شهادات مؤلمة - الحلقة الثانية

بقلم مولانا: عبدالله خيار

للتدخل في سلطات المحاكم صور مختلفة، هذه إحدي الصور البغيضة. إختصاصات المحاكم في ارتريا كغيرها من المحاكم

عبدالله خيار

في الدول الاخرى تختلف باختلاف طبيعة القضايا وأهميتها وقيمتها المالية فهناك الاختصاص القيمي والمكاني. ولكن في ارتريا وحسب القانون الاثيوبي المعدل والمعمول به حتي الان هناك قضايا بعينها هي من إختصاص المحكمة العليا فقط دون غيرها من المحاكم التي تندرج تحتها حسب السلم القضائي، وربما قصد المشرع من ذلك أن تنظر مثل هذه القضايا أمام قضاة لهم خبرتهم العملية، لان الآثار المترتبة عليها تمس المجتمع بشكل مباشر كقضايا إثبات الابوة أو إثبات النسب فهي تنتج آثاراً مباشرة في الحقوق التي تتعلق بالميراث.

مما تقدم يتضح لنا ان المحكمة العليا في ارتريا بالاضافة الي إنها في الاصل محكمة إستئناف إلا انها في نفس الوقت تعتبر محكمة ابتدائية تنظر في بعض القضايا ابتداءً. نتيجة لهذا المفهوم المزدوج في اختصاصها كانت المحكمة العليا واقعة تحت ضغط كثرة القضايا، وهي تتكون من ثلاثة دوائر مدنية ودائرتين تجارية وجنائية، وزاد هذا الضغط علي المحكمة العليا بصدور المرسوم رقم 91/16 الخاص بالتحرى عن ملكية العقارات والذي بموجبه تأسست مفوضية التحري عن العقارات، أغلب الملفات التي عُرضت علي هذه المفوضية كانت مليئة بالنزاعات القانونية حول الملكية حيث يدعي أكثر من شخص بملكية العقار، هذه المشكلات القانونية لم تتمكن مفوضية البيوت من حلها لانها لا تمتلك الكادرالقانوني المؤهل للفصل في مثل هذه النزاعات ذات الطابع القانوني، لذا تم تكليف المحاكم بالنظر في تلك القضايا والفصل فيها ومن ثم إعادتها الي مفوضية البيوت لكي يمنح الشخص الذي حكم له ملكية العقار شهادة ملكية العقار، فكثرة القضايا في ذلك الوقت كانت تجبرنا في بعض الاحيان ان نعمل ايام العطلات الاسبوعية.

فكرة وجود المحكمة العليا بهذا المفهوم الاختصاصي المزودج ووجودها في المركز أثار بعض النقاشات في أوساط الهيئة القضائية ووزارة العدل لان هناك عدد كبير من سكان الاقاليم لا يستطيعون الحضور إلي العاصمة اسمرا لتقديم شكاويهم، نتيجة للظروف الاقتصادية خاصة لاؤلئك الذين هم من أصحاب الدخل المحدود، فكان لابد من إيجاد حل لتلك المعضلة الاساسية المتمثلة في وجود المحكمة العليا في العاصمة اسمرا.لذا تم التوصل الي فكرة انشاء دوائر(فروع) للمحكمة العليا في الاقاليم. وشخصيا كنت اؤيد هذا الاتجاه، وكانت بالفعل خطوة جيدة للذهاب الي المواطن حيث يقيم، بدلا ان يُرهق ويتكبد تكاليف باهظة للوصول الي المحاكم، فكانت فكرة ناجحة جداً قياسا بنتائجها.

تم تكليفي برئاسة وإنشاء محكمة عليا لاقليمي عنسبا والقاش بركة كتجربة أولي علي أن يعاد النظر في تكوين محكمة عليا لكل اقليم اذا كان عدد القضايا التي ترد الي هذه المحكمة الجديدة في تزايد مستمر، وحسب الظروف الاخرى المحتملة، في البداية تم إختيار مدينة كرن لتكون مقر المحكمة ولكني إعترضت علي ذلك لاسباب عملية لا تتعارض مع فكرة إنشاء المحكمة نفسها حيث لا فرق للقادم من ام حجر ان تكون المحكمة العليا في كرن أو اسمرا، لذا قدمت مقترحا بأن يكون مقر المحكمة في مدينة أغردات التي تعتبر منطقة وسطى لسكان الاقليمين. بالاضافة الي وجود سبب اخر دفعني لاختيار مدينة أغردات وهو إنه بحكم معرفتي الجيدة لهذه المدينة كنت اعلم بوجود مقر محكمة اغردات القديمة وهي شاغرة وملكيتها مسجلة باسم المحكمة في بلدية اغردات، كانت الافضلية لاختيار اغردات لاننا اذا اخترنا كرن كان علينا ان نبحث عن مقراً للايجار، ولكن في اغردات لا نحتاج أن نستأجر أي مقر، عموماً وجدت المساندة لمقترحي من رئيس القضاء الجديد منقريوس براخي وإتفقنا أن تكون مدينة اغردات مقراً لهذه المحكمة، وهكذا افتتحنا في السادس من مايو 2002 اول محكمة عليا في الاقاليم، وهنا لا اريد ان افوّت هذه السانحة دون ان اشكرالاخ والصديق محمود مريقاي الذي سهل لنا الكثيرمن الامور بحكم انه من ابناء المدينة.

ذكرت هذه المقدمة لان الواقعة التي أريد ان أتحدث عنها حدثت في اغردات، في منتصف عام 2003 جاء الي المحكمة رجل مُسن في السبعينات من عمره (سوف نشير الي إسمه بحرف ق في هذا السرد) وطلب تصريح دعوي ضد بعض الاشخاص يطالبهم فيها باسترداد قيمة ممتلكاته التي استولوا عليها دون وجه حق او سند قانوني.وأوضح لنا أن هؤلاء الاشخاص (المدعى عليهم) كانوا في السابق من مقاتلي الجبهة الشعبية لكنهم حاليا يقيمون في امريكيا ولديهم وكيل هنا. لذا طلب ان نوجه امر الاستدعاء الي وكيلهم، بناء علي المعلومات التي قدمها لنا اصدرنا مذكرة استدعاء مرفقة بنسخة من عريضة الدعوى لوكيل المدعي عليهم للحضور والرد علي الدعوى وحددنا موعداً للجلسة.

في يوم الجلسة المحددة حضر (ق) وأوضح لنا ان وكيل المدعى عليهم رفض استلام ورقة الحضور. سألناه عن عنوان وكيل المدعى عليهم وماذا يعمل ؟ أجاب انه شرطي ويعمل في قسم التحقيق ضمن شرطة اقليم عنسبا، تعجبنا ونظرنا لبعضنا نحن القضاة الثلاثة، كيف لرجل قانون يرفض إستلام مذكرة استدعاء من المحكمة ؟ علي الفور أصدرنا امراً لرئيس شرطة اقليم عنسبا بان يحضر هذا الوكيل مقيداً إلي المحكمة، تم إحضاره بقوة القانون، وسالناه كيف تعمل محققاً في قسم شرطة وأنت أساسا لا تحترم القانون ؟ كيف يعقل ان ترفض إستلام ورقة الحضور الي المحكمة ؟ طأطأ برأسه ولم يجيب لانه لم يجد ما يقوله، أوضحنا له انه كان بالامكان ان ننظر في هذه الدعوى غيابياً بعد أن نتأكد ان امر إعلان الحضور قد وصلك لانها في الاساس دعوى مدنية وليست جنائية، ما دفعنا لاحضارك بالقوة انك لم تتصرف مع مذكرة الاستدعاء بشكل لائق خاصة وانت رجل شرطة وتعرف ما يتوجب عليك فعله في مثل هذه الحالات، اذا كنت انت رجل شرطة ومحقق تتصرف هكذا ماذا يفعل الذين يجهلون القانون، وبخناه بما فيه الكفاية وأعتذر، وقمنا باتخاذ بعض الاجراءات التحذيرية، وطلبنا منه أن يستلم الان من المدعى عريضة الدعوى ويرد عليها كتابياً في الجلسة المقبلة وحددنا جلسة للرد علي الدعوى. وابلغناه انه اذا لم يحضر في الجلسة القادمة سوف ننظر في هذه الدعوى غيابياً وهو غير ملزم بالحضور وله كامل الحرية في ان يختار ما يشاء أن يحضر او لا ولكننا بعده الان لن نتوقف عن السير في هذه الدعوي واصدار حكم غيابي بعدما ابلغناه بموعد الجلسة القادمة حسب ماهو مدون في محضر الجلسة.

في الجلسة المحددة حضر الوكيل ومعه الرد علي الدعوى، ولكن (ق) لم يحضر، كان من بين الحضور في قاعة المحكمة إبنه رفع يده، سمحنا له بالكلام، أبلغنا ان والده (ق) تم أخذه قبل اسبوع من منزلهم بمدينة كرن بواسطة رجال مجهولين ولا نعرف مكان إحتجازه حتى هذه اللحظة، سألنا وكيل المدعي عليهم إذا كان يعرف شيئا عن إختفائه، أجاب "إنه لا يعرف شيئا ًوليست له اية علاقة بموضوع إختفائه". كنا نعتقد أن (ق) يمكن أن يظهر في أي وقت لذا قمنا بتأجيل الجلسة ليوم اخر. إلا انه لم يظهر مطلقاً، تشاورنا نحن القضاة في أمره وجدنا أن غيابه عن حضور الجلسات يعود لاسباب خارجة عن ارادتة حسب ما ابلغنا ابنه، لذا أصدرنا قراراً بتجميد ملف هذه القضية إلي إشعار اخر، وحفظنا للمدعي (ق ) حقه في تحريك هذا الملف متى ما تمكن من الحضور، علماً أن الرسوم القضائية التي دفعها لفتح هذا الملف كان مبلغاً كبيراً في ذلك الوقت. بعد اصدار قرار التجميد لاحظت وانا اتفحص ملامح وكيل المدعى عليهم عدم الارتياح، وكنت في قرارة نفسي أرجح أن إختفاء (ق) الغامض وفي هذا التوقيت بالذات لابد ان يكون له علاقة بهذه القضية التي أمامنا ولكني لا أملك دليلاً علي ذلك.

بعد مرورعامين ونصف من وصولنا إلي اغردات صدر قرار من رئيس القضاء بتكوين محكمة عليا خاصة بإقليم عنسبا ويكون مقرها كرن، وطلب مني ومن موظفي المحكمة التوجه الي بارنتو باعتبارها عاصمة الاقليم، وأن أقوم بتأسيس المحكمة العليا هناك، تنفيذاً لاوامر رئيس القضاء إستأجرنا مقراً جديداً للمحكمة وإنتقلنا إلي بارنتو واصطحبنا معنا كل الملفات التي كانت بحوزتنا، وأصبحت هذه المحكمة تسمى بالمحكمة العليا لاقليم القاش بركة.

بعد مرور عشر سنوات عدت قاضياً مرة اخري إلي بارنتو، تغيرت المدينة وتغيرت معها تلك الملامح الرمادية كما كان يصفها الصديق الجميل عبدالرحيم شنقب، مرت الايام عادية الي أن حدث شئ غير عادي في إحدى الايام تحديداً في آواخر مايو 2004 وانا عند المدخل الرئيسي لبوابة المحكمة كنت خارجاً لاحتساء القهوة في مقهي قريب من المحكمة توقفت عربة مغلقة تماماً كعربات الاسعاف أمام المحكمة ونزل منها (ق) ومعه شخص يرتدي الملابس المدنية وكان يبدو عليه التعب والارهاق، عدت الي مكتبي لاني أدركت أن هناك امر غير عادي وذاكرتي لم تخونني في التعرف علي (ق) من الوهلة الاولي وظهوره المفاجئ، دخلا من بعدي الي مكتبي وسلمني الشخص الذي كان يرافقه رسالة صادرة من مدير مكتب الامن الوطني لاقليم عنسبا (مقرهم كرن)، فتحت الرسالة وكان مضمونها كالاتي "كان المدعو (ق) قد فتح لديكم ملفاً قضائيا ًيطالب فيه بإسترداد قيمة ممتلكاته من بعض الاشخاص الذين استولوا علي ممتلكاته بغير مسوغ قانوني، حالياً يود أن يغلق ملف القضية لذا الرجاء عمل اللازم لإغلاق ملف قضيته وتزويده بما يؤكد ذلك" انتهى.

رسالة قصيرة جداً، ولكنها كانت كافية لاثارة دهشتي حينما قرأتها، وقلت لنفسي هذا الرجل لجأ الي المحكمة لاستراد حقه ودفع رسوما قضائية باهظة ما الذي دفعه الان ليطالب باغلاق ملف قضيته ؟ استطعت أن أتفهم ما جرى له لذا طلبت من الشخص الذي كان يرافقه أن ينتظر بالخارج قليلاً وأن يغلق الباب، تحدثت اليه علي إنفراد بمودة ومحبة لانه رجل كبير في السن وسالته لماذا تود إغلاق الملف ؟ هل انت مكره لفعل هذا ؟ والرجل صامت لا يتفوه بكلمة، لكي يطمئن قلت له انا لست فرد من الامن انا قاضي أحكى ما تود ان تقوله بكل حرية، احكي لي ما الذي جرى ؟ ومن هم الاشخاص الذين اختطفوك من منزلك ؟ وأين كنت كل هذه المدة ؟ خاطبني بأدب جم كعادة كل المسنين في بلادي والخوف يطل من بين عينيه قائلاً "يا بني أشكرك لحسن مشاعرك نحوى ولكني فقط أريد إغلاق هذا الملف ولا اريد شئ اخر" عرفت إنه لا يود الحديث في هذا الموضوع، ساعتها فهمت وقدرت مدى الضغط الذي تعرض له هذا الرجل الكبير في سجنه، وربما يعتقد في قرارة نفسه وحسب درجة تعليمه ان الامن والمحكمة وجهان لعملة واحدة، ولم اشاء أن أوجه اليه المزيد من الاسئلة حتي لا أزيد عذابه، قلت له حسنا سافعل ما تريد اذا كانت هذه رغبتك.

هز رأسه موافقاً،حينها طلبت من الشخص الذي كان مرافقاً له ان يدخل، وقلت له لقد قرأت الخطاب الذي جئت به ولكننا لا نستطيع اغلاق الملف بهذا الخطاب، لذا اذا كان هذا الشخص حقا ًيريد اغلاق ملفه يجب ان يقدم طلبا مكتوبا للمحكمة وموقعاً بخط يده، قال لي حسنا سوف نفعل ما طلبته حالاً ومن ثم قام باقتياد (ق) إلي وسط المدينة حتى يتمكن من كتابة طلبه في إحدى محلات كتابة العرائض، بعد وقت قصير عادوا مرة اخرى حاملين معهم طلب إغلاق الملف، ووقع عليه امامي، اجتمعنا نحن قضاة المحكمة الثلاثة وقمنا بغلق ملف القضية بناء علي طلبه، في مثل هذه الحالات تصاب بالاحباط والاختناق معاً لانك لا تستطيع ان تفعل شيئا ًاكثر من ذلك، أن هذا الرجل المُسن رغم إنه لم يصرح بشئ الا انه كل الدلائل تشير الي إنه تعرض للاكراه وجرت مساومته بسحب القضية مقابل إطلاق سراحه.

مادخل جهاز الامن بموضوع سحب قضيته حتى يكلفوا انفسهم عناء احضاره من كرن الي بارنتو ؟ وما اهمية ذلك لجهاز الامن، الا اذا كان موضوع إعتقاله مرتبط بغلق هذه القضية. فيما بعد عرفت إن وراء هؤلاء الاشخاص الذين قدم الشكوى ضدهم (المدعي عليهم) جهات نافذة لها سطوتها وجبرتوها، الله غالب لكن الحساب يجمع.

تـابـعـونـا... فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة

Top
X

Right Click

No Right Click