المناضل المخضرم: حُمد محمد سعيد كلو يتلو كتاب الثورة في الذكرى الـ (55) للثورة - الحلقة الأولى

حاوره الإعلامي الأستاذ: جمال همــــد - عدوليس

الحوار مع المناضل الكبير حمد محمد سعيد كلو يعني حوار مع التاريخ والجغرافيا،

هو حوار مع الثورة والثوار.

حمد كغيره من أبناء جيله، لاحياة خاصة له، فقد تداخل العام بالخاص. تميز حمد كلو الذي تنقل بين عدد كبير من المواقع بحب القراءة والإطلاع لذا يأتي معه الحوار مفعما بالسلاسة والعمق. في هذه الحلقة يتحدث الرجل عن اغوردات وما أدراك ما اغوردات بالنسبة له وللتاريخ الإريتري فهي وان صح التوصيف "واسطة العقد" تاريخيا وجيوسياسيا. كيف تاسست المدينة.. مظاهر الحياة السياسية والإجتماعية والثقافية والرياضية.. الخ صورة يرسمها حمد في هذه الحلقة التي ستكون مفتتح لحوار نرجو ان يكون توثيقيا ومفيدا. قطعا ندرك ان البعد المكاني وعدم التفاعل اللحظي مع إجابات الأستاذ حمد سوف تفقدنا الكثير ومع ذلك سوف نحاول.

اغوردات المنبت و المنطلق:

عصر الصبا والشباب كيف كانت تبدو في أواخر الخمسينات وأول الستينات.. الحياة العامة.. التفاعل مع أحداث الداخل وأحداث المنطقة العربية والثورات التحريرية إفريقيا وعالميا نرجو ان ترسم لنا صورة عامة؟

لم يكن التاريخ ناعما ورحيما، ولم تكن التحديات ومازالت سهلة او يسيرة، لم تكن خالية من الدم والعرق والدموع عام بعد عام يدق علينا سبتمبر ناقوسا ضد النسيان لنمحص الذاكرة وننشطها لتدر علينا ما يمكن ان يكون قد خبى... اه... من هذه الذاكرة.

اغوردات.. اغوردات هبة نهر بركه، هذا النهر الذي يتدحرج من المرتفعات حين يصل الى السهول ينساب قادما مندفعا الى اغردات من الشرق ليعبر تلك المدينة من الشمال متجها الى الشمال الغربي وفي مساره هذا تصب فيه روافد عديدة حتى ينبسط في دلتا (طوكر) ويفيض لينهي مساره في البحر.

قديما كانت اغوردات قرية او بلدة عشوائية كبيرة تنام في حضن ذاك الجبل الذي يعلو منتصفه قبر الكولونيل الايطالي (لويجي) والذي قتل على يد جيوش المهدية عام 1885م، ذاك الجبل الطويل يبدأ من مبنى المحافظة (الكمسارياتو) شمالا وينتهي جنوبا عند مبنى الكنيسة الارثدوكسية. منزل (عائشة كبير) كان يقع في قعر الجبل خلف منزل المرحوم السيد دبساى قرزا بالوصف الحالي، الحريق الذي شب في منزل هذه السيدة عام 1924م التهم كل (قطاطي) بلدة أغوردات العشوائية، وانتهز الطليان هذه الفرصة واعلنوا انهم سيخططون هذه البلدة وطلب من المواطنين من لا يريد ان يتخلى عن مواشيه عليه السكن على اطراف البلدة، وعلى هذا الاساس خططت. وبمرور الايام اصبحت مدينة أغوردات لها مستلزمات المدينة من سوق ومستشفى وعيادة للنساء والاطفال وتعين ممرضة كقابلة ومدرسة وموقف للبصات ومحطات للوقود وهيئة للبريد والهاتف وطواحين للغلال وسوق للخضرة والفاكهة واللحوم وخزانات للمياه ومصارف للمجاري، وللدولة مقر للمحافظة ومركز للشرطة ومقر للمحكمة مبني بطراز جميل، واقيمت اماكن للعبادة، الجامع وسط السوق وقريبا منه مقر للقاضي الشرعي، وفوق الجبل اقيمت الكنيسة الارثدوكسية، وفي البدء اقيم مبنى صغير للكنيسة الكاثوليكية لاحقا تم بنائها بصورة اكبر، واقيم فندق (سافويا) وسوق للمواشي ومقر للطب البيطري وسينما وسلخانة... الخ من مظاهر المدنية.

على ضفة نهر بركه وشمال مدينة أغوردات وبالتحديد في (انقرني أو اتقنري) أقام فيها الايطالي (ديتا ديبونتى) مزرعة كبيرة للموز ثم مزرعة أخرى في (قرساى) ثم على ضفتى النهر اقيمت جنائن لابناء المدينة بدءا من (قارعوبل) الى الغرب من أغردات، ومن هذا المكان تبدء الجنائن بالضفة الجنوبية بدءا من جنينة (نيكولا) الاغريقي الى ان تصل الى (شقلت)، لا أعرف الان اذا تمددت ام لا. هذا النهر العظيم في ضفتيه كانت اشجار الدوم وغابات السعف، وهو ابو الفقراء فمن السعف تصنع السلال والبروش والسجاد للصلاة وقبعات تقيك حرارة الشمس واشياء عديدة تصنع منه، والسعف ذاته كان يصدر للخارج. "من الاعالي ينساب ماؤك غزيرا حين ينهمر المطر ومن ضفتيك يجنى الخير وتحلو فيه ليالي السمر يا بركه انت ساكن في الحنايا حتى لو طال السفر". كما ذكرت اعلاه ان ضفتي نهر بركة تفيض بالخير الوفير ولهذا اقام التاجر الايطالي (ديتا دروسي) مصنع كان يسمى (شيشيتا) وكان مصنعا للزراير والعلف، وكان يستوعب عددا كبيرا من العمال. الاثيوبيون اوقفوا هذا المصنع وشردوا العمال، كان ذلك في منتصف الخمسينات.

اقيم ايضا مصنع (أنجبا) ليصنع من السعف حسب معلوماتي السلال والمكانس وغيرها وهى للتصدير الخارجي. جاء المستثمر الايطالي (دنداى) في الخمسينات بالاشتراك مع التاجر السعودي (شربتلي) لشراء الموز والفلفل الاخضر والطماطم لتصديره الى السعودية وايطاليا وبعض البلاد الاوربية. ها نحن نسمع من جديد في منطقة (بيشا) اقيم منجما للذهب، ما الذي استفادت منه مدينة أغردات أو الاقليم من كل هذه المشاريع؟ انه نهب واستنزاف ويترك خلفه الدمار والخراب.

أغوردات.. من اين يبدء الاحساس بالانتماء الى الارض أو الوطن، هذا العشق الابدي ليس بالضرورة معرفتك ومشاهداتك كل الوطن بمدنه وقراه، الاحساس يبدء من دارك او منزلك، معايشتك لجيرانك للشارع الذي تلعب فيه وانت صغير، للحي الذي يجمعك بجيلك والاباء والامهات وصبايا وشباب الحي ن الخلوة أو الكتاتيب ثم المدرسة التي تجمعك بغالبية ابناء المدينة، ثم السوق وملاعب الصبا، ان يصل الى سمعك ما يقوله الكبار، كل ذلك يشكل الحالة الوجدانية. أغوردات مع نهاية الاربعينات وأوائل الخمسينات كانت عاصمة بركه والقاش. أنا من مواليد هذه المدينة في العام 1943م، وحين تفتحت عيناي كان لهيب الحرب العالمية الثانية قد خمد وكان الناس يقارنون بين استعمار ايطالي استمر خمسون عاما واحتلال بريطاني حديث لم تمر عليه سنوات، وليعذرني القارئي حين اتكلم عن الاقليم واعني به القاش وبركة، بعد مرور ثلاثة اعوام على الاحتلال الانجليزي لاريتريا بدء يشهد هذا الاقليم احدثا بعضها كان يغض الانجليز الطرف عنها واخري كانوا يتدخلون فيها بنوع من الخبث. كانت القبائل التي تسكن في الاتجاه الغربي من اريتريا داخل الاراضي السودانية والتي تحادد مناطق (ساوا) باريتريا منذ القدم تقوم بعمليات السرقة والنهب والقتل اسوة (بالرشايدة) بين فترة واخرى، هذه المرة كان الحدث وحشيا ومؤلما حين هجمت هذه العصابة قافلة من النساء في منطقة (هواشيت) تلك القافلة كانت متجهة لتقديم واجب العزاء في الشيخ مصطفي ود حسن، والتي كانت وفاته في العام 1943م، تلك العصابة نهبت الممتلكات وسبت النساء. وحين وصل هذا النبأ المؤلم والحزين الى المأتم وقف الشيخ الامين بن الشيخ مصطفى ود حسن وسط جموع كبيرة من الرجال الذين اتوا للتعازي وقال كلمته المشهورة (أليس في منطقة بركه والقاش رجال يعيدون الكرامة لاهل هذه المنطقة)، ومن هذا المكان خرجت اعداد كبيرة من الرجال يتقدمهم (علي بنطاز) و (ادريس على بخيت) الملقب بوهاردي اي (فارس) ومحمد حامد شليشي، هؤلاء الابطال دافعوا عن تلك المنطقة، لكن الاقليم بين فترة واخرى كان يشهد احداث، هذه المرة كانت من داخل اريتريا، بدأت عصابات السرقة والنهب خاصة في مرتفعات بركه الذين نهبوا الابقار، فتيات مرتفعات بركة تغنوا للابطال وهجوا العصابات او (الشفتا) كالاغنية الشهيرة (اتدنك مدر مسا ديبا)، تلك الفترة وما قبلها خرج الفارس حامد ادريس عواتى وتصدى لتلك العصابات في منطقة القاش. لا اعرف مدى انعكاس هذه الاحداث على باقي المدن الاريترية لكني اعرف التأثير الذي احدثه على مدينة اغوردات كان كبيرا.

شهدت مدينة اغوردات في نهايات الاربعينات مسيرات لشباب الرابطة الاسلامية وهم ينشدون (فلتحيا الرابطة الاسلامية... ويعيش شعبها في اريتريا) وترى راكبي الهجن وهم يهتفون (ايرات... ايرات) وتشاهد الشيخ ابراهيم سلطان في المسيرة الجماهيرية الهادرة وهو في المقدمة والمسدس يتدلى من جانبه الايسر. من الاشياء التي لا أنساها ابدا زيارة الامبراطور هيلى سلاسى للمرة الثانية لمدينة أغوردات عام 1953م وقد طُلب من التلاميذ ان يقفوا في صفوف طويلة للتحية على الامبراطور، كان الامبرطور يقف على مسطبة عالية في الإستراحة الحكومية وكانت تُعرف بـ (رست هاوس)، وكان ينظر لنهر بركه باتجاه الغرب وكان يوزع على الطلاب الهدايا، وبينما نحن نسير في الصفوف وقبل ان نصل الى موقع الامبراطور كان احد التلاميذ الصغار من خلفي يقول (لماذا ينظر كثيرا الى نهر بركه والارض التى من حوله..! سوف لاتكون له لن مهما أطال النظر فيها)، والحقيقة تلك هى المشاعر تجاه اثيوبيا وامبراطورها.

في اواخر الاربعينات كان انعكاس ما حدث في فلسطين قد اوجد حالة من الحزن بل الامر تطور وقد بدأ الشباب يتطوع للذهاب الى فلسطين ولكن الانجليز كانوا يعيقون سفرهم، شاهدت أحد هؤلاء الذين تطوعوا وقاتلوا في فلسطين حين قدمت الى الخرطوم، واسمه (ادم كبوب)، حين رأيته في العام 1960 في الخرطوم كان يعمل (صائغا) مع المغفور له محمد على محمود بخيت في دكان اولاد مسيك بالسجانة. مدينة أغوردات تفاعلت مع المد الناصري فقد كان هناك تنديد بالعدوان الثلاثي عبر عن نفسه من خلال المداومة على متابعة الاخبار حيث ترى جموع من المواطنين بعد صلاة المغرب تتجمع في ساحة (جامع الارواح) وبالاحرى جلوسا على ارضيته الرملية قبالة المقهى التي كان يعمل فيها المفغور له كرار قشاري في الجانب الغربي، وكان لذاك المقهى راديو كبير من طراز (بوش) وصوته واضح وكبير وكان الناس تستمع لصوت وتعليق أحمد سعيد في برنامج (اكاذيب تكشفها حقائق) باذاعة صوت العرب، وعبر اخبار صوت العرب كان الناس تتابع احداث الثورة الجزائرية والانقلاب العسكري في العراق بقيادة عبدالكريم قاسم، كان الناس معجبون بخطب جمال عبدالناصر وكانوا ايضا منبهرين بقيام تجمع دول عدم الانحياز بقيادة جمال عبدالناصر، وجواهر لال نهرو من الهند، وأحمد سوكارنو من اندونيسيا، وشو ان لاى الصين والمرشال تيتو بوغسلافيا. الاعجاب بمواقف جمال عبدالناصر لتأييده الثورات العربية في سوريا والعراق واليمن ودعم الثورة الكوبية ودعمه للثورات الافريقية بقيادة كوامي نكروما، أحمد سيكاتوري، باتريس لوممبا وجوموكنياتا. كان الاعجاب في ذاك الزمن شديدا خاصة الانجازات الاقتصادية كبناء السد العالى، مجمع حلوان ومجانية التعليم. ومن الناحية الاجتماعية كانت هناك فرق رياضية كبيرة وأخرى صغيرة، (كف الاسد) وفريق (النجم أو استيلا) هما الأوسع إنتشارا والأكبر حجما وجماهريا، وكان تحت مستشفى اغردات من الناحية الشرقية ملعب للتنس لكنه كان للخواجات وموظفي الدولة الكبار حصرا.

أذكر عام 1956م ان فريق (كف الاسد) استضاف الفنان السوداني الكبير عثمان حسين في ناديه، كان الفنان عثمان حسين قادما من اسمرا متجها الى تسني ومنها للسودان، في ذاك الزمن كان القادمون من اسمرا او العكس كان لابد من المبيت في أغردات. أتذكر في تلك الامسية الجميلة والتي اشاهد فيها أول مرة فنان سوداني غنى في تلك الامسية اغنيتين مشهورتين (القبلة السكرى) و (الوكر المهجور) وغيرها من الاغاني. قبل هذا كنا نسمع من الكبار ان الفنانة عائشة الفلاتية وابراهيم الكاشف وفي العام 1948م احييا حفلا في سينما أغردات. ومن الناحية الاجتماعية ايضا كانت هناك مبادرات نشطة اقيم على اثرها نادي ثقافي اجتماعي برئاسة الشهيد محمد الحسن حسنو، واقام المرحوم محمد عبدالله محمد الحسين فصولا لمحو الامية. في بداية الخمسينات افتتح الشهيد (شيباني) مقهى لتقديم وجبة الافطار وفي العصريات لشرب شاي بالحليب والحليب بالكاكاو، ولجذب مزيد من الزبائن في العصريات اشترى مسجلا يعمل بالبكرات يبث الاغاني السودانية المشهورة في ذاك الزمن خاصة الفنانيين احمد المصطفى وابراهيم عوض. كان البعض يتسابق مع الاصيل الى فندق (سافويا) لشراء صحيفة (الزمان) العربية وبين فترة واخرى كانت تاتي معها مجلة اسمها (المنار). من الناحية السياسية كان الناس غير راضين عن الفدرالية وبدأت المخابرات بمضايقة بعض الوطنين، لكن عدم الرضى في اوساط المواطنين بدأ يزداد مع مرور الايام خاصة اذا علمنا ان الفدرالية في الاصل لم يستشر فيه الشعب الاريتري. كمابدأ الناس في المدينة يصلون الى نتائج ان لا استمرار تحت الاستعمار الاثيوبي خاصة وان النوايا الاثيوبية تنبأ بها الناس مبكرا، حكاية انزال العلم الاريتري والغاء الفدرالية، ولهذا الغرض تمت لقاءات في منزل الوجيه (عبدالرقيب محمد صادق) شارك فيها الزعيم ادريس محمد ادم والقائد الشهيد حامد ادريس عواتى، الشيخ محمد داؤد حفيد الشيخ مصطفي ود حسن، الاستاذ محمود محمد صالح، عمر كشواى وعدد من المواطنين أعيان مدينة أغردات والاقليم يقدر عددهم ب 72 شخصا، وفي هذا اللقاء حسب ما يقال تقرر سفر المغفور له الزعيم ادريس محمد ادم والشيخ ابراهيم سلطان للخارج وكان ذلك في العام 1957م.

ونواصل في الحلقة الثانية...

Top
X

Right Click

No Right Click