهو ما لايرغب فيه النظام الأرتري (كان النظام الأرتري وجبهته الشعبية يراهنون على فشل محادثات السلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية). ولكن ماذا يفعلون مع (القيادي) الذي صار متلهفاً لمقعده في الهيئة القيادية للحركة الشعبية وكرسي الوزارة مستقبلاً، (وصار كما ريتشارد - بطل مسرحية المنفيون لجيمس جويس وهو يخاطب برتا وما زال يحملق فيها ويتحدث كما لو كان إلى شخص غائب: لقد جرحت روحي جرحاً غائراً من الشك لا يمكن أن يندمل أبداً. إنني لا أستطيع أن أعرف أبداً في هذا العالم. ليست بي رغبة لأن أعرف أو لأن أصدق، لست مهتماً بذلك. إنني لا أرغب في ظلام اليقين ولكن في قلب الشك الجارح المتجدد الذي لا يستقر. أن أحصل عليك بغير قيود، حتى ولا قيود الحب، أن أتحد معك بالروح وبالجسد في عرى كامل مطلق. هذا هو ما تمنيته ورغبت فيه. وأنا الآن متعب قليلاً يا برتا جرحي يتعبني.)
إذاً على الجبهة الشعبية الإسراع في تعديل خطتها بما يخدم تكتيكها القادم في التعامل مع موضوع السلام السوداني. والاكتفاء بضرب عبدالعزيز خالد في الوقت الحاضر، فبإزاحته يسهل عليها توجيه التحالف تحت قيادة تيسير كما تشتهي. ولكن ما هو تكتيكها القادم ؟ ما صرح به الجنرال تخلي منجوس (وهو يعبر عن مجموعة الخمسة التي تسير الدولة الأرترية، الرئيس أسياس، الأمين محمد سعيد، عبدالله جابر، يماني قبرآب وجنرال تخلي منجوس) واتفق معه العقيد سرناي المسئول الثاني في حرس الحدود الأرتري أن مشروع الوحدة بين التحالف والحركة الشعبية ليس أولوية بالنسبة لهم في المرحلة الراهنة، وعلى التحالف أن يستعيد قوته بعد أن ينجحوا في إزاحة عبدالعزيز خالد وتنصيب (القيادي) بدلاً عنه. إذاً ما عاد المشروع يجدي نفعاً بعد أن صار السلام السوداني أمراً واقعاً وعليهم إبقاء بعض الفصائل المعارضة لنظام الخرطوم (ولو مجرد لافتات) ككروت ضغط، من أجل زعزعة الاستقرار الذي سيفضي إليه السلام. وإعادة الدور (المتوهم) الذي يفترض أن يلعبه النظام الأرتري في مسألة السلام السودانية هذا من ناحية، ومحاولة تمرير أجندته المتعلقة بالفصائل المعارضة لأسمرا من ناحية أخرى. وكان من ضمن الفصائل المفترض فيها لعب هذا الدور هو التحالف الذي تعترف به الجبهة الشعبية الأرترية والذي سيقوده حليفهم (والذي صار هو وما أسماه المجلس المركزي مجرد لافتة يخط عناوينها قادة الجبهة الشعبية).
كان لابد لي من المرور السريع جداً على هذه الوقائع لما له من أهمية قد تفسر سبب وجودي داخل سجن تديره الاستخبارات الأرترية، قبل سردية ما سمعته وشاهدته من معاناة للمواطن الأرتري في سجون الجبهة الشعبية وإستخباراتها.
تـابـعـونـا... فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة