شهادات مؤلمة - الحلقة الأولى

بقلم مولانا: عبدالله خيار

بعد تحرير ارتريا وبالتحديد في الاسبوع الاول من سبتمبر1991 تم تعيني مع قضاة آخرين قاضياً بمحكمة اقليم القاش ستيت.

عبدالله خيار

وتم الاعلان عبر القنوات الرسمية بأن المحاكم الارترية سوف تبدأ النظر والفصل في القضايا المدنية والجنائية اعتباراً من منتصف سبتمبر 1991.

بعد أداء مراسيم القسم تحت اشراف المدعي العام المناضل ادحنوم قبرماريام إتجهنا الي مدينة بارنتو عاصمة اقليم القاش ستيت تلك المدينة التي أعرفها جيداً لانني كنت قد مكثت فيها شهرين بعد التحرير مباشرة قادماً إليها من الساحل، لذا كنت أعرف جيداً طرقاتها الضيقة وأزقتها وأعرف تلك الوجوه السمراء التى تمنحك الابتسامة أينما حللت، نزلنا في إحدى فنادق المدينة العتيقة، وفي اليوم التالي ذهبنا لمقابلة حاكم الاقليم آنذاك المناضل جرمانو ناتي الذى رحب بنا وأعرب عن سعادته بافتتاح أول محكمة في إقليمه، ثم قام بعد ذلك باصطحابنا الي المقر الذي تم تحديده من قبل إداراة المدينة ليكون موقعاً للمحكمة وهو (الموقع الحالي للبنك العقاري) وأخبرنا ان بناية مكتب البريد الحالي سوف يخصص لسكننا.

بعد فترة وجيزة من بداية عملنا تفاجاءنا نحن القضاة في محكمة اقليم القاش ستيت بكثرة القضايا المدنية التي قُدمت من المواطنين ضد تنظيم الجبهة الشعبية. كانت تلك القضايا موجه ضد المناضلين جرمانو ناتي واستيفانوس بأعتبارهما مسؤولي الادارة في منطقة القاش قبل التحرير، وكانت المطالبات واضحة جدا في تلك القضايا، كان هؤلاء المواطنين يطالبون باسترداد ثرواتهم الحيوانية التي تمت مصادرتها من قبل تنظيم الجبهة الشعبية أثناء مرحلة الكفاح المسلح تحت دواعي النضال وأسباب اخرى مختلفة.

في البداية كانت الملفات التي تم تصريحها من المحكمة للنظر فيها لا تتجاوز الثلاثة ملفات، لكن سرعان ماوصل العدد الي 32 ملفأً. هنا حدث نقاش طويل بيننا نحن قضاة المحكمة الثلاثة هبتاب سيوم وقرماي تسفاظيون (برين) وشخصى، بعد نقاشات طويلة استمرت ليومين قدم قرماي اقتراحاً بان لا نتخذ قرارات سريعة في هذه الدعاوي قبل الرجوع لرئيس القضاة السيد طعمي بيني لان هذه القضايا تختلف طبيعتها عن الدعاوى الاخرى التي كنا ننظر فيها وانها تزداد يوما بعد آخر، وأقترح أن نذهب انا وهو الي اسمرا لمناقشة موضوع هذه الملفات مع رئيس القضاء، اتفقنا علي ذلك المقترح الذي قدمه قرماي وبالفعل ذهبنا انا وقرماي الي اسمرا حاملين معنا تلك الملفات.

قابلنا رئيس القضاء وعرضنا عليه تلك الملفات فكان رائه واضحاً قال لنا "اننا قمنا بفتح هذه المحاكم لتحقيق العدالة وبالتالي ليس لنا حق رفض أي دعوى قضائية ترفع إلينا حتى ولو كانت تلك الدعاوى ضد الحكومة أواي جهة اخرى" وأضاف لكن حتى تكتمل دائرة النقاش حول هذا الموضوع يجب أن أحدد موعداً مع وزيرالعدل المناضل رمضان محمد نور قبل عودتكما وسوف أبلغكم لاحقاً بموعد المقابلة مع الوزير. ضغط علي الجرس واستدعي سكرتيرته (مازا) وأبلغها أن تتولى أمر مصاريف إقامتنا في اسمرا بالتنسيق مع إداراة الشئؤن المالية لحين مقابلة الوزير.

بعد يومين من مقابلة رئيس القضاء تم إستدعائنا والتقينا في مكتب وزير العدل رمضان، بعد تبادل التحايا طلب مني رئيس القضاء طعمي أن أشرح لسعادة الوزير أمر تلك الملفات بالتفصيل. إستمع اليّ بهدوء غير عادي، وبعد أن فرغت من الشرح سألني الوزير عن عدد تلك القضايا فاجبته أن الملفات التي نحملها معنا الان عددها 32 ملفا ً، توجه بنظره الي رئيس القضاء وسأله عن رائه في أمر هذه الملفات ؟ كرر له طعمي ما قاله لنا سابقاً، صمت الوزير طويلاً وفجاءة طرح السؤال التالي هل تعلمون ما معني ان نقبل فتح مثل هذه الملفات ؟ هذا يعنى "اننا اذا سمحنا للمواطنين بتقديم مثل هذه القضايا التي حدثت أثناء فترة الكفاح المسلح للمحاكم، فاننا بذلك سوف نفتح باباً لاثارة الكثير من القضايا بما في ذلك قضايا القتل التي حدثت في تلك الفترة".

لم يكترث رئيس القضاء لسؤال الوزير لانه ينظر الي أمر تلك الملفات نظرة قانونيه بينما الوزير ينظر الي تلك الملفات من زاوية سياسة بحتة، اخيرا ًرئيس القضاء أصرعلي رائه في هذا الموضوع وقال للوزير بكل شجاعة "تنظيم الجبهة الشعبية ليس فوق القانون ونحن لا يمكن ان نمنع اي مواطن من التقدم بشكواه الي محاكمنا تحت اي مبرر، يجب ان نفتح ملف لكل قضية بعد أن يقوم صاحب الدعوى بدفع الرسوم القضائية، واردف قائلاً" إن حسم مثل هذه القضايا من صميم عملنا، أما موضوع إصدار الاحكام في مثل هذه القضايا فهو أمر آخر تماماً حيث إنه يمر بمجموعة من الاجراءات القانونية وكل قضية من هذه القضايا سوف تنظر لوحدها وعلي الاشخاص أصحاب هذه الدعاوى تقديم ما يثبت أن تنظيم الجبهة الشعبية صادر ممتلكاتهم، وعلي القضاة بعد ذلك ان يصدروا الاحكام التي يرونها مناسبة وللطرفين حق استئناف تلك الاحكام، أما ان نمنع المواطن من تقديم شكواه الي المحاكم هو أمر غير قانوني وانا لا اقبل به، وأوضح أن المحاكم وحدها هي الجهة المخولة بحسم مثل هذه النزاعات بنزاهة وشفافية. (انتهى الاجتماع)

خرجنا من ذلك الاجتماع وودعنا رئيس القضاء وأوصانا بأن نبذل المزيد من الجهد حتى نصبح خير ممثلين للعدالة في تلك المنطقة، وأوصانا أيضاً أن نتعاون مع أقسام الشرطة المنتشرة هناك نسبة لضعف تجربتهم وقلة خبراتهم القانونية، وأكد لنا انه سوف يقوم بجولة للوقوف علي وضع المحاكم وانه سوف يزورنا قريباً، حقا كنت سعيداً في ذلك اليوم لان رحلتنا الي اسمرا كانت موفقة وفرحت لان لدينا مسؤولين يتحلون بهذه الروح الطيبة وبهذه الشجاعة والنزاهة.

عدت الي الفندق لاحقاً وعلامات السعادة ظاهرة في ملامحي نمت جيداً وأستيقظت باكراً والتقيت بزميلي قرماي في عداقا حموس وعدنا إلي بارنتو ونحن اكثر ثقة فيما كنا نؤمن به من تحقيق العدالة في هذا البلد الوليد، وبدأنا النظر في أمر تلك الدعاوي حسب توجيهات رئيس القضاء إلي أن وصلنا في ذات يوماً أمراً مكتوباً بان نتوقف عن النظر في تلك الدعاوي وغلق جميع الملفات التي بحوزتنا، كان قراراً صادماً لنا ولأصحاب تلك الملفات، حسب ما قمت برصده كان ذلك اول تدخل من السلطة التنفيذية في عمل السلطة القضائية، أريد بذلك القرار ان يكون خنجراً في خصر العدالة ورمحاً في قلب القانون وسهماً في رئة المحاكم، يومها تأكد لنا أن استقلالية القضاء ستكون علي المحك، وشعرنا جميعاً بالعجز والخيبة والإحباط، كل ما إستطعنا فعله إننا قمنا بتجميد تلك الملفات ولم نغلقها، عسى يوماً ما يستطيع أصحابها تحريك ملفاتهم دون أن تقع تلك الملفات في دائرة التقادم. وهناك فرق كبير بين إغلاق وتجميد ملف القضية لأسباب خاصة من الناحية القانونية.

تـابـعـونـا... فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة

Top
X

Right Click

No Right Click