شهادات مؤلمة - الحلقة الثالثة
بقلم مولانا: عبدالله خيار
للتدخل في سلطات المحاكم صور كثيرة وهذه صورة اخرى مختلفة، الكولونيل موسي وإستبداد العساكر.
في أحد الايام لا أذكر التاريخ بالضبط ولكني أعتقد في عام 2005 وقف أمام مكتبي في المحكمة العليا لاقليم القاش بركة ببارنتو رجل يرتدي زيا مدنياً وطلب مني الاذن بالدخول، سمحت له بالدخول وجلس في أول كرسى صادفه وعرفني بنفسه إنه الكولونيل (موسى) وهو مدير مكتب غرفة العمليات الخامسة وإنه جاء اليّ حاملاً رسالة شفهية من قبل الجنرال عندبرهان قرزقهير (وجو).
قلت له ما الامر ؟
قال: الجنرال يقول لك هناك إحدى السيدات لديها قضية في محكمتكم، هذه المرأة خانت وطنها وخانت زوجها لذا الجنرال يطلب منك ان لا تحكم لصالحها.
قلت: معذرة لم أفهم أي شئ ! عن أية امراة تتحدث ومادخل الجنرال بها ؟ وهل هذه المرأة لديها قضية أمام هذه المحكمة ؟
قال: نعم.
قلت: أعطني إسمها، سجلت الاسم علي ورقة صغيرة وضغطت علي الجرس وأستدعيت إحدى الموظفات وأعطيتها الورقة وطلبت منها أن تحضر لي ملف باسم هذه المرأة اذا كان لدينا ملف بهذا الاسم.
عادت بعد قليل وفي يدها الملف وسلمتني إياه، تفحصت الملف بشكل سريع ووجدته ملفاً عاديا خاصاً بين رجل وزوجته لم يتفقا في حياتهما أن يتعايشا بسلام لذا تقدمت الزوجة للمحكمة بعريضة دعوى تطلب فيه الانفصال حسب القانون المدني، في هذه الحالة المحكمة بعد تصريح الدعوى تطلب من الزوجين أن يحضر كل منها شخصين من أقاربه وأن يختارا شخص خامس يتفقا عليه، ومن ثم تقوم المحكمة باعطاء هذه اللجنة الاسريه توجيهات معينة في كيفية نظر الخلاف الحاصل بين الزوجين، وحينما يصدرون حكمهم بناء علي هذه التوجيهات عليهم الحضور مرة اخرى لتسجيل الحكم وتحدد لهم تاريخ الجلسة القادمة، لجنة الصلح هذه تسمى (بيت زمد شماقلي) ومهمتها تقتضي أن يستمعوا إلي الطرفين المتنازعين وإصدار حكماً في ثلاثة أمور مهمة أولاً هل العلاقة الزوجية سوف تستمر بينهما وهناك فسحة من الامل لمواصلة حياتهما الزوجية ام لا، في البداية لابد من دفعهم الي عودة الحياة الزوجية بينها، فاذا لم تكلل مساعيهم بالنجاح فانهم مضطرون لاعلان وقوع الطلاق بينهم، وفي حالة الحكم بالطلاق لابد ان يصدروا قرارين مهمين:-
أولا: إذا كانت لديهم ممتلكات وأموالاً مشتركة نتجت من بعد الزواج لابد من تقسيمها مناصفة بينهما.
ثانياً: فيما يخص نفقة الاطفال لابد ان تحدد قيمة هذه النفقة الشهرية حسب الدخل الشهري للزوج.
بعد إصدار الحكم يقوم الطرفان المتنازعان بالتوقيع علي مذكرة الحكم بجانب توقيع اعضاء اللجنة الخمسة. وثم يقوم رئيس اللجنة ومعه الطرفين بتسليم مذكرة الحكم الي المحكمة الاقليمية في الموعد المحدد لذلك، قاضي محكمة الاقليم هنا لا دورله ولا يتدخل في هذه المرحلة، فقط عليه تسجيل حكم اللجنة بموجب المادة 318/أ من قانون الاجراءات المدنية وإعطاء صورة من الحكم لكل طرف.
إذا كان احد الطرفين لم يقتنع بهذا الحكم له حق استنئاف قرار اللجنة الي المحكمة العليا.
لذا كان الملف الذي احضرته الموظفة ملفاً عادياً، اتبعت فيه الاجراءات المذكورة أعلاه وليس هناك شئ غير عادي في محتوياته.
بعدما فرغت من تصفح الملف سالت الكونيل هذه قضية مدنية عادية بين رجل وزوجته ما دخل مكتب العمليات بمثل هذه القضايا ؟
أجاب: هذه المرأة تم القبض عليها من قبل قوات حرس الحدود وهي هاربة الي السودان وتم سجنها في سجن ادارسر لمدة ستة شهور.
لذا نحن نعتبرها خائنة لانها خانت زوجها وخانت الوطن بهروبها، هذه المرأة بعد أن اكملت فترة سجنها، طلبت الطلاق من زوجها والان استأنفت لديكم، لذا الجنرال يطلب منك أن لا تحكم لهذه المرأة بأية ممتلكات.
قلت له وانا مستغربا من تدخلهم هذا ! انا لا علاقة لي بكل ماسردته الان، اذا ضُبطت في الحدود وهي هاربة وقمتم بسجنها لمدة ستة شهور فانها نالت جزاءها الذي حددتموه لها، أما هذا الملف المعروض امامي فهو ملف شخصي بين زوجين وهي تطالب فيه بحقوقها المدنية وانا لا استطيع ان احرمها من هذا الحق لمجرد انها حاولت الهروب الي السودان، لانه حسب المادة 651 من القانون المدني الاثيوبي الانتقالي المعمول به في ارتريا في حالة انفصال الزوجين لابد أن تقسم الاموال التي نتجت بعد الزواج مناصفة بين الزوجين فكيف لنا نحرمها من هذا الحق ؟
قال: هذا امر عسكري !!!
قلت: لكن نحن في المحكمة لسنا عساكر حتى تأتينا الأوامر من جهة عسكرية، أشرت إلي كومة القوانين الضخمة الموضوعة علي مكتبي وقلت له نحن نتلقى الاوامر من هذه الكتب فقط، وأنني خلال 14 عاماً عُمر تجربتي القضائية في ارتريا هذه أول مرة يتجرأ فيها شخص عسكري بالدخول الي محكمة ويطلب منّا كيف نصدر الاحكام.
قال: أنا جئتك موفداً من قبل الجنرال (وجو) وليس تدخلاً في عملكم.
قلت: كيف لي أن أعرف إنك موفداً وانت لم تحمل معك أي رسالة ؟
أجاب: هذا رقم هاتفه يمكنك الاتصال به للتأكد.
قلت: في كل الاحوال أنا لا أقبل مثل هذه التدخلات في عملي من أي شخصا ًكان، الناس هنا سواسية بحكم القانون ولا نعتمد في إصدار أحكامنا علي توجهات من أي جهات آخرى، وما تطلبونه الان ينصب في وعاء الفساد، وذكرته أن رئيس القضاء نفسه وهو مسؤلي المباشر لا يستطيع أن يطلب مني ما تطلبونه أنتم الان. لان القاضي حر في اتخاذ قرارته التي يعتمد فيها علي القانون وليس علي شئ اخر غير القانون.
اخيراً قلت له الان فقط ومن خلال تدخلكم في هذه القضية تحديداً إستطعت أن أعرف أن زوجها يعمل لديكم ولذلك تحاولون مساعدته بطرق غير قانونية.
سكت ولم يجب وخرج من مكتبي ولم يتفوه بكلمة، للاسف كانت تلك هي البداية فقط لاستبداد العسكر وتدخلهم في كل شئ، توسعت دائرة المواجهات بيننا وبينهم سنعود إليها في وقت آخر، كانت تلك المواجهات غير متكافئة وحتما لم نستطيع الانتصار عليهم في الكثير من الاحيان لان الترهيب واستخدام القوة صار العنوان الواضح لكل مسارات الحياة، لذا فشلنا في حماية المواطن وإحقاق الحق برغم ما بذلناه من مجهودات لفرض هيبة القانون وحماية المواطنين، زادت سطوتهم وأصبحوا دولة داخل الدولة، لديهم سجونهم الخاصة بهم غير السجون النظامية، ولا يمكننا الاقتراب من تلك السجون لمعرفة من في داخلها، لانها شيدت داخل الثكنات العسكرية.
الله غالب سوف تشرق الشمس غداً.
تـابـعـونـا... فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة