حجي جابر: أردت في روايتي رؤية النسخة الحبشية من رامبو
حاورته الأستاذة: منى أبو النصر المصدر: الشرق الأوسط
يشكل التاريخ حجر الرؤية ومدارات السرد في تجربة الكاتب الروائي الإريتري حجي جابر،
ويبدو ذلك جلياً في روايته «رامبو الحبشي»، وهي الخامسة له، والتي يتتبع فيها السنوات الأخيرة في حياة الشاعر الفرنسي آرتور رامبو، بمنطقة القرن الأفريقي التي استقر بها في ثمانينات القرن التاسع عشر.
حاز حجي بروايته الأولى «سمراويت» جائزة الشارقة للإبداع العربي، كما فازت روايته «رغوة سوداء» على جائزة كتارا للرواية العربية، وترجمت أعماله إلى لغات عدة، منها الإنجليزية، والإيطالية، والفرنسية، والكردية.
هنا حوار معه، حول تجربته ومسارات السرد الإريتري، ودوافع ولعه بالتاريخ:
حدثنا عن تلك الشرارة أو الومضة الأولى التي تتبعت خيطها حتى كان عالم «رامبو الحبشي»؟
لم يكن يخطر ببالي وأنا أقرأ كتاب آلان بورير «رامبو في الحبشة» أني سأعثر بين سطوره على فكرة روايتي المقبلة، حتى قابلتني جملة تحكي عن رفيقة الشاعر الفرنسي آرثر رامبو في الحبشة على لسان أحد أصحابه يقول فيها «وكانت لديه حبيبة حبشية أحسن معاملتها». أذكر أني طويت الكتاب ووضعته جانباً كي أتفرّغ للأسئلة التي تتقافز في رأسي؛ لماذا لم يذكر اسمها؟ ولِمَ إحسان معاملتها يستحق التنويه، أوليس هذا هو الطبيعي؟ ثم كيف حبيبة لرجل اشتهر بمثليته؟ هنا أدركت أني أمام قصة منزوية في الظل تنتظرني لأحملها إلى الضوء، وهو ما أتمنى أني استطعتُ فعله.
رغم أن الرواية تحمل اسم «رامبو الحبشي» فإن السرد لا يجري على لسان آرتور رامبو، كان حضوره يتشكل عبر فعل التدوين وحيوات الآخرين، لما اتخذت هذا القرار وأنت تبني عالم الرواية؟
كانت عيني دائماً على المساحة التي أستطيع التحرّك فيها بحرية خارج دائرة الوقائع المثبتة. لم أشأ أن أخدش التاريخ بحجة التخييل؛ لذا سعيت صوب المناطق الرخوة التي أستطيع إعادة تشكيلها دون أن يمسّ ذلك بسياق صلب. أردتُ رؤية النسخة الحبشية من رامبو، وذلك لم يكن ليتأتى بظني لو ملكته دفَّة السرد. كان الذهاب إلى هامش الحكاية ضمانة لخلق عين جديدة على الرجل، ومنه أيضاً. ثم كان لا بد لي من اختيار تقنية تلائم خطاب الرواية الذي يبغي إعادة الاعتبار للفتاة المهملة، لـ«ألماز» التي لم يستطع الرائي أن يراها وهي لصقه. كنتُ سأزيدها تهميشاً لو منحت رامبو الدور هذه المرة أيضاً، وهو لم يبرح مكانه عبر التاريخ ليقوم بدور البطولة!
اخترت مقاطع من أشعار «رامبو» فواصل بين محطات السرد، هل كان من بين تحضيراتك للرواية قراءة وتأمل مشروع «رامبو» الشعري لانتقاء تلك المقاطع التي تتماهى مع سياقك السردي؟
قرأت كل ما استطعتُ الوصول إليه من الكتب التي تتحدث عن رامبو عموماً، وليس فقط عن حياته خارج فرنسا. كان ذلك ضرورياً ليس ليساعدني في انتقاء ما سأكتبه، وإنما ليخبرني بما يتوجب علي تجاهله أو التحرك خلاله. إذ لم أشأ لكتابي أن يكون نسخة أخرى من كتب سابقة. أما عن لجوئي إلى تلك المقاطع الشعرية فقد كان بنية تبديد الغرابة في أن يتناول كاتب سيرة الرجل دون المرور على إرثه الشعري. هو عمل تعويضي ليس إلا كوني آثرت ألا تأتي الحكاية على هذا الجانب من حياة آرثر رامبو، ولا بأس أن تقوم عتبات الفصول بذلك.
تصديرك لصوت بطلتك «ألماز» يحمل ثمة انتصار لحكايات الهامش المُتساقطة من متن التاريخ؟ هل تجد في التجوّل بين التاريخ والتاريخ الموازي والمُتخيل أحد مواطن الإلهام لمشروعك الأدبي؟
هذا بالضبط ما أعتقده، هذه المساحة هي منطقة عامرة بالاحتمالات، وهذا أكثر ما يرفد الروائي بموضوعاته، خصوصاً في إريتريا ومنطقة القرن الأفريقي، حيث المشتركات فيما يخص الإرث التاريخي، ثم فترة الاستعمار والانتقال إلى الدولة الحديثة وما تواجهه من عقبات أوصل بعضها إلى حالة الفشل. وبظني أنّ المراوحة بين التاريخ والتاريخ الموازي تتيح الإضاءة على الحاضر بأكثر مما يفعل التناول المباشر له.
جعلت من مجتمع «هرر» بخصوصيته التاريخية والدينية والاجتماعية والتجارية بطلاً في حد ذاته بالرواية، له صوته ومركزيته، حدثنا عن غواية هذا المكان والمجتمع كمسرح لعملك؟
أشعر أنه كان من الواجب أن يقوم أحد ما بالانتباه لهذه المدينة روائياً، وكنتُ محظوظاً بما يكفي لأفعل هذا. أذكر أني ظللت وقتاً أسأل باستغراب كيف لم يحدث هذا من قبل! ذلك لأنه بظني يصعب على أي مشتغل بالسرد أن يُفوّت مكاناً بهذا الثراء إذا حدث وصادفه. المدينة تنوء بإرثها التاريخي وبحاضرها على السواء، بسورها الذي لا يكفّ يذكّرها بانعزالها وفوقيتها، وبإذلالها الكبير في الوقت نفسه، بإنسانها الذي تجاهل اللغة المحلية وشكّل خليطاً من اللغات ليجعلها لغته من فرط اعتداده بنفسه. وقعتُ في غرام هذه المدينة، وكتبتها بحبّ، لكنه إذا جاز لي القول، حبّ وحشي يلائم طباعها التي رأيت.
«رامبو الحبشي» تعد أول عمل مُغاير لرواياتك السابقة. هل كان من بين دوافعك في الكتابة هنا خوض أراضٍ وسياقات أدبية جديدة؟
هذا صحيح إلى حد ما. أنا مشغول على الدوام بأن يحمل كل كتاب لي شيئاً مختلفاً، التفتُ إلى الوراء كي أتأكد أني لا أكرر نفسي. لكن مع هذا، باعتقادي، أنّ ثمة خيطاً ينتظم مجموعة أعمالي، بما فيها رامبو الحبشي؛ ذلك أنّ المشروع الذي أعمل عليه لا تحدّده الجغرافيا فقط، بل أمور عدة إلى جوارها. ولعلك انتبهت إلى أنّ الرواية الأخيرة لم تخل من تلك الثيمات التي ظلّت تشغلني في الروايات السابقة. ما أود قوله إنني أستطيع كتابة رواية إريترية دون أن تكون الأحداث تجري في إريتريا، طالما أنّ شيئاً في بنيتها الداخلية يُخبر عن ذلك.
فكرة التهميش أو الحدود التي ترسمها الجغرافيا والسياسة أثرتها عبر عالم «هرر» بالرواية، ولكن تلك الفكرة أصيلة ولها أصداءها الذائعة في أعمالك السابقة. أليس كذلك؟
نعم، هذا صحيح، وباعتقادي أن أي كاتب سيجد نفسه يدور في هواجس بعينها، سواء أكان واعياً بذلك أم لا. ثمة انشغالات هي الأعلى لدي وأجدها تتسرّب إلى كتابتي مهما كان الموضوع الذي أتناوله. قد يكون ذلك من تأثير الشتات الذي عشته رفقة عائلتي، والحياة معظم عمري في بلاد الآخرين، وهي حياة لها شروطها النفسية القاسية بحيث تبقيني دائماً على حواف الأشياء مهما سعيت لأكون في متنها.
خرجت من «مُصوّع» مبكراً جداً... صف لنا هذا الحضور المُقيم الذي تُجدده تلك المدينة «المهد» بظهورها في أعمالك؟
دائماً ما كانت مصوّع في وجداني، ذلك المكان الوحيد الذي أملكه في مقابل كل الأماكن التي لم أستطع الانتماء لها. لم أعش في مصوع ولا أعرفها حقاً، لكن يكفيني منها الشعور أنها المكان الذي سيقبل احتضاني آخر المطاف. دعيني أخبرك بأمر قد يبدو غريباً؛ فأنا أشعر بامتنان نحو مصوّع لأنها كانت مسقط رأسي. ماذا لو أني وُلدت في أحد الأماكن التي أمعنت في نبذي؟ ستكون تلك قسوة فوق احتمالي. لذا؛ دائماً ما أذكّر نفسي إزاء كل خيبة في مكان جديد، بأنني على الأقل أملك مصوّع، وهذا قد يكون كافياً! لذا؛ فمشروعي المؤجل على الدوام والذي أتهيّبه أيضاً هو الكتابة عن تلك المدينة الحاضرة عبر غيابها. أريد أن أقول لها شكراً لأنها خففت عني الكثير ولا تزال.
الهجرة، النجاة، الوطن، الذكرى «ثيمات» يتكرر صداها في مشروعك الأدبي، لكنك تنزع في كل مرة لتجريب تقنيات حكي مُغايرة، هل تعتبر ألعاب السرد واشتغالاته طوق نجاة من الوقوع في فخ التكرار، خاصة أن معظم أعمالك تدور في الفلك الإريتري؟
ليست التقنيات وحدها، بل الروح الداخلية والهواجس. مدّدت الأرضية الإريترية لتكون حيث يعيش الإريتري ويعاني ويموت. وإذا انتبهنا أننا شعب مُوزع على المنافي ستبدو مهمتي أكثر يسراً. الحقيقة أني لا أتفادى التكرار وحسب، بل أسعى لتعويض غيابي عن إريتريا ونقص الشعور والمعلومة بتراب الأرض وناسها. لا أستطيع العودة إلى إريتريا بسبب ما أكتبه، لكنّ ما أكتبه يتطلّب وجودي هناك. وهذا التنويع على مستوى الثيمات والتقنيات والجغرافيا والهواجس ليس إلا احتيالاً على المسافة القاهرة التي تفصلني عن إريتريا.
هل حقاً فكرت في إعادة كتابة روايتك الأولى «سمراويت» من جديد؟
نعم، أنوي فعلاً إعادة كتابة روايتي الأولى؛ لأنها وأسوة بكل عمل أول تبدو قاصرة وهزيلة. هناك من أحبها وأريد ككاتب لها أن أصبح مثله، أحبها أفضلها وأقترحها على القراء، وهذه أمور لا أستطيع فعلها بوضعها الحالي. سأحاول الإبقاء على روحها وقصتها الأساس، مع عمل بعض التعديلات الضرورية.
في إهداءات وسطور رواياتك نرى أطياف الجدة والأب... ماذا تركت عائلة حجي جابر في ذاكرتك ومعينك الأدبي؟
فقدت الكثير بوفاة والدي وجدتي لأبي. مات أبي والكثير من الأمنيات لم تتحقق. ترك بلاده وهو يظنّ أنه سيعود قريباً، لكن تلك العودة المأمولة لم تحدث أبداً فمات في بلاد غريبة. الأمر يُشبه أن يموت الواحد في الطريق، وهو ينتظر، لا هو الذي وصل ولا الذي لم ينو التحرّك بالأساس. والدي كان صاخباً في مصوّع، لكنه انزوى وخمد حين غادرها. أما جدتي فكانت غاضبة بطريقتها. غاضبة من الحرب ومن الشتات. ظلّت طوال الوقت ترفض التواؤم مع الغربة وتستدعي البلاد، والبلاد لم تكن سوى إريتريا. لم تُخطئ مرة وتُطلق هذا الاسم على غيرها. يحضران في أعمالي دائماً لأنهما لم يغادراني أصلاً!