إريتريا.. أبواب مغلقة ومفاتيح ضائعة

بقلم الأستاذ: عبدالجليل سليمان - كاتب وصحافي سوداني  المصدر: حفريات

"إنها مثال استثنائي لتطبيق المعايير المعمارية للحضارة الغربية في سياق إفريقي"،

بهذه العبارة وصفت لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو العاصمة الإريترية أسمرا، حينما أدرجتها على لائحة التراث العالمي.

انغلقت إريتريا على نفسها حدّ الانكفاء حتى أنّها نالت لقب كوريا الشمالية الإفريقية

على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر، وبمساحة 124 ألف كيلو متر مربع، تشغل إرتيريا حيزاً جيواستراتيجي يمسك بـ (مقبض) باب المندب من جهة، وبخاصرة شبه جزيرة العرب من أخرى، والمتأمل لخريطتها لن يستغرق وقتاً طويلاً ليكتشف أنّها تشبه "الغيتار"، لكن، لا موقعها، ولا تصنيف اليونسكو لعاصمتها، ولا (قيثاريتها)، شفعت لمواطنيها أن ينعموا بمزاياها، فما أن ظهرت الدولة الوليدة إلى الوجود العام 1991، بعد ثورة مسلحة ضدّ الاستعمار الإثيوبي، استمرت 30 عاماً، اجترح خلالها الإريتريون من البطولات ما يشبه المُعجزات، حتى، يمّم شعبها مُجدداً صوب الملاجئ والشتات، وكأنما ذهبت كل تضحياته أدراج الريح، فالحكومة ذات الشرعية الثورية القائمة إلى اللحظة بذلت ما بوسعها وما هو أكثر منه لتشريد المواطنين العائدين من طول لجوء إلى وطنهم الحر، ثم أغلقت أبوابها أمام من تبقى وختمت عليها بالشمع الأحمر عبارة"ممنوع الخروج".

دولة حرب:

ما كان لدولة لها موقع إريتريا أن تنغلق على نفسها حدّ الانكفاء الماثل، حتى أنّها نالت لقب (كوريا الشمالية) الإفريقية عن جدارة واستحقاق، فما أن أعلنت استقلالها رسمياً عن إثيوبيا عبر استفتاء شعبي أجرته الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا بقيادة الرئيس الحالي "أسياس أف ورقي"، العام 1993، لينال عبره الشعب الإريتري اعترافاً دولياً، ويرفرف بموجبه علمه على ساريات الأمم المتحدة، حتى انخرطت حكومتها (المؤقتة) حينها، وربما إلى الآن، لا أحد يعرف، في مشاكسات لا تتناسب مع حجم دولته مع كافة جيرانها، فابتدرت حرباً مع جيبوتي بحجة نزاع حدودي، ثم اتجهت إلى اليمن تنازعها على جزيرة حنيش وتحتلها، وتأسر ضباطاً وجنوداً يمنيين، ليتضح لاحقاً عبر التحكيم الدولي أنّ الجزيرة يمنية خالصة، وما إن وضعت حربها مع اليمن أوزارها، حتى جاءت بالمعارضة السودانية المسلحة لتشن حرباً على جارتها الأقرب إليها وجدانياً، وتغلق الحدود معها، وقبل أن تنهي نزاعها معها توجهت نحو حليفتها الإستراتيجية (إثيوبيا)، لتخوض معها حرباً ضروساً مدمرة (1998–2000) على مثلث بادمبي الحدودي الصخري، راح ضحيتها آلاف الشبان من الجانبين، خاصة الإرتيري، وانتهت بهزيمة إرتيريا واحتلال أثيوبيا لكافة المناطق الحدودية المتنازع عليها.

بداية الانكفاء والانغلاق:

بعيد الحرب مع إثيوبيا، لم تجد الحكومة الإريترية المرهقة بُدّاً من إطلاق الحريات "مجبرة"، لكنها لم تلبث إلّا قليلاً، حتى عادت واعتقلت آلاف المناهضين لسياستها وأغلقت الصحف المستقلة، وزجّت بالصحافيين ورجال الدين "خاصة الإسلاميين" في السجون، دون توجيه اتهامات، أو عقد محاكمات، وما يزال هؤلاء رهن الاعتقال في أماكن مجهولة، ولا يعرف أحد عنهم شيئاً، ومن يسأل فما عليه إلّا أن يستعد ليلحق بهم.

بعيد الحرب مع إثيوبيا لم تجد الحكومة الإريترية المرهقة بُدّاً من إطلاق الحريات مجبرة إلى حين

أعلنت الحكومة أنّ برنامج الخدمة العسكرية للطلاب والموظفين غير محدد الأعوام، مبررة ذلك بأنّ البلاد في حالة حرب مع جيرانها، لذلك لا بد من الاحتفاظ بجيش احتياطي كبير، فيما لم تؤسّس لجيش نظامي حتى الآن؛ إذ إنّ إرتيريا تعدّ الدولة الوحيدة في العالم التي لا تمتلك جيشاً منظماً يتمتع بتراتبية إدراية ووحدات عسكرية منظمة، بل هو تجمع للمليشيات الثورية والقوات الاحتياطية المؤلَّفة من الثوار السابقين، ومجندّي الخدمة العسكرية الإلزامية، الأمر الذي دفع بكل من تيسرت له السبل من هؤلاء بالهرب إلى السودان، ومن ثم البحث عن وطن بديل في أصقاع العالم، فهرب الإرتيريون بعد استقلال بلادهم كما لم يهربوا إبان الاستعمار (الإيطالي، والإنجليزي، والإثيوبي)؟

لابيكولا روما.. يوتوبيا حضرية:

رغم كل تلك المشقة والعنت، إلا أنّ الإرتيريين يعدّون من الشعوب الخلاقة والمبدعة والمسالمة، كما أنّهم وطنيون يحبون بلادهم حد الهوس، رغم أن كثيرون منهم لم يروها، كوّنهم وُلدوا ونشؤوا في الشتات؛ ما بين السودان، وإثيوبيا، والسعودية، واليمن، ومصر، وأوروبا، وأستراليا، وكندا، والولايات المتحدة الأميركية، فإلى الآن لا يعرف أحد كم تبقى منهم داخل وطنهم، وهم البالغ عددهم نحو 6 ملايين نسمة على أكثر تقدير!

مصوع ميناء إرتيريا الرئيس نزل فيها صحابة الرسول عليه السلام الذين أمرهم بالهجرة إلى الحبشة

يحتفي الإرتيريون بمدنهم الجميلة أيّما احتفاء، خاصة المدن الثلاث الرئيسة (أسمرا ومصوع وكرن)، فالأولى هي العاصمة الراهنة، وعاصمة الرابطة في الإمبراطورية الرومانية الجديدة (ايطاليا الفاشية)؛ إذ أرادها موسوليني مركزاً إدارياً لإفريقيا الشرقية الإيطالية، فبناها الطليان على نسق روما وأطلقوا عليها"La Piccola Roma" ؛ أي روما الصغيرة.

ففي العام 1890، وبمجيء الطليان إلى القرن الإفريقي، تغيّر كل شيء في القرية الصغيرة الوادعة المستلقية على ارتفاع 2500 متر فوق سطح البحر، على مرتفعات (كبسا) الإرتيرية، بدأ العمل في تحديث قرية (أسمرا) بطيئاً، وما كانت وتيرته لتتسارع لولا وصول المهندس الإيطالي البارع "أودواردو كافاجاناري" العام 1910، الذي لم يلبث ثلاثة أسابيع حتى وضع الخطة المعمارية الرئيسة للمدينة على نسق (روما) ، ثم استدعى إليها المعماريين والمهندسين الإيطاليين، ليحوّلوها إلى يوتوبيا حضرية مليئة بالسينمات والمقاهي والدراجات المستوردة وسيارات الفيات وأشجار الجميز، ونسق الآرت ديكو المعماري الرائع، ويقول كافاجاناري: "المباني تؤثّر في سلوك السكان، فعندما تكون جميلة تجعلهم أكثر لطفاً وتحضراً، شخصية المدينة المعمارية تخلق شخصية قاطنيها".

جامع الصحابة:

ليست أسمرا وحدها من تأخذ بألباب زائريها، فميناء إريتريا الرئيس (مصوع)، والجزر التابعة له (أرخبيل دهلك)، يحيل مباشرة إلى الجزيرة العربية ومصر والعثمانيين الأتراك، ولأنّ مصوع تعرفت إلى الإسلام حتى قبل أن يتعرف إليه جيداً أهل مكة والمدينة، حيث نزل فيها صحابة الرسول الكريم، عليه السلام، الذين أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وقبل أن يتوّغلوا إلى أكسوم عاصمة النجاشي، بنوا فيها مسجداً من اللبن لا تزال بقاياه قائمة ومحجوزة كآثار، وما يزال الأهالي هناك يطلقون عليه (جامع الصحابة). وفي عهد الأموييين والعباسيين هاجرت بعض القبائل العربية إلى إريتريا، وقطنت أرخبيل دهلك التابع لمصوع على البحر الأحمر، وأنشأت إمارة إسلامية تابعة لما يسميها المؤرّخون بإمارات الطراز الإسلامي على الساحل الأفريقي للبحر الأحمر، التي استمرت إلى أن خضعت، العام 1865، بموجب فرمان عثماني، إلى سلطة المصريين بحجة حماية الأماكن المقدسة في الجهة المقابلة (الحجاز)، إلى أن آلت للإيطاليين العام 1882، ثم إلى إثيوبيا، هي وكل إرتيريا العام 1952.

ويتميّز معمار جزيرة مصوع بالآرشات والأقواس والمشربيات على النسق العثماني والعربي، إلا أنّ جلّ مبانيها تضرّرت جراء الحرب، ولم تتمكن الحكومة الإرتيرية، المشغولة بشنّ الحروب هنا وهناك، من أن ترمم إلا جزءاً يسيراً منها، كما يتميز ساحلها بالتنوع البيئي والرمال البيضاء النظيفة وغير الملوثة.

دار الهلاك ومنفى ابن أبي ربيعة:

تتبع إريتريا 126 جزيرة، أهمها أرخبيل دهلك وبه نحو 26 جزيرة، أهمّها جزر "فاطمة ونورا وحالب"، التي يسكنها هجين من السكان تعود أصولهم إلى الأمويين والحضارمة والحجازيين، علاوة على السكان المحليين (التيغري والدناكل)، ويقال إنّ الأمويين، ومن بعدهم العباسيون، اتخدوها منفى لمناوئيهم السياسيين وللشعراء الذين يتشبّبون بالنساء، ولكل من لا يرغبون به، وأطلقوا عليها "دار الهلاك" تعريباً لكلمة (دهلك) المحلية.

ويورد المؤرخ البريطاني "أ. بول"، في كتاب "تاريخ قبائل البجا بشرق السودان": "عبر السبئيون، الذين كانوا يشكّلون القوة الغالبة في جنوب الجزيرة العربية، البحر الأحمر بحثاً عن التجارة، واحتلوا جزيرة دهلك الساحلية، ومن ثم توغّلوا إلى الداخل ليستقروا في أرض تقرنيا،الواقعة الآن فيما يعرف بـ (إريتريا وإثيوبيا)، كان ذلك بزمن سحيق من مجيء المسيح، قد يكون ذلك العام 1000 قبل الميلاد، أو العام 600 قبل الميلاد". ويقول عنها ياقوت الحموي، في كتابه "معجم البلدان :"دهلك اسم أعجمي معرَّب، وهي جزيرة في بحر اليمن، وهو مرسى بين بلاد اليمن والحبشة، بلدة ضيقة حرجة، كان بنو أمية إذا سخطوا على أحد نفوه إليها، ومن أشهر من نفي إليها الشاعر عمر بن أبي ربيعة، الذي تطرق إلى العديد من النساء في شعره وتعرض لهن، وحيث ضاق بعبثه الخليفة عمر بن عبد العزيز نفاه إلى جزيرة دهلك حتى مات هناك.

البلاد الحمراء:

في طبيعة الحال؛ لن تنتهي صورة إريتريا في الحيز الضيق، لكنها تبدو أكثر وضوحاً الآن؛ اسم إرتيريا لم يكن معروفاً إلا بعد احتلال الإيطاليين لهذا الجزء من الحبشة، فاستفادوا من الاسم اليوناني للبحر الأحمر "سينوس إريتريوم"، وأطلقوا على مستعمرتهم الجديدة في القرن الإفريقي (إريتريا)، إحالة إلى (إرتيريوم)، وتعني الحمراء.

تتبع إريتريا 126 جزيرة أهمها أرخبيل دهلك وبه نحو 26 جزيرة أهمّها جزر "فاطمة ونورا وحالب"

الآن، وبعد أن أريقت من أجلها الدماء القانية والأرواح الغالية، تبدو الحمراء مقفرة يباباً، مغلقة وعصية، الداخل إليها مفقود والخارج منها مفقود، لا أحد بمقدوره الاستمتاع بشواطئ مصوع، وجمال أسمرا، وبهاء كرن، لا أحد يعرف شيئاً عنها أكثر مما هو في هذه الصورة، فقد فاق النظام القائم هناك نظام مؤسسها عاصمتها (موسوليني) ورهطه فاشية وانغلاقًا، لكن ربما تولي آبي أحمد علي رئاسة الوزراء في جارتها ومُسْتعمِرتها السابقة إثيوبيا، ودعوته إلى السلام مع جارته وخصمه اللدود، واستجابة الأخيرة لها (للمرة الأولى)، يجعل الأبواب الموصدة تنفتح، ولو قليلًا، فتخضرّ الحمراء، وتزهر مجدداً.

Top
X

Right Click

No Right Click