الإسياسية: من حلم إقامة دولة أكسوم وحكم الدولتين إلي انهيار الخيال وحكم الفرد - الحلقة الحادية عشر والأخيرة
بقلم الأستاذ: الحسين علي كرار
رؤية المستقبل الأمثل و شكل الدولة ونظام الحكم: كما هو معروف أن الدولة تتكون من عناصر الأرض والشعب والنظام فإذا انعدم
منها عنصر انعدمت الدولة، كما نعرف كذلك أن الاعتراف بالدولة لا يعني الاعتراف بالنظام، فإذا توفرت العناصر الثلاثة لتكوين الدولة وتوفر الاعتراف الدولي بها أصبحت الدولة مستقلة و ما يعنينا هنا هو إلى أي مدى هو الاستقلال ؟ وهل في عالم اليوم توجد دولة مستقلة استقلالا كاملا وتصرف أمورها كما تشاء دون تدخل الآخرين ؟ وإذا كانت عاجزة أليس يعني ذلك أنها منقوصة الاستقلال؟(1) فرّق فقهاء القانون العام بين الدول بأحجامها الفعلية، فهناك دول على المطلق تعتمد على المعونات فبالنسبة لها المساعدات الخارجية مسألة حياة أو موت، ودول متوسطة يتأثر اقتصادها على المدى الطويل ولكن بإمكانها أن لا تعتمد على المعونات الخارجية، ودول غنية تهيمن على الدول بهذه المعونات، فلا توجد مساواة بين الدول في هذا المعيار وهو الذي يسير عليه العالم، بمعنى أن الدول التي لا تستغني عن المعونات هي دول منقوصة الاستقلال، فحصروا المساواة بين الدول أمام القانون فقط، فلكل دولة صوت واحد مثلها مثل الدولة الكبرى مهما كان حجمها، وأصبحت الدول الصغرى هي المستفيدة فأصبحت تبيع صوتها لمن دفع لها من الكبار فقال الفقهاء الدوليون من هنا جاء حق (الفيتو) للكبار لكي تحمي هذه الدول مصالحها بين بعضها ومن أجل حفظ الأمن والسلم الدوليين فقضوا على حق المساواة أمام القانون أيضا فأصبحت أصوات الدول التي لا تملك حق الفيتو تباع في حارات الكبار بالاستقطاب والترغيب والترهيب، فحقيقة عالم اليوم هو عالم تحكمه شريعة الغاب، وتكون الكلمة فيه للأقوياء، ويموت فيه الأغبياء، ويعيش فيه الأذكياء، فإذا سقط لك عمود كهرباء كبير الحجم وأنت لا تستطيع أن تثبته نتيجة لعدم اكتمال نموك أو هرمت قواك ماذا ستفعل ؟ فهل تتركه وتقتل شعبك بانعدام الكهرباء وتعيش في الظلام كما هو حال النظام الذي فقد التقدير فشرّع السخرة للتنمية فلا نميّ ولا أسعد ولا سعد ؟ أم تستعين بالمقتدرين لتثبيته وتنظم علاقتك معهم بذكاء وتقدم أفضل الخدمات لشعبك وسط المخاطر وتحافظ على كيانك دون عنتريات لا تملك مقوماتها، فارتريا دولة حديثة الاستقلال لا تستغني عن المعونات الخارجية لبناء بنيتها التحتية، فعالم اليوم لا يوجد فيه استقلال بمفهومه المطلق.
فالعالم أصبح قرية فهو عالم المعلومات والاتصال، عالم المعارف والمصالح المشتركة،عالم القوة لمن يملك عواملها، عالم اللوبيات التي تتحكم فيه علاقات متشابكة معقدة فدولة مثل الولايات المتحدة التي تهيمن على العالم وتملك كل وسائل المقدرة نجد ببساطة تتحكم فيها دولة إسرائيل وتنتقص من سيادتها وتتدخل في قرارها الداخلي بما تملكه من لوبي مهيمن على وسائل اتخاذ القرار داخلها. فهو عالم الأذكياء الذين يعيشون وسط هذه الغابات ويعرفون كيف يدرّون منها الأرباح ويجلبون المنافع لشعوبهم ويؤمّنون لها متطلبات الحياة العصرية دون المساس بكرامتهم ولو كانت دولهم فقيرة وضعيفة دون أن يتشدقوا بالمصطلحات المغناطيسية التي يخدرون بها شعوبهم لعجزهم في التنمية ولحماية أنظمتهم البوليسية فإذا انعدم الأمن الغذائي انعدم الأمن السياسي، فالنظام الارتري الذي يتشدق بحماية الاستقلال وانغلاقه بحجة حمايته والهروب إلى مستنقع تدمير الدولة هو نظام عاجز عن التخطيط والإبداع والابتكار والإدارة والتعامل مع المخاطر ولهذا عمد أن يكون الشعب ضحيته بالسخرة لتأمين متطلبات رفاهية كوادره لشراء ولاءهم لضمان استمرارية وجوده وجعل من إعلامه الكاذب أفيون يخدر به البسطاء، فضمان استقلال الدولة وقرارها لا يتأتى إلا من خلال فهم واقع العالم والتعامل وفق معاييره دون الانغلاق وإدخال الرؤوس في الرمال، ودون التفريط في استقلال القرار، فلا بد أن نتعامل مع دول العالم ودول الجوار بذكاء فالأثيوبيون كان بيننا وبينهم عداء ويجب أن ينتهي باعترافهم باستقلالنا ومسألة رسم الحدود لا تستوجب هذا العداء ويجب أن ندير مصالحنا ومصالحهم في الموانئ ونحن في حاجة إلى أسواقهم الكبيرة كما هم في حاجة إلى موانئنا كما هو الحال بالنسبة للسودان فارتريا تقع بين دولتين كبيرتين بكل المعنى ولهذا يجب أن تستفيد من هذا الموقع. لأن ارتريا دولة صغيرة ومصادرها المائية محدودة ونجد يتقاتل شعبها على الأودية الموسمية المحدودة فهي لا تستطيع الاعتماد على الزراعة ولا على الثروة الحيوانية وليست دولة صناعية ولهذا يجب دعم الاستقلال بدعم الاقتصاد المنوع ويكون عموده الفقري تقديم الخدمات مما تملكه من عناصر قوية لتكون رائدة في المنطقة بجذب رؤوس الاموال من بنوك وفنادق واستثمارات عالمية لموقعها الاستراتيجي، فافريقيا الواعدة ستكون مركز قادم للاقتصاد العالمي لما تملكه من ارض بكر وثروات مائية ومعدنية هائلة، فلا بد ان تاخذ ارتريا موقع السبق في ذلك فهي تملك اكبر شاطئ على البحر الاحمر وتطل على دول الخليج الغنية التي تبحث عن الاستثماربرؤوس أموالها وهي بين دولتين كبيرتين اقتصاديا وبشريا وما تملكه من بنية تحتية قوية تركها الاستعمار كذلك الكادر المؤهل فالشتات والحروب جعلت من الشعب الارتري أوعى شعب في المنطقة ويملك معارف متنوعة و ما تعدمه ارتريا هو الاستقرارالذي يجب ان يكون سائدا وعلاج الخلل الموجود سياسيا واقتصاديا، برؤيا شاملة في ظل نظام مستقر يسوده العدل والمساواة والحرية والديمقراطية هذه الرؤيا هي المثلى التي تحمي الإستقلال، ولم نقرأ ولو بشكل عابر برنامج للمعارضة (التحالف) يتناول رؤيتهم عن اقتصاد الدولة وهو الأهم، نسمع منهم الإدانات ونقرأ البيانات، ويرفضون السخرة ويريدون أن ينصفوا المهمشين ويعوضوا المظلومين، ولكن كيف ؟ إذا سقط النظام بفعلهم أو بفعل فاعل غدا ما هو تصورهم، هل القاعدة : هي بركة الاستمرار بالموجود حتى يأتي فرج الاجتهاد ؟
من الملاحظ إن الإرهاب الفكري الذي فرضته الاسياسية أصبح يسيطر حتى علي ذهنية المعارضة الارترية التي أصبحت لا تستطيع حتى الإفصاح عن علاقاتها المستقبلية مع العالم خاصة مع أثيوبيا، لوصف الاسياسية لها بالعمالة ولهذا في رؤيتها الكثير من الضبابية والخوف من الراي العام فكيف تستطيع أن تصيغ برنامجها الاقتصادي الذي يتطلب منها بداية تحريك الموانئ المغلقة ولهذا هي في حالة انتظار وترقب الأحداث وتوجس كما يتوجس الأثيوبين وغيرهم من برامها في المستقبل.
- قسم فقهاء القانون العام شكل الدولة إلى قسمين : دولة بسيط، ودولة مركبة والدولة المركبة بدورها تنقسم إلى دول اتحاد تعاهدي أو دول اتحاد كونفيدرالي أو دول اتحاد فيدرالي، والاتحاد الفيدرالي ينشأ (2)
بعاملين:
إما باتفاق بين دول مستقلة تتنازل برضاها عن سيادتها وتقبل باستقلالها المنقوص لصالح الكيان الجديد وتكون خاضعة لقوانينه وهيئاته لمصلحة مشتركة وإما ينشأ بتفكك الدولة البسيطة من الداخل لاعتبارات كثيرة داخلية فتتحول من دولة بسيطة إلى دولة فيدرالية مركبة حفاظا على وحدة ترابها ونسيجها الاجتماعي.
ونجد في ارتريا اليوم من يطالب بالفيدرالية بمعني أن تتحول الأقاليم إلى ولايات ويكون لها دساتيرها وتشريعاتها وهيئاتها المحلية وتكون هناك الدولة الاتحادية بدستورها وتشريعها وهيئاتها العليا،ولكن اختارت المفوضية الحكم الإقليمي اللامركزي لنظام الحكم في شكل الدولة البسيطة لأن الفرق بين النظام الفيدرالي ونظام الحكم الإقليمي فارق في الدرجة في قوة الهيئات وقوة القانون، وهي لا تملك أكثر من ذلك لأن النظام الفيدرالي يحتاج لإرادة الشعب بالإنتخاب ولكن المعضلة في المستقبل هي سوف لا يكون اتفاق بين الأقاليم في شكل الدولة البعض سيريدها فيدرالية والآخر لامركزية إقليمية، فهي معضلة قائمة. ولكن نقف على الفقرة (4) التي وردت في الأحكام الأساسية في الدستور المقترح نصها (تقوم الوحدة الارترية علي الإختيار والطواعية بين جميع أبناء ارتريا).
هذه الخصوصية أعتقد ينص عليها في النظام الفيدرالي لأن الدول التي تتكون منه إنضمت إليه طواعية ومن حقها الإنفصال أو البقاء.
فهل ميزة الفيدرالية متوفرة في النظام المقترح ؟ أعتقد هذا خلط وهو ناشئ لتخبط في الرؤيا لعلاج مسائل معينة، وهوحق لا تملكه المفوضية بدليل أنها تركت الفيدرالية لإختيار الشعب في المستقبل كذلك ماورد في المادة (76) تتكون السلطة التفيذية في الأقاليم الأرترية من حكام الأقاليم وعدد من الوزراء التنفيذيين على أن يوافق عليها مجلس رأس الدولة ومجلس الوزراء الإتحادي والمجلس التشريعي الإقليمي بمرسوم) يكون هذا النص معقولا إذا كنا من الشعوب المتحضرة التي تحترم القوانين واختيارات الشعوب، ولكن إذا إعترض مجلس رأس الدولة او مجلس الوزراء الاتحادي علي بعض الوزراء ماذا سيكون مصير السلطة التنفيذية في الإقليم هل ستخضع للمركز أم. لا ؟ فالسلطة هنا في واقعها مركزية و إن المادة ظاهرها فيه الرحمة للأقاليم التي ستتمتع بالحكم الإقليمي وستحكم نفسها بأبنائها ولكن من قبل باطن هذه المادة سيأتي عذاب الأقوياء للأقاليم المضطهدة والمهمشة.
و لمستقبل ارتريا أي النظامين أفضل هل النظام اللامركزي المقترح أم النظام الفيدرالي ؟ برأيي النظام الفيدرالي هو الامثل لحل مشاكل ارتريا المستعصية منذ أربعينات القرن الماضي لأن النظام اللامركزي الدولة فيه بسيطة في تكوينها وإعطاء الأقاليم بعض السلطات للتنمية بإمكان السلطة المركزية أن تلغيه ونشاهد في كثير من دول العالم الثالث الرؤساء يلغون حتى الدساتير ومن يضمن أن النظام اللامركزي سيحترمه القادمون ؟
ولكن من الصعب إلغاء النظام الفيدرالي، القائم علي الأقاليم وليس علي القوميات التي لا تملك المقومات، والإسياسية ألغت الشعب الارتري وثقافاته وحرفت عاداته وتقاليده ومزّقته وأشعلت فيه نار القوميات وأججتها وهيمنت طائفيا على كل مقدراته وجعلته في خدمتها ولم يستطع أحد أن يردها لأنها إمتلكت كل وسائل القوة في الدولة ولهذا لا يستطيع الآخرون حماية أنفسهم من الدولة إلا بنظام فيدرالي حتى المعارضة لا تستطيع حمايتهم لأنها لا تملك وسائل القوة بالإضافة لهذا فإن التجرنية ستدعمهم أثيوبيا لمصالحها لأن إختلافها الحالي معهم آنى كذلك مدعومون من الغرب وهو الذي أوصلهم السلطة ودعمهم وهم تحت رعايته، فهذه القوة المسلمون لا يملكونها وهم المستهدفون والممزقون والمكشوفون دون غطاء، وأقاليمهم هي المباحة، فالإسياسية حاليا تدعم المعارضة الأثيوبية بكل الوسائل، ولكن تجرنية تجراي متحفظون من تسليح المعارضة الأرترية وفي أكثريتها إسلامية هدفهم واضح هو تغيير رأس النظام مع إبقاء مصالح التجرنية المكتسبة في أرتريا ليكون التفاهم مع إخوتهم بعد ذلك لتحقيق المعادلة، والمعادلة الأخرى هي مصالح الغرب المرتبطة بالتجرنية في ارتريا ومواقفهم المؤثرة في الأوضاع منذ عهد الفيدرالية، فهم يفضلون دكتاتورية التجرنية الذين يعيشون في المحيط الإسلامي على ديمقراطية المسلمين.
إن ارتريا دولة حديثة النشأة تعاني من نظام دكتاتوري طائفي في سبيل بقائه وهيمنته زرع كل وسائل التفرقة والتمييز والإثارة داخل المجتمع وأصبح غير التقرنية خائف من هذه السيطرة والغطرسة والتزوير في تأريخ النضال والعنف الزائد والإعتقلات العشوائية وتصفية الحسابات السياسية والتجهيل بتدريس اللهجات ومحاربة العربية وظلم الأقاليم وإضطهادها حتى إذا تغير النظام فهذه الرؤيا هي السائدة لأنها كانت سائدة منذ الاربعينات ولهذا يريد الخائفون الملاذ الآمن داخل الدولة فالفيدرالية وهي صمام الأمان لهؤلاء المتخوفين وهي التي تعيد توازن المصالح بين مكونات الشعب فإذا تم حل هوية الدولة في شكل الدولة فلا تكون هناك صعوبة في تحديد نظام الحكم غير الشمولي سواء كان برلماني أو رئاسي نظام تكون ثقافته قبول الآخر ويحفظ حقوق الإنسان نظام ديقراطي يكفل حقوق الجميع نظام يحترم حق الحياة حق العقيدة حق الملكية حق الحرية الفردية وحريات الرأي والفكر والإجتماع والإعلام، نظام يكون فيه القضاء مستقل لا يخضع للرقابة، نظام تكون راضية عنه مختلف القوى السياسية بعيدا عن الإيديولوجيات نظام مدني يحقق المساواة والعدالة بين أفراد المجتمع تكون مسئوليته الأساسية تنمية الموارد المادية والبشرية وتحقيق العالة الإجتماعية.