الروائي الإريتري حجي جابر ل «اليمامة»: أنا كاتب متطرّفٌ ومنحاز، ولستُ محايداً
حاوره الأستاذ: علي الألمعي المصدر: اليمامة
يختار الروائي الإريتري «حجي جابر» في روايته الثالثة «لعبة المغزل» الصادرة حديثاً عن المركز الثقافي العربي الكتابة عن
التاريخ، بغية الدخول إلى عوالم الاختلاف والتباين. في لغة مشوّقة، وفكرة سلسلة تتحرك دوائر العمل داخل لعبة متقنة، تضاف إلى عملين روائيين آخرين للكاتب نفسه، هما «سمراويت» الفائزة بجائزة الشارقة، وروايته الثانية «مرسى فاطمة» إضافة إلى روايته الثالثة «لعبة لمغزل» وكلها عن إريتريا الأرض والإنسان والحياة.
حاورنا «حجي جابر» في روايته الثالثة «لعبة المغزل» فإلى نصّ الحوار:
دعنا، نبدأ من كتابة الرواية بشكل عام، هل تعتقد أنها قادرة على اختراق حواجز الظلم والاستبداد وتفتيت دعائمه بالتشويق والانتشار بين القراء ؟
لا أستطيع القول إن الرواية تفعل كل ذلك، وإلا لكنت أقوم بتحميلها ما لا تطيق. بظني أنّ الرواية تجعل الآخرين يهتمون، يشاركونك مصيبتك وجدانياً، وقد يتبنون مسؤولية الدفاع عن مظلوميتك. بالرواية أنت تجسر الهوة بينك وبين من لا يكترث لأمرك، فيصبح أقوى حلفائك. في إرتريا مثلاً ظلّت مشكلتنا لعقود أنّ الآخرين لايجدون شيئاً مغرياً في مأساتنا كي يلتفتوا إليها. الأدب قد يجعلهم يفعلون.
ارتكز عملك الروائي الثالث «لعبة المغزل» على تغيير الحكاية واللعب على الوقائع والتفاصيل... هل كان العمل مجهداً لكاتب كان كلّ همّه على ما يبدو أن يقنع القارئ بهذا التزوير ؟
كتبت هذا النص بحبّ، بل دعني أذهب أبعد لأقول إنه جاء جاهزاً. فقد طرأت عليّ الفكرة بإلحاح غريب. وحين بدأت تنفيذها رأيتها تسابقني على بياض الصفحة. كانت الفكرة واضحة في ذهني مع كثير من التفاصيل، لذا لم أجد ذلك العناء فيما يخص الحبكة. العناء هذه المرة كان على سبيل المفردة، إذ كان يجب أن تأتي لغتي ملائمة أكثر لطبيعة الحكاية، وهو ما أرجو أن أكون قد وفقت فيه.
النهاية الفعلية للعمل الروائي كانت مفتتح العمل في الرواية، هل كنت هنا تعمد إلى خلق قانون جديد لقوانين الرواية كما يذهب بعض محبيك وقرائك ؟
لا. أبداً. أنا فقط دائماً في طور المحاولات والتجريب. وكما ترى فقد عمدت مجدداً إلى لعبة الدوائر وإن بشكل أردته يبدو مختلفاً. في النص كما لاحظت ثمة دوائر، لا يمكن الجزم تماماً أيها الدائرة الأخيرة؛ لذا قد أجد نفسي متحفظاً بعض الشيء على وصف «النهاية الفعلية»، لأني حتى اللحظة لا أستطيع تحديد النهاية الفعلية على وجه الدقة!
هناك تبادل أدوار وتناسل في خيوط السرد، ابتداء بالجدة والفتاة والطبيب والرئيس.. لماذا ؟
هذا الأسلوب برأيي يخدم الفكرة الأساسية. الأمر يشبه متاهة كبيرة الكل يحاول فيها جهده للوصول إلى المخرج قبل، أو مع الآخرين؛ لذا نجد ذلك التبادل في الأدوار بما يُشبه التواطؤ. ثمة اتفاق ضمني بين شخصيات العمل على تولّي زمام الحكي بالتناوب، لم يكن ذلك مهماً. كان المهم لديهم جميعاً الوصول إلى مخرج من متاهتهم الكبيرة.. تلك المتاهة التي قد يدخلها القارئ برغبته أو دونها.
في الرواية فن آخر يمكن للقارئ الاستفادة منه، وهو التدرب على كتابة عمل مشوّق من خلال الكتابة والتعديل وأحياناً المحو والبناء من جديد... هل كنت تهدف إلى هذا أم أن تركيزك كان منصبا على وصول العمل وإقناع القارئ بصدقه ؟
هنا إحدى دوائر النص؛ الحكي عن الحكاية؛ وهي وإن بدت بملامح بارزة داخل النص، فهذا لا يلغي ضرورة أن تبدو ضمن نسيجه العام، فتصبح مقنعة وتخدم الفكرة الرئيسية، وهو ما أتمنى حدوثه على أية حال. ألا ترى معي مثلاً، أنّ البناء والهدم والمحو بغية الوصول إلى الاكتمال هي أفكار تتقاطع مع الحكاية الأم؟ ماذا كان يفعل السيد الرئيس بالبلاد والناس ورفقاء الدرب غير ذلك؟ كما أنّ الاشتغال على الحكي كان برأيي لا بد أن يمر بتلك الأفكار، حتى لو كنّا نتحدث عن الحكايات الشفهية.
في الرواية برز لنا الطبيب كقيمة فنية مضافة للعمل، برأيك، ما القيمة الفنية التي أضافها الطبيب لهذا العمل ؟
لا يمكن لشخصية إلا أن تكون لها قيمة في أي نص، وإلا سيكون حضورها نوعاً من العبث. أما إذا كنت تقصد أنّ حضور الطبيب كان على هامش الحكاية، فأنا قد أختلف معك هنا. ويكفي أن نتخيّل غيابه لنرى مدى ارتباك النص في عدة دوائر؛ ماذا سيحدث دونه في دائرة القبح والجمال؟ ماذا سيحدث في النهاية الثانية؟ وهذا أمر ينسحب على بقية الشخصيات. أزعم أنّ كل شخصية كان لها دور محوري في النص بغض النظر عن المساحة المعطاة، وهي شخصيات محدودة في نهاية المطاف ماساعد على تنفيذ هذه الفكرة، أو هذا ما عملت على إنجازه في أثناء الكتابة وأتمنى نجاحه.
ما مدى تحقق ما يذهب إليه بعض القراء في أن هذا العمل كان الهدف منه أن ينسف حجي جابر من خلاله (الحياد الخادع) كما وصفه أحد قراء الرواية ؟
أنا لستُ محايداً، وهذا رأي أكرره دائماً، أنا كاتب منحاز ومتطرف ولي مواقفي المعلنة من حجم السوء الذي يُحيط بنا كإرتريين. لكن في المقابل ومن أجل الفن، ثمة مساحة لشخصياتي كي تتحرك بمعزل عن مواقفي، لو كان لي من الأمر شيء لرأيت شخصية السيد الرئيس مثلاً مختلفة عما جاءت عليه في لعبة المغزل؛ لذا ربما كان ذلك شكلاً من أشكال الحياد، لكن لا خديعة في الأمر، نحن فقط متواطئون على تمريره بتلك الحال.
لماذا غابت الأسماء عن عملك الروائي « لعبة المغزل» واكتفيت بالجدة والطبيب والفتاة والسيد الرئيس ؟!
لا أعلم على وجه الدقة، لم أجد حافزاً لمنح الشخصيات أسماء. عادة هذا يحدث حين تأتي الشخصية باسمها فأجدها مكتملة بالاسم، ولا تصلح دونه، هنا الحال كان مختلفاً. بدا النص بمجمله كجملة فعلية، فالجميع دون استثناء شارك في الفعل، لم يكن مهماً من قام بالفعل، كان الجميع، وأنا معهم، نرقب الفعل، فعل الجدة والفتاة والطبيب والسيد الرئيس. لا نكاد ننتهي من فعل حتى نبدأ مع الآخر. ثم ها أنت تقول الجدة والفتاة والطبيب والرئيس، ألا يكفي هذا لتعريفهم؟
بعد ثلاثة أعمال روائية عن إريتريا، هل مازالت الحياة مملة أكثر مما ينبغي ؟
- لكل نص روائي حالة مزاجية تواكب كتابته، ربما تكون هذه الجملة شارحة لحالتي المزاجية في أثناء كتابة لعبة المغزل. هذا الأمر لم يكن هو نفسه في سمراويت أو مرسى فاطمة. وأنا متصالح مع هذه الحالات وأجدها إحدى السمات العامة التي تضع حدوداً فاصلة بين عمل وآخر إضافة إلى سمات أخرى بالطبع. لكن، وكي أجيب بدقة على سؤالك أجدني مضطراً للقول: نعم. إنها مملة أكثر مما ينبغي!
هناك من يرى أنّ الروائيين يعمدون إلى تقديم المرأة في أعمالهم الأدبية على أنها جسد مشتهى، ننفذ من خلاله إلى عوالمنا الخفية... ما رأيك ؟!
لا أتفق مع فكرة أنّ الروائيين بمجملهم يقومون بفعل واحد بغية الوصول إلى غاية واحدة، لستُ مع التعميم هنا لا في جنس الروائيين ولا في جنس الفكرة. ثمة مساحة هائلة تتيح اختلافاً وتنوعاً من روائي إلى آخر، وبطبيعة الحال لو كان السؤال محدداّ أكثر فلن أستطيع الإجابة إلا فيما يخصني، أنا لا أقرر مسبقاً الشكل الذي ستظهر فيه المرأة في نصوصي، يأتي الأمر عفوياً وضمن سياق الحكاية، سمراويت لا تشبه سلمى في مرسى فاطمة وكلتاهما لا تُشبهان الفتاة في لعبة المغزل. وإذا أردت رأياً أكثر دقة فأنا لا أرى إشكالاً في أن تأتي المرأة كجسد مشتهى. يبدو هذا طبيعياً وأقرب إلى الحياة. أنا لم يسبق لي أن حصرت الأنثى في هذا الإطار، فشخصياتي الأنثوية فاعلة ولها أدوار حاسمة، وفي لعبة المغزل هي سيدة الحكاية ومبتدأها. لكن الجسد المشتهى هو أحد أوجه الأنثى، ولو غيّب تماماً لكانت المرأة برأيي هي أول المعترضين!
هل وصلت إلى قناعة بأن الحكايات هي من يمنحنا المعنى الحقيقي للحياة ؟
الحكايات هي الحياة. ما الذي نفعله من لحظة قدومنا إلى الحياة وحتى مغادرتنا؟ ألسنا ننسج حكاية وننسعى قدر جهدنا أن نمنحها المعنى؟ نحن محض حكاية، مولدنا حكاية ووفاتنا حكاية، حين نفعل شيئاً وحين نمتنع، كل ذلك يتحوّل إلى حكايات، الفرق الوحيد ربما في مستوى التشويق الذي يشعر به الآخرون عند سماع حكاية أو أخرى.
في «لعبة المغزل» برز لنا توظيف الألوان في الرواية، توظيف هل من دلالات معينة لهذا التوظيف ؟
لا أميل كثيراً للحديث عن الدلالات بشكل مباشر وقاطع. ثمة مستويات لقراءة النص وهي تختلف من شخص إلى آخر. وهناك قراءات تفوق الكاتب وقدرته ورغبته ومقاصده؛ لذا وبحثاً عن القراءة الأعلى أترك أمر الدلالات للقراء، وسأجلس مستمتعاً بما يصلون إليه.
أما زلت مؤمناً بأن الحكايات التي زوّرت لنا التاريخ وقلبت الحقائق ما زالت تساعدنا على النموّ ؟
نعم بكل تأكيد. ورد كثيراً في النص أنّ النقص قد يدفع بنا نحو الاكتمال؛ هذا ربما يصنعه الزيف شريطة إدراكنا له، نحن بقدر ما ننمو بالأمور الجيدة نفعل مع الأمور السيئة. وفي لعبة المغزل لم تكن حكايات الطيبين هي من دفعت الفتاة أو الجدة إلى الاكتمال، تحقّق ذلك عبر الحكايات المزيّفة، عبر العبث، وعبر قدر كبير من الشر.