مرسى فاطمة
بقلم الأستاذة: زهرة منصور - فلسطينية المصدر: ساسة بوست
رواية تتحدث عن الحب والوطن ولهذا نعيش ونسعى، نقية شفافة لامست حقيقة الوطن وجمالية الحب، رواية تتحدث عن الإخلاص
وكفى بها ذلك. إرتيريا، لابد أن هذا الاسم مر علينا ولم نقف عنده كثيرًا لنعلم ماذا يعني، فمعلوماتنا عنه قد تكون سطحية، وكذلك لابد أننا قرأنا عن الظلم والديكتاتوريات ووصف رواية 1984، والأكثر واقعية محاكم التفتيش والفترات الاستعمارية وما كان فيها من كبت لحريات الإنسان الأساسية.
واستخدام كافة أدوات القمع حتى بتنا لا نأمن على أنفسنا من الجدران، وأيضا تاريخنا وما نشاهده في نشرات الأخبار والأصوات من داخل أقبية السجون يجعلنا ندرك فداحة ووحشية الإنسان عندما يكشر عن نفسه ويخلع وجه الإنسانية، ومع ذلك نظل مدهوشين ومستنكرين ما يحدث مع تقدمنا المادي في كل شيء حتى في عصر الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، لكن نرجع لحقيقة الأمر أننا في عصر تراجع العقول وخمولها، وفرط القوة وفرضها كإنسان بدائي مع تقدمه المادي!
إرتيريا دولة أفريقية يتحدث الكثير فيها بالعربية وتتعدد فيها الديانات واللغات، الغالبية مسلمون، ولإرتيريا موقع إستراتيجي كونها تشكل حلقة اتصال تجاري وحضاري بين القارة الأفريقية والجزيرة العربية، وقد تعرضت لعدة حقب استعمارية. حصلت إرتيريا على استقلالها عن أثيوبيا بعدما أنهكتها الحرب عام 1993.
لكن لم تنتهِ مأساة الإرتيريين لتتجدد مع الصراعات الداخلية بين الأحزاب والقيادات التي ساعدت على تحريرها واقتسامها والإجهاز على الشعب في النهاية! إرتيريا اليوم لا يوجد بها انتخابات ولا تسمح بإنشاء الأحزاب.
“إريتريا في عزلة كبيرة، وهذا ما أراده النظام ونجح فيه. فللقمع اليد الطولى هناك، ولا مكان في إريتريا لأي وسيلة إعلام أجنبية أو محلية مستقلة.وشبكة الإنترنت ضعيفة جدًا بحيث لا يمكن إرسال صورة أو مقطع فيديو، وهناك ضريبة «رفاهية» على من يستخدم أطباق الساتلايت، ولا تعمل خدمة الجوال الدولي في إريتريا، كما لا يمكن إرسال أو استقبال الرسائل النصية بين إريتريا وبقية دول العالم، وتخضع الاتصالات الهاتفية لمراقبة شديدة، ولا يستطيع أي شخص استخراج شريحة هاتف ما لم يكن بحوزته صكّ ملكية عقار.ومع كل هذا فقد جرت محاولة انقلابية في يناير قبل عامين باءت بالفشل، وليس معلومًا ما ستسفر عنه الأيام المقبلة“. حجي جابر.
هذه لمحة عامة عما سنعرفه في الرواية، الأدب في واقعنا يخدم قضايا إنسانية وسياسية واجتماعية عدا عن أنه أدب لأجل الفن، وأصبح للرواية رسالتها وقيمتها المجتمعية، و“مرسى فاطمة“ رواية ممتازة فنيا من ناحية الأسلوب والسرد السلس والجمل الأقرب للشاعرية والفكرة، وتعدد الأمكنة والتمدد الجغرافي مع الحفاظ على بنية قوية، والأهم ما أراده حجي جابر أن يصلنا في النهاية فكانت نهاية مميزة، رواية خدمت قضية تستحق أن تخرج وتكون حاضرة ويسمع صداها، فجمعت تاريخَ وجغرافية بلد منسية مع قصة إبداعية.
رواية تبدأ بفجيعة الفقدان أو الخسارة لبطل لا نعلم له اسمًا! يفقد حبيبته وزوجته سرًا، اختفت فجأة وهي حامل بطفله، لا يدري من أين يبحث، نشعر معه بذلك الاختناق والحيرة والصدمة. هو ضائع من داخله وهو بين خيارين صعبين؛ فإما أن يستمر بحرقة الفراق وإما أن يلحقها لعالم ساوا، وساوا هو معسكر تجنيد إجباري ”صناعة الرجال وحامي الوطن“! يتم فيه تدريب الشباب من أجل الوطن وليس له مدة نهاية محددة! وما أن ينهي المجند فترة تجنيده حتى يتحول إلى عامل سُخرة يشيد المباني ويرصف الطرقات مقابل وجبة عدس!
وهو بمعنى آخر عقاب وقيد لأي شاب يفكر خارج صندوق الوطن الذين هم يرسمونه، في البداية يقول حجي جابر: ”الوطن كذبة بيضاء يروج لها البعض دون شعور بالذنب، ويتلقفها آخرون دون شعور بالخديعة“!
في المعسكر يختارون له رقما وهنا تبدأ أولى رحلاته، مجرد رقم هامشي كان أو لم يكن، نعرفه مجرد رمز يدل على كينونته، الأسماء تعيش في الذاكرة فترة أطول من الرقم، لها نصيبها من الشخص ولها أثرها ووقعها في نغمتها، لذلك لا فائدة من الاسم في وطن يهمشنا ويتنكر لنا.
بدأ رحلة البحث بقصد إيجاد حبيبته. مع مخاطر البحث نظن أنها ليست حبيبة فقط هي حياة بالنسبة له، أو روح دفعته ليبحث عن أكثر من ”سلمى“؛ يبحث عن ذاته ووطنه وآلامه وشعبه وحدوده، يبحث عن الشر والخير في مكامن إنسانية من حوله عن الضحية والجلاد، عن حقيقته وعن طاقة هذا الكون في استيعاب منكوبيه!
نعم يظل بلا اسم لأنه العقل والقلب والضمير، لأنه نحن دون أجسامنا بفكرنا وأرواحنا.
فيما بعد هي رواية تتميز بشخوصها، وما الوطن غيرنا؟!
يلتقي بشخصية الشاب اليساري السياسي الثوري الرافض مقابل شخصية الجلاد ”منجوس“ يقع بينهما ويدرك الكثير، الشخصية الأولى المؤثرة الثوري ”كداني“ نحن لا شيء من غير الماضي، هو الذي يفرزنا ويجعلنا ما نحن وما سنكون، كداني نتيجة أفعال الحرب والسياسة والظلم، هو وجه آخر للوطن الذي تصوره المؤسسات والإعلامز إنه حلم وطن يخدم الحق، ”كداني“ كان انتفاضة ومحاولة للخروج من الظلم وسقف الأيديولوجيات، كداني هو القضية المسجونة المسحوقة يؤثر في بطلنا ليرى العالم من وراء سلمى، الوطن الذي يحيا به يعرفه ويتعرف به من جديد، يراه بعين مختلفة وحادة النظر أكثر، فيجدد انتماءه بسبب تعثره به في بداية رحلته، ليصبح وطنه في نفسه حيًا منشودا أيضا. بطلنا أيضا يؤثر في كداني ليرى حبا يدعم حبه للوطن وملجأ يجدد حبه لوطنه، ”تعلمت أن الوطن الحبيبة، والحبيبة الوطن وجهان لكل أحلامنا النبيلة“.
في معسكر ساوا كانت حصة التثقيف السياسي مجرد زرع للحقد وتأجيج الفتن ومزيدٍ من التعصب والعنصرية لتنظيمات أخرى، حرب على الشعب نفسه مع أن المستعمر هو الأثيوبي وليست حركات التحرر لكن التآلب على السلطة من أجل القمع والجلد كان هو أساس ما يسمى التثقيف السياسي.
يستيقظ مرة أخرى في ساوا على حقيقة فقدانه لسلمى، ليجدد عملية بحثه ولا يفقد الأمل فيقرر الهرب إلى السودان ظنا منه أنه يلاحق سلمى إلى السودان، مرة أخرى يتعثر بحقيقة الوطن عند البعض، يقع بين يد عصابات ”الشفتا“ على الحدود يلتقي بشخوص أسرى العصابات التي تستنزف قواهم وأموالهم، تكون حياتهم أكثر إيلاما وسبلهم أكثر صعوبة وأهدافهم كرامة!
نعلم في تلك الرحلة حقائق لا نتوقعها عرضها علينا حجي جابر كصحفي هنا رصد تلك القصص وتلك المعاناة في محاولات النجاة والهرب من الوطن إلى حضن آخر أكثر جبرًا للأسف، يتخلص من سجن تلك العصابة التي تذكرنا بفظاعة شر الإنسان؛ التجارة في البشر والحط أكثر من قدر الإنسانية، يتخلص منهم بتضحية نبيلة من شريكه في الأسر ليصبح لاجئًا في السودان.
رحلة ثالثة “الشجراب“ يرى هناك عالمًا ومجتمعًا من اللاجئين أكثر اختلافا عما تصوره، ”يقصده المفجوع ليعيش فواجع أخرى“. هناك يعرف ما المقصود بالترحيل إلى سيناء، يعني مزيدا من رحلة العذاب حتى تصل إلى إسرائيل ولا تصل هناك إلا جثة أو ينقصك عضوٌ من جسمك!
لا شيء مجاني وليس لك أن تلومه لأن المنكوب لا يحتاج للتنظير، الملفت في المخيم أن الكثير ينسلخ عن أصله الإرتيري ليتسودن فأثار استغرابي هل التحضر بنظرهم يمثل السودان؟!
إنه الهرم المتسلسل وهذا أقصى طموحهم؛ دولة يعيشون بأحضانها بسلام، مجرد سلام لا أكثر من ذلك، عشنا معاناة اللاجئين الإرتيريين المؤلمة في قالب روائي بشخصيات مؤثرة تحدِث ألمًا عميقا في النفس وفي المحاولة للنجاة والعيش على الكفاف، وفي أحلام داخل أرض وسماء مقيدة! مع حوادث ونكبات يومية مقصودة من الخطف إلى الحرق إلى الانتحار إلى الهجرة المحفوفة بالمخاطر على يد عصابات إلى إسرائيلز
إنهم يخططون لقتلهم لكن ليس بالرصاص بل يقتلونهم قتلا ناعما شديد القسوة؛ ينصبون لهم مشانق من الحرير قسوة المشنقة أقوى من مشانق الحديد! يتمنون الموت ولا يجدونه هذا الموت العصري.
أم أواب عجوز بعمر الوطن وتحمل أملا بحجمه أيضًا. إنها من عالم آخر، مهما يطحنها ذلك الوطن تحبه وتأمل منه خيرًا ولا تتحدث عنه بشر أمام الغرباء كأنه فلذة كبدها وهو الذي حرمها من ابنها! تمثل التفاؤل اللامعقول وكأنها ترجح كفة الميزان لأجل العاطفة وحدها. أمير، الشاب الذي حاول الهجرة ونجا بأعجوبة يمثل أيضا شخصية رافضة وفعالة وباذخة في العطاء، إنه ما نحتاجه للبناء ويهوّن علينا مصائبنا. علي، الشخصية المريضة يمثل الضحية والجلاد في نفس الوقت، يكره نفسه ووطنه يكشر عن أنيابه التي اكتسبها ليتلف أي علاقة عاطفية بينه وبين وطنه أو أصله، من يتخلى عن أصله ووطنه ونفسه لا يبقى إنسانًا ولا يعرف صلاحًا. تتكرر فجيعة الفقدان في حياة البطل ولا يعثر على سلمى مجددا ينهزم.
”الهزيمة تفقدك توازنك، وتطرحك أرضًا، تحرمك لذة الدهشة وشهوة الاكتشاف، تقتل فضولا فتنكفئ على ذاتك المنكفئة أصلا على أحزان قديمة. الهزيمة تبقى على ملامحك لكنها تسلبها الإحساس، فتغدو باهتا فاترًا ومشدوهًا. الهزيمة تحصر اختياراتك في أكثر الأمور مرارة“.
كان لديه الخيار، الهجرة إلى إيطاليا والبدء من جديد لكن ”الوطن البديل قد يبقيك حيا، لكنه لا يمنحك الحياة. هو بالضبط كزوجة الأب، مهما بدت حنونة لا تنسى أنك من امرأة أخرى“.
على الرغم من رحلة الشقاء هذه وما واجهه من عنف وقسوة إلا أنها تخللت بالرحمة والعطف والمساندة والحنان، ذلك الوجه الآخر للوطن من خلال أبنائه كل هذا يمثل الإخلاص من أجل الحب والوطن مع كل ما نواجهه، إلا أن هناك عذوبة وجمالا في علاقاتنا الإنسانية المبنية على الحب، قصة حبه التي عادت به إلى مرسى فاطمة مرة أخرى ينتظر.
المزيد من الانتظار، وقع فريسته بعدما عانى وتعب من الحب والحرب فكان يركض خلف سلمى وهي تركض وراءه، إنها الحلقة الدائرية من التيه والأماني.
كل شخصية من شخصيات الرواية هي حكاية إرتيرية تنقلنا إلى أكثر منطقة بائسة في العالم؛ الروح الإرتيرية التي ما زالت صامدة تهرب وتعود، وتفجع وتحلم.