حجي جابر إريتريا في عزلة كبيرة والعرب لا يبالون بآدابها

بقلم الأستاذ: أحمد مجدي همام - القاهرة المصدر: الحياة

ولد الروائي الإريتري حجي جابر في مدينة مصوع الساحلية في ارتريا، ثم انتقل مع أسرته إلى مدينة جدة السعودية إبان القصف

الإثيوبي لإريتريا. عمل بالصحافة السعودية، كما عمل مراسلاً لبعض الفضائيات العربية والأوروبية. وفي العام 2012 أصدر روايته «سمراويت» التي حازت في العام نفسه جائزة الشارقة للإبداع، وفي العام التالي أصدر روايته الثانية «مرسي فاطمة» التي تتناول إشكالية عصابات الاتجار بالبشر.

في «مرسي فاطمة» تناولت ضعف سلطة الدولة في السودان وإريتريا، أمام سطوة عصابات الاتجار بالبشر ودولة الشفتا، هل تميل كفة الميزان حقاً لمصلحة تلك العصابات؟

أظن هذا في ما يخص السودان، لكن الأمر مختلف تماماً في إريتريا، فالدولة تبسط سيطرتها الأمنية بإحكام، وتستخدم العصابات لجمع المال، أو إرهاب الناس. وهذا ليس من عندي، فكثير من التقارير الحقوقية أو الصحافية المستقلة، وآخرها تحقيق صحيفة الغارديان في نيسان (إبريل) الماضي، خلصت إلى أن جنرالات نافذين في الجيش الإرتري منخرطون في الاتجار بالبشر، وهذا يوفّر بيئة مثالية لعمل تلك العصابات على الحدود بين إريتريا والسودان. ولعلّك لاحظت أنّي عمدتُ في «مرسي فاطمة» إلى خلق تقاطع كبير بين ممارسات النظام الإرتري وبين الشفتا، بحيث يغدو التفريق بينهما صعباً. وهذه حقيقة الأمر وفق اعتقادي.

تبدو الشخصيات في «مرسي فاطمة» أقرب إلى الرمزية، مثل «داني» ممثلاً للإصلاحيين والعقيد «منجوس» ممثلاً للديكتاتورية، ألم تخشَ من أن تحمل الشخوص دلالات تفوق البعد الإنساني لكل منها؟

لا أعتقد أن هذا «التوزيع» سلب الشخصيات بُعدها الإنساني. فشخصية «داني» المثقفة اليسارية المتعالية تقلّبت إنسانياً مع الأحداث فتخلتْ عن قناعات واعتنقت أخرى، وهزمها الحب في آخر المطاف رغم كل النظريات الجامدة التي كانت تسيّرها. وحدث أمر مشابه للعقيد منجوس الذي أرانا أسوأ صفات الجلاّدين، قبل أن يستحيل إلى ضحية خانعة أسوة بكل الذين يلفظهم النظام بمجرد انتهاء أدوارهم القذرة. وفي الحالتين كان «منجوس» يتحرك بدوافع إنسانية تناسب حالته.

انقسم السرد في روايتك الأولي «سمراويت» إلى خطين، أحدهما يتناول حياة البطل في جدة، والآخر يحكي رحلته إلى أسمرا. لماذا اخترت هذه المزاوجة؟

«سمراويت» كانت معبأة بالثنائيات المتقاطعة، جدة وأسمرا، محمد مدني ومحمد الثبيتي، ختمية والنزلة اليمانية، مودرنا وليالي الحلمية، إدريس محمد علي وعبادي الجوهر، إلى آخر تلك الثنائيات التي تكثّف وتبرز حالة إزدواج وتشظي الهوية التي يعيشها «عمر» بطل الرواية وحيرته البالغة إلى أيٍّ من الهويتين ينتمي. كذلك ساعدني هذا الأسلوب، في ما أعتقد، على التنقل في الزمن من دون إرباك القارئ، ومن دون اللجوء إلى تقنيات مستهلكة كاستدعاء الماضي عبر التذكر.

نوّعت مستوى الحوار في «سمراويت» بين الفصحى والعامية، لماذا لم تركن إلى إحداهما؟

كان هذا مقصوداً لأني كنتُ أمام خيارين، إما أن أعتمد الفصحى في الحوارات وبالتالي تفقد الشخصيات عمقها وتبدو مسطّحة، فلا يبقي أمام القارئ لتمييز الشخصيات إلا الأسماء. لأن أستاذ الجامعة في هذه الحال سيتحدث اللغة نفسها التي يتحدثها رجل أميّ. والخيار الثاني كان إدراج العامّية لشخصيات بعينها، ومشكلة هذا القرار أنه يحصر فهم الحوار على أبناء المنطقة الذين يتحدثون هذا النوع من العامّية، ويحرم بقية القرّاء في الوطن العربي ذلك. في النهاية اخترتُ إدراج العامّية لكن بأقل قدر ممكن، وعبر اختيار كلمات أقرب إلى الفصحى. حدث هذا ربما بوضوح في «مرسي فاطمة».

تحتفي بالفضاء المكاني في أعمالك، وتبرع في ترجمته عبر الكلمات، هل تؤمن أن الأدب الجيد في أحد وجوهه هو جغرافيا جيدة؟

أعتقد هذا، لكن لا تنس أن ثيمة العملين ارتبطتا بالمكان، فلم يكن أمامي اي خيار آخر. فالأزمة الرئيسية في «سمراويت» هي علاقة البطل بالمكان، بينما كانت «مرسي فاطمة» هرولة طويلة لاهثة في الجغرافيا القاسية، بمعناها الحرفي أو الإنساني.

تناولت في أعمالك مأساة اللاجئين الإرتريين، هل تؤمن بدور مجتمعي وسياسي للأدب؟

نعم، لكن من دون إفراغه من الفن. لدى دائماً ما أقوله سياسياً ومجتمعياً حيال إريتريا، لكن من دون تحويل أعمالي إلى مناشير سياسية أو منصات وعظية. أسعى دوماً للانطلاق من الهمّ الإرتري، لكنّي لا أتكىء عليه كثيراً كي أنهض بالعمل.

حرصت في روايتيك على أن تنسج أنثى هي المعادل الموضوعي للوطن... لماذا؟

لأني أعتقد أنهما متشابهان، أو هكذا أشعر، فقد انسقتُ وراء شعوري هذا من دون وعي أو سابق قصد. أظن أن الوطن أجمل من أن نشبّهه بشيء أدنى. تخيّل معي وطناً يشبه الذكور، أي بؤس هذا يا رجل!

قلت إن جائزة الشارقة وضعتك على طريق الرواية، ما هي قيمة الجوائز للروائي وهل هي معيار صادق للعمل الجيد؟

لا أبداً ليست معياراً صادقاً للعمل الجيد على الإطلاق، وربما كان هناك عمل أفضل من «سمراويت» في ذلك العام، لكنّ الأمر احتكم في النهاية إلى ذائقة لجنة التحكيم ورؤيتهم الذاتية. أنا أفهم الأمر على النحو التالي: لدينا كمّ هائل من الإنتاج الروائي في مقابل قارىء كسول على الأغلب لا يبذل جهداً في المغامرة بفرز الجيد عن الرديء من تلقاء نفسه، وإنما يلاحق الرائج، وينتظر قوائم التوصيات التي تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي. في هذه الحال، تختصر الجوائز الطريق بين الروائي وقارئه. هي لا تقول إن العمل هو الأفضل، لكنها تمنح العمل فرصة أكبر ليتم اكتشافه. هناك من قرأ «سمراويت» لأنها رواية حازت جائزة، ثم لم تعجبه. هل يبدو هذا غريباً؟ على العكس. لكنّ التفاته إلى «سمراويت» كان سيتأخر كثيراً لولا تلك الجائزة.

ما هي مساحة التقاطع بين الخصوصية الإرترية والأدب الإفريقي؟

 ثمة تقاطع على مستوى التأريخ والجغرافيا، فمجمل الأدب الإفريقي رصد ووثّق مشوار التحرر من الاستعمار، كما حضر المكان بحمولاته الثقافية في شكل بارز، ولم تكن إريتريا استثناء من كل ذلك. لكن الحالة الإرترية قلقة بطبعها. وهذا شعور تسرّب إلينا من منطقة القرن الإفريقي التي تتنازعها هويتان عربية وإفريقية. هذا الأمر برأيي انعكس على الأدب الإرتري ومنحه خصوصيته. فإريتريا دولة في إفريقيا من دون أن تكون إفريقية تماماً، وهي بمحاذاة قلب الوطن العربي من دون أن يجعلها ذلك دولة عربية تماماً.

هل هناك تهميش عربي للأدب المكتوب بالعربية في إريتريا؟ ولماذا لم نرَ روايات إرترية أخرى بخلاف رواية «رحلة شتاء» لمحمد ناود؟

هناك على الأغلب لا مبالاة عربية بإريتريا عموماً، ناهيك عن آدابها. النظام سعى ونجح في عزل إريتريا عن محيطها العربي، وهمّش وأضعف اللغة العربية فيها، وفي المقابل لم يرَ العرب في ذلك ما يستدعي الانتباه. أنا لا ألوم العرب هنا فهم غارقون في مشاكلهم، لكني أُوصّف الحال وأجيب عن سؤالك. في ما يخص الروايات هناك عدد لا بأس به لروائيين إرتريين مميزين تمكنوا من الحضور عربياً أمثال أحمد عمر شيخ، أبوبكر كهال، محمد جميل، محمد حسّان، حنان محمد صالح، وغيرهم. وأستطيع الجزم أن الحالة الروائية الإرترية تشهد هذه الأيام حراكاً لم تعرفه من قبل، وهذا أمر مبشر للغاية.

انت صحافي ومراسل إلى إحدى الفضائيات، إلى جانب أنك روائي، هل تلتهم الصحافة وقت وطاقة الكتابة الإبداعية؟

لا أنظر إلى الصحافة بهذه العدوانية، بل أعتبرها مجالاً إبداعياً رفد ويرفد تجربتي الروائية. وكثيراً ما منحتني أدواتها فرصة لتجويد نصوصي الروائية، فرواية «مرسي فاطمة» مثلاً لم تكن لتخرج بهذا الشكل لولا جانبي الصحافي، فقد استبقتُ كتابة النص بجهد صحافي استقصائي واستماع إلى شهادات، كوني لا أستطيع زيارة تلك الأماكن التي كانت مسرحاً للأحداث.

مستجدات كبرى طرأت على المنطقة، كيف ترى الوضع في ظل ما يسمى «ثورات الربيع العربي» وارتفاع حظوظ التيارات الإسلامية المتشددة؟ أين إريتريا من هذا الحراك؟

إريتريا في عزلة كبيرة، وهذا ما أراده النظام ونجح فيه. فللقمع اليد الطولى هناك، ولا مكان في إريتريا لأي وسيلة إعلام أجنبية أو محلية مستقلة. وشبكة الإنترنت ضعيفة جداً بحيث لا يمكن إرسال صورة أو مقطع فيديو، وهناك ضريبة «رفاهية» على من يستخدم أطباق الساتلايت، ولا تعمل خدمة الجوال الدولي في إريتريا، كما لا يمكن إرسال أو استقبال الرسائل النصية بين إريتريا وبقية دول العالم، وتخضع الاتصالات الهاتفية لمراقبة شديدة، ولا يستطيع أي شخص استخراج شريحة هاتف ما لم يكن بحوزته صكّ ملكية عقار. ومع كل هذا فقد جرت محاولة انقلابية في يناير قبل عامين باءت بالفشل، وليس معلوماً ما ستسفر عنه الأيام المقبلة.

Top
X

Right Click

No Right Click