ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة السابعة والثلاثون
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
الفصل الرابع:
في الصومال الغربي:
عندما شاركت في تحرير قسم كبير من الصومال الغربي كنت العربي الوحيد
الذي دخل إلى أعماق الصومال الغربي وكان ذلك عام 1977.
في بدء الحرب دخلت من مدينة بلدويني الصومالية وخرجت من هرجيسا الصومالية وفي قلب أوغادين حيث قاتل الجيش الصومالي وكنت أنا بجانب المقاتلين في جبهة تحرير الصومال الغربي، والتي كان يرأتسها في ذلك الحين المناضل العربي عبدالله حسن سفير الصومال حالياً في القاهرة.
صوّرت وقدّمت فلماً عن هذه المنطقة. استمر عملي في هذا الفيلم سنتين ذهاباً وإياباً. الصومال الغربي غني بالبترول والحيوان ولم تكن ظروفي تسمح لي بمعرفة خصائص الصوماتل الغربي كله.
وعندما ذكرت الحيوان والبترول فإني شاهدتهما، رأيت آبار النفط وهي مغلقة ورأيت طائرات أثيوبيا وهي تفتح نيران رشاشاتها وترمي بقنابلها على هذه الإبل. إن الثروة الحيوانية كبيرة جداً في الصومال الغربي. هذه الطائرات ترمي قنابلها على هذه الحيوانات التي لا تنتمي إلى اليمين أو اليسار إنها مخلوقات الله المفيدة للإنسان.
في الصومال الغربي قطعت مئات الكيلو مترات سيراً على الأقدام، أصوّر المعارك والقتال حتى وصلت إلى مشارف مدينة جيجيكيا وعلى مقربة منها وجدت وزير الدفاع الصومالي ويدعى محمد علي سمنتر يقود الدبابات بنفسه، نعم إنه وزير الدفاع الصومالي.
مررت بمدن وقرى مثل قلافو شلابو نهر شبلي نعم كان يرافقني أحد أعضاء القيادة في جبهة تحرير الصومال الغربي. وهو الأخ سعيد حسين وهو رجل عربي قومي متفان بحب بلاده. ثم تعرّفت على العميد عبدالرحمن قائد المليشيا والذي كان متزوجاً من ابنة الرئيس سيادبري، كم كان العميد متفاخراً حين يقول (لقد تخرّجت من الكلية العسكرية في سورية).
أما سلاطين المنطقة فهم كرماء في أخلاقهم، وفي شجاعتهم الفائقة،إن أحد السلاطين وهو الشيخ أحمد عبد الرحمن وهو سلطان منطقة شلابو قد ذبح لي جملاً تكريماً لي، وقال لي: أنت بين المسلمين، فكل يا أخي وامش على بركة الله!
لقد رأيت بعيني المسلمين كيف أن النساء الصوماليات اللواتي يمشين وراء أزواجهن وأولادهن وأخوتهن،يحملن الماء ويزغردن عندما تبدأ المعركة مع الأثيوبيين. صورّت الرجال عندما قاتلوا الأثيوبيين على مقربة من نهر شبلي.
كان الجيش الأثيوبي لا يتحرك إلا بقوافل كبيرة.
لقد صعدوا على ظهر الدبابات وليس لديهم سلاح، إلا السيوف والسكاكين والبلطات، كيف كان الجنود الأثيوبيون يخرجون من الدبابات ويقعون أسرى .لا يقتلونهم والسبب إيمان الصوماليين بدينهم الإسلامي.
قال لي الأخ عبد الناصر، وهو من قادة جبهة تحرير الصومال الغربي: إننا نعامل الأسرى كما أمرنا الإسلام وكما فعل نبيّنا محمد (ص)، لقد صورت راعية إبل جميلة، وهي تقود ضابطأ أثيوبياً من قبيلة الأمهرا. هذه الراعية الحسناء تركت إبلها وضربت هذا الضابط بعصاها على يده وأسقطت البندقية من يده ثم جرّدته من مسدسه، لن أنس هذه الجميلة وهي تسوق هذا الضابط إلى مكان تواجد الثوار.
إن الشعب الصومالي هو من أشجع الشعوب العربية الإسلامية ولكنني أقول: (الله يهديهم).
في قلب العاصمة أديس أبابا وعلى مرأى من كبار قادة العالم الاشتراكي مثل الزعيم فيدل كاسترو، وبعض زعماء أحد البلدان العربية كان يؤتى بالضباط الصوماليين وهم مكتفّي الأيدي والأقدام، حيث يوضعون في الساحة المخصصة للعرض العسكري والمدني. كانت تأتي النساء الأثيوبيات، وهن يحملن الأحزمة العريضة ويقمن بجلد الأسرى الصوماليين.
كثير من شعب الأورومو كان يقاتل بجانب جبهة تحرير الصومال الغربي، ومن هناك تعرفت على قياديي وجنود الأورومو أو كما يسمونهم الأمهرا الغالا، لكن هذه الكلمة مكروهة ومعناها العبيد لكني كما أوردت كانت تطلق عليهم من قبل الأمهرة والتجراويين. ومن خلال وجودي معهم استنتجت هذه القراءة السريعة عنهم.
في نهاية القرن التاسع عشر، والتي تعتبر بداية جديدة من تاريخ شعب الأورومو، فالحياة الزراعية أخذت تحل محل الحياة الرعوية البدوية في أجزاء كبيرة من بلادهم، وتعداد شعب الأورومو هو 20 مليون نسمة، وهو شعب مكافح، وله تاريخه المليئ بالبطولة والشجاعة، وإلى وقت قريب كانوا يقاتلون بالرماح فقط.
إن هزيمة الأورومو على يد الامبراطور منليك كانت هزيمة لشعوب أثيوبيا كافة، إن الظروف القاسية المفروضة عليهم من قبل الامبراطور ية الأمهرية والتجراوية كالفقر والتخلف، لقد فُرضت عليهم ظروف تركتهم يعيشون في القرون الأولى.
في عام 1928 قامت الامبراطورية الأمهرية المتسلطة باستدعاء القوات الملكية البريطانية من عدن، وضربت حركة شعب الأورومو في ثورته الأولى عام 1940، ثاروا مرة ثانية وأيضاً أتت القوات الانكليزية من عدن وضربتهم بشدة وبلا رحمة، وعام 1935 تم إنشاء اتحاد كونفدرالي مع شعب الأورومو، وتم تقديم طلب إلى عصبة الأمم للاعتراف بهذا الاتحاد كدولة، لكن بعد هزيمة الايطاليين في الحرب العالمية الثانية، تقدّم الأوروميون بمذكرة إلى الحكومة الانكليزية لإقامة دولة مستقلة، لكن المستعمر الانكليزي كعادته لم يهتم ولم يأخذ برأي هذا الشعب المظلوم، بل عمد إلى إعادة الامبراطور هيلا سيلاسي إلى السلطة وفي عام 1967 قامت حركة وطنية تسمّى ميتشاتولما فقمعت بوحشية وشنق بعض زعمائها وشرد الباقون، إن الإسرائيليين والانكليز والمريكان كانوا يساعدون الأثيوبيين ويقصفون مواقع الأورومو، إن هذا الشعب كان هدفه الأول هو الحصول على تقرير المصير القومي لشعبه، وهذا الشعب ينطق اللغة الأورومية وعاصمته أروميا وهم متواجدون في هرر وبالي وعروس وسيدامو والوبايور ولجار وكافا وحميوجونا وجزء من شوا.
هذا هو شعب الأورومو بمعلوماتي البسيطة عنهم، إن من يحكم أثيوبيا اليوم، هو شعب تجراي والمتمثل في جبهة تحرير تجراي ذات الأغلبية المسيحية، إن القومية التجرينية والقومية الأمهرية وعلى مدى سنين طويلة، حاربت واضطهدت كل القوميات الأخرى، والسلطة دائماً كانت بأيدي الأمهرة والتجراي، وحين لا يكون للتجراويين يد كبيرة في الحكم ينقلبون على الأمهرة وهكذا.
وحاربت جبهة تحرير تجراي السلطة وانتصرت عليها بدعم أمريكي إسرائيلي عام 1991 وسقط نظام الحكم العسكري وسقطت القومية الأمهرية، لكن هذا السقوط للقومية الأمهرية هو برأيي وحسب رؤيتي للواقع هو نجاح مؤقت، إن نجاح الجبلهة الشعبية لتحرير ارتريا في تسلم السلطة والاجراءات والتحالفات القوية بين الجبهتين ليس له إلا تفسير واحد وهو الرابط الديني، إن هذا التحالف لن يدوم مطلقاً.!
بالنسبة لثورة الشعب الأرتري التي قادتها جبهة التحرير الارترية ذات الخط الوطني والذي يجمع كافة فئات الشعب فقد استُبعدت نتيجة التآمر على هذه الجبهة، والأمر الثاني وقوف الأمريكيين والإسرائيليين بجانب الجبهة الشعبية (إسرائيل القرن الأفريقي).
وقد تم التحالف وتوقيع معاهدات بين الجبهتين المذكورتين وأهمها توقيع اتفاقية الدفاع المشترك بينهما، فالذي يقع لأثيوبيا جبهة تحرير تجراي يقع على ارتريا الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا. إن أي إعتداء على أحدهما يكون إعتداء على الآخر، ثم توقيع الاتفاقية الأمنية السياسية وهناك مجموعة من الاتفاقات منها: أن الفرد الأثيوبي - وأنا برأيي الخاص هو الفرد التجريني - يحق له حمل الجنسية الارترية أي يكون مزدوج الجنسية، إن لغة شعب تجراي هي التجرينية، وهذه اللغة المهيمنة في الوقت الحالي عند الجبهة الشعبية والمهيمنة في ظل النظام الحالي.
تجراي والريف الارتري:
في بداية عام 1976 توجّهت من مدينة تسني الارترية، إلى المرتفعات. كانت المرة الأولى التي أركب فيها سيارة في ارتريا، في الصباح سارت السيارة العسكرية لاند روفر ووصلت إلى مدينة مندفرا في اليوم التالي، وقد نمت في قرية هيكوتة واستغرقت الرحلة حوالي ثلاثين ساعة،بينما في السابق كنا نسير على الأقدام وتستغرق رحلتنا خمسة عشر يوماً ذهاباً فقط.
سرنا على طريق معّبد دون خوف من مواجهة جنود أثيوبيين، البلد محرّر، في السابق كنا نمشي بين الجبال والأحراش، كنا نمشي في الليل أكثر من النهار خوفاً من الطائرات والجواسيس، والآن بعد تحرير المدن أصبحنا نركب السيارة ونتحدث بالهاتف. كان ثمن ذلك باهظاً لقد بذل الشعب الارتري دماؤه التي روى بها الجبال والسهول!.
وقد استطاع الثوار من ج. ت. أ. تحرير معظم ريفهم وأكثر المدن، إنما أريد أن أقول إني دخلت الأراضي الأثيوبية عن طريق ارتريا، وقد وصلت قرب مدينة عدوى إحدى محافظات تجراي كنت أتنقل مع الشهيد سعيد صالح بحرية تامة، نمت في قرية راما الأثيوبية التجراوية ليال عده، كانت قرية خضراء ومناخها قريب أو مثل مناخ بلدي.
وكان الملفت للنظر في تلك القرية، هو كثرة الحانات والخمّارات والنساء، ثم إن التجراويين يحبون أكل اللحم نيئاً. كثيراً ما كنت أرى قطع اللحم وهي دامية، رأيت إمرأة في إحدى الحانات تحمل قطعة لحم دامية مع قطعة خبز وجعلتها سندويشة، ثم ذهبت هذه المرأة مع رجل حيث مارسا الجنس في مكان شبه عام...! وكانت عملية مقززة للنفس وفي مناطق كثيرة في أثيوبيا تتشاجر النساء تقول إحداهن للأخرى: أنت لا تعرفين غير زوجك وتعتبر هذه إحدى الشتائم، إن راما هي إحدى قرى تجراي وكانت خاضعة لجبهة التحرير الارترية التي كانت تساعد جبهة تحرير تجراي في بدايتها ضد الجيش الأثيوبي.
هناك جملة تتردّد دائماً على ألسنة فئة من الارتريين وهي: تجراي تجرينياً ومعناها المتحدثون بالتجرينية في أثيوبيا وارتريا، وبالتحديد شعب تجراي وقسم من أهل المرتفعات في ارتريا. إن هذا التعريف يعطي أكثر من تفسير، فالتفسير الأول هو إعطاء الطابع الديني، والتفسير الثاني هو طابع قومي، والطابع الثالث هو طابع ثقافي ممهور باللغة المشتركة، ويمكن أن تكون هذه السمات الثلاث هي تشكيل تجراي الكبرى..؟
إن جبهة تحرير تجراي والجبهة الشعبية لتحرير ارتريا وقيادتها متفاهمة متقاربة حول إنشاء هذه الدولة، ولم لا؟ إنهم حسب اعتقادهم مشتركون بلغة واحدة ومذهب واحد وجغرافية واحدة وعادات واحدة وتقاليد واحدة، حتى الأسماء الشخصية أيضاً مشتركة بين أهل تجراي وقسم من أهل المرتفعات الارترية وليس لديهم مانعاً أن يكونوا دولة واحدة...!
وأتابع حديثي عن الجبهة الشعبية لتحرير تجراي. التنظيم الأول كان أسمه جبهة تحرير تجراي، أنشئ عام 1970، وكانت جبهة تحرير ارتريا تدرّب شعب تجراي وتقويهم من أجل تكوين تنظيم خاص بهم، وعندما تمّ التدريب العسكري، شكلت جبهة تحرير تجراي، كانت سياسة الثورة الارترية المتمثلة في جبهتها أن تقوّي الحركات القومية في أثيوبيا من أجل إضعاف وإسقاط الحكم، وكانت جبهة التحرير الارترية تقوم بإمداد جبهة تحرير تجراي بالأسلحة وغيرها. وفضلاً عن هذا فإن شعب تجراي مضطهد من قبل القومية الأمهرية الحاكمة.
وبعد سنوات شُكلت الجبهة الشعبية لتحرير تجراي، وارتبطت بقوات التحرير الشعبية الارترية والتي كان يرأسها عثمان صالح سبي وأسياس أفورقي، حيث كان هذا هو الرجل القويّ والذي رأس الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا فيما بعد التي ابثقت من قوات التحرير الأرترية، وحصلت تغييرات في الجبهة الشعبية لتحرير تجراي، فأقيلت القيادة وحلّت مكانها قيادة جديدة برئاسة ملس زيناوي وهذا درس في جامعة أديس أبابا كذلك درس السيد أسياس أفورقي في هذه الجامعة، ولكن أسياس لم يكمّل تعليمه الجامعي.
وعندما ترأس ملس زيناوي شعبية تجراي ورأس شعبية ارتريا أفورقي واتحدت الجبهتان المذكورتان وضربتا جبهة تحرير ارتريا الأم ذات الخط الوطني والتي انتهجت الثقافة العربية، وضعت الشعبيتان استراتيجية خاصة بهما وبدأتا بتنفيذها وكما قلت: إنهما متقاربتان بكل شيء؟ وكثير من هذه الحركات التي تسمي نفسها ثورية أوغير ذلك ومن الحركات في أثيوبيا حركة تسمى حركة الأمراء وهم من القومية الأمهرية ومن بقايا هيلا سيلاسي ثم هناك الحزب الجمهوري في عهد منغستو وغيره من الأحزاب، ورغم محاولة جبهة تحرير تجراي التي استولت على السلطة وحكمت أثيوبيا، أعطت هذه القوميات حكماً ذاتياً محدوداً، إلا أنه لم يستمر طويلاً لأنه مبنيّ على عمل تكتيكي، وليس عملاً استراتيجياً إن إقامة دولة جديدة في أثيوبيا يجب أن ترتكز على إرساء الحق والعدالة والمساواة بين كل القوميات والطوائف وإعطاء المسلمين حقوقهم كاملة.
أغاني أرترية:
لقد أطلتُ الشرح لأحدثكم عن بعض الروايات والقصص التي رأيتها وسمعتها، ولنبتدئ بالمرأة الأرترية الجميلة شكلاً ومضموناً فهي رقيقة ولطيفة، فعندما تنظر إلى عينيها تجهما تنقطان بالدلال والغنج، أما نعومة جسدها عندما تلمسه كأنما تلمس الحرير، أما الثدي فهو مستدير وبديع باستدارته وصلابته، أما اليدان فهما تبدوان كأنهما عظام والقدمان الصغيران تزيدان أطرافها رقة ودلالاً، لقد أعطى الله هذه المرأة جملاً غير عادي، ولا يوازيها إلاغ السودانيات الشماليات والصوماليات والأثيوبيات والأمهريات، ومن لا يصدق فليسامحه الله، كثيراً عندما كنت أقترب من الأنهار الجافة ومن هذه الأنهار يكفي أن تحفر بضعة أمتار وتروي ظمأك من الماء ويزداد الظمأ إلى هؤلاء الفتيات الجميلات، فكنت أروي ظمأي بتصويرهن وخاصة في مناطق بركة وساوا وما حولهما والساحل أيضاً، أما الوسط والمرتفعات فهنا بعض الاختلاف لأنها مناطق جبلية والعذرية في مناطق عديدة في ارتريا هامة جداً.
فالبنت العذراء تبقى هكذا إلى أن تتزوج أو تموت، والموت لمن يمس فتاة عذراء أو غير عذراء عند بعض القبائل، فالارتريون عامة لا يقبلون بالخيانة الزوجية، والمرأة الارترية كلمتها مسموعة ولها شأنها.
وفي المدن التي حرّرتها الجبهة الشعبية كنت أسمع النساء وهن يغنين أغاني الحب والأمل والحرمان، وفي الاحتفالات العامة كالمناسبات الوطنية وحفلات الزواج، فالمرأة تتصدّرها أما الموسيقى فهي متنوعة فمنهم من يستعمل الألات الحديثة والمعروفة إلا أن الآلة الموسيقية السائدة في الريف الارتري هي الربابة والناي هذا شكله عادي.
أما الربابة فإن أوتارها من الاسلاك المعدنية، في كثير من الأحيان وعندما يبدأ العزف على الربابة في الريف فإنه يستغرق ساعات فلكل معزوفة معنى وحكاية، وهي تتحدث عن الحب، إلا أنها في أكثر الأحيان تتحدث عن البطولة و الشجاعة، إذاً المرأة الارترية تغني وترقص وتعمل، وأحياناً تقاتل مثل أية أمرأة في العالم المتحضر والذي يزيد في أنوثة المرأة الحشمة والأخلاق، وسمعت إمرأة كبيرة تغنّي بلهجة لم أفهمها، وحين سألت من كان معي من الرفاق قالوا: إنهم لا يعرفون هذه اللهجة كان صوتها حنوناً لدرجة أنني فهمت ما تقوله وفعلاً كنت صادقاً بإحساسي، وعندما جاء أحد الرفاق وكان يفهم لهجتها.
قال: كانت تغني للحب القديم يوم تزوجت وتركت أبويها وجاءت إلى هذه المنطقة لتعيش مع الراعي زوجها، لكن الأمهرة قتلوه ولم تتزوج من بعده، كانت أغنيتها من تأليفها وتقول فيها: "لم يلمس صدري أحد بعدك، لن يخفق قلبي لأحد، إني أعيش لأن الله أراد لي البقاء، سأبقى مع رجلي ومع عشيرته ..الخ".
وفي قرية حقات سمعت إحداهن تغني بلهجة البلين وجلست واستمع إليها وهي تردّد أغنية رقيقة حزينة، سألت مرافقي عن معنى هذه الأغنية فقال: "إن كلام هذه الأغنية عن وجدان وتقدير حب الشعب الارتري للعرب خاصة، تقول الكلمات: "نحن لم نزعل لأن كفيل قد سلّم نفسه لأثيوبيا فالخونة موجودون في كل مكان، لكننا نتألم ونبكي لأن كفيل هذا قد تعلّم وتدرّب في سورية، فماذا نقول لأهلنا في سورية؟"... وفي ريف ارتريا تتعطر المرأة بطريقة محلية، ولأني عشت في الريف فترة طويلة، إني لم أدخل أي مدينة ارترية إلا بعد تحريرها، ولم تتسن لي الظروف أن أعرف كيف تتعطر المرأة في المدينة، لكنني أعتقد بأن الطريقة واحدة، فالسنون الطويلة من حياتي والتي قضيتها في الريف الارتري هي التي أعطتني هذا الاطلاع، تأتي المرأة إلى ركن متطرّف في البيت وتقوم بحفر الأرض بشكل دائري صغير، هذه الحفرة ضرورية لكل المنازل تقريباً فحين تريد المرأة أن تتعطر، تضع الفحم في الحفرة وتشعله، وحين يصبح الفحم جمراً تضع فوقه أخشاباً معطرة، ثم تجلس فوق الحفرة أي تقرفص وتغطي جسدها ببطانية فيلفها الدخان المعطر، وعلى قدر ما تستطيع تبقى جالسة حتى يتصبب العرق من جسدها والدخان المعطرّ يلفها فتصبح رائحتها ممسكة.
ومن هؤلاء النساء من تكون عارية تماماً، إن هذا يزيد المرأة جمالاً وينظفها، ثم إذا كانت الفتاة مقبلة على الزواج يحنّون يديها وقدميها ويرسمون عليها أشكالاً هندسية جميلة، ثم تتعطر الفتاة كالعادة ثم تضع نوعاً منالكريم البلدي ويسمى الدلكته ويستعمل بعض الشبان هذا الكريم البلدي، ومن الرجال من يزين شعره ففي منطقة بركة والماريا الشبان هنا شعرهم طويل ويربطونه في منتصفه ثم يتركون الباقي يهبط على الرقبة والخدين وبعضهم يدهن شعره بالسمنة البلدي، ولما سألتهم لماذا تدهنون شعركم بالسمن البلدي أجابوا: إن دهن الشعر باسمن يقي العيون من الشمس ومن أمراض أخرى وبهذه الطريقة يحمون أنفسهم من ضربات الشمس.
في أثناء تواجدي في أرتريا وكنت في طريقي إلى المرتفعات وكان يرافقني الأخ المناضل ابراهيم محمود وكنا نمشي على أقدامنا، وفي الليل قطعنا الزفت الزلط هذا الطريق يصل محافظة اغوردات مع باقي المحافظات وهو محروس جيداً من الأثيوبيين، كنا نقطعه فرداً فرداً على ألا تكون السماء مقمرة، في الصباح جلسنا عند سفح أحد الجبال العالية وفي قمة هذا الجبل توجد صخرة غريبة الشكل، كان محمود ينظر إلى الجبل ويعاينه، كنا بانتظار أن تخف حدة الشمس كي نتابع طريقنا، زارنا شيخ وبعد السلام، سألنا وبلغة عربية وبلهجة قريبة من اللهجة السودانية: لماذا لم تتدخلا إلى قريتنا؟ ألستم أنتم جبهة؟ ومن أين هذا الزول؟ ويقصدني أنا.
قال له محمود: إنه عربي من سورية.
ومدّ يده وصافحني وسألني: ما اسمك؟
أحمد.
صلى الله على محمد.
ومد يده مرة ثانية وصافحني أهلاً بسورية وأحمد.
أنا اسمي الشيخ عبدالكريم سيد أحمد، جلس بيننا وكان معشرانياً كما يقولون. ودعاني لضيافته وقال: لماذا لا تبقى عندنا عدة أيام، "نتنونس" ونستفيد منك، وتحدثني عن بلادك وعن الرئيس الأسد وبلاد العرب والمسلمين، ونحن نحدثك عن أوضاعنا.
ثم التفت إلى ابراهيم وسأله: إنك تنظر إلى هذا الجبل فهل أنت خائف من صعوده؟ أم إنك تنظر إلى تلك الصخرة التي في رأس الجبل؟
كان محمود يعتقد أننا سوف نتعب لأن معنا عفشاً كثيراً وليس معنا غير بغل واحد، إن صعود هذا الجبل يحتاج إلى أربعة أيام وهو صعب وملتوٍ وليس فيه معالم أي طريق واضحة، وسوف نتسلقه استنتاجاً وخبرة.
قلت له: يا شيخ عبدالكريم ما هي قصة هذه الصخرة؟ والله شغلت بالي فقال الشيخ: "إن أهالي بلاد المنسع يطلقون عليها اسم وليت تيزاي ومعناها بنت الملك جاءت هذه إلى بلادنا مع جيش كبير وجلست هنا مع جيشها، وأنا أريد أن أقول شيئاً لأخي أحمد هذه الصخرة التي في رأس الجبل لها قصة، وهذه القصة حدثت هنا أم في بلاد المنسع الله أعلم، لكن سأروي ما سمعته من والدي رحمه الله: كانت بنت الملك هذه ظالمة وغنية جداً ولها جيشاً ظالماً يسرق ويعطيها، كانت ظالمة وتأكل مال الناس بالحرام، وبقيت على هذا الحال إلى أن أصبح الناس فقراء وأكلهم الجوع، وهي تزداد غنى أليس الجوع كافر؟
إن سيدنا الإمام علي رضي الله عنه قال: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته" وتساءل الناس فيما بينهم "إلى متى سنعيش في هذا الفقر والجوع والقهر والعذاب" إلا أن الجوع حركّهم فقاموا بالدعاء عليها فهم لا يملكون غير الدعاء أمام هذا الجيش الكبير، فاستجاب الله لهم وتحولت بنت الملك إلى صخرة كبيرة لا حياة فيها ولا تنفع لشيء، وصارت أرجل البشر والحيوانات تدوسها هذا ما حصل لبنت الملك، هذه المرأة الحاقدة والشرهة التي حرمت الناس اتعابهم وارزاقهم فقد حولها الله إلى صخرة جوفاء تداس بالأقدام.
قلت لمحمود: ما رأيك بهذه القصة الجميلة؟ إن الله معنا وسوف نجتاز هذا الجبلف دون تعب، ونحن لسنا جشعين، لا نريد مالاً ولا نظلم أحداً، ولسنا مستعمرون، ولن يكون مصيرنا كتلك الصخرة، وسوف ندوسها بأقدامنا، وضحك الشيخ وقال: أرجو لكما التوفيق.
وبقيت عين محمود على الصخرة، كان الشيخ يحمل مصحفاً كبيراً فتحه وقال: اعذرني لقد تأخرت في القراءة، عندها جاء رجل آخر وقال: يا شيخ عبدالكريم هذه العنزة التي طلبتها! إذبحاها على سنة الله ورسوله، ثم اسعيا في مناكبها، وتابع الشيخ قراءة المصحف وقام الآخر بذبح العنزة، إن صديقنا الشيخ قد استشهد وله ولدان كانا في الجبهة، وقد استشهدا في إحدى المعارك مع الجيش الأثيوبي، وانهى الشيخ قراءة القرآن وعندما وصل إلى الآية "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون" صدق الله العظيم.
ابتسم وقال أهلاً بأحمد وبسورية، إن الشيخ عبدالكريم يعيش وحيداً بعد أن توفيت زوجته، إنه رفض أن يرحل مع الذين رحلوا من قصف الطائرات، بقي مع أقاربه وازداد تمسكه بأرضه، كان أهالي هذه القرية يسكنون في كهوف يختبؤون فيها، حين تأتي الطائرات الأثيوبية وتقتل وتدمر: كانوا يلجئون إلى هذه الكهوف دائماً، وهم على استعداد لبناء بيوتهم لكنه ستدمر من جديد. فما الذي يجنونه من إعادة البناء؟ وقال الشيخ: يوماً ما سنعيد بناء بيوتنا.
لقد نسيت أن أخبكم عن الشعر. فللشعر دوره أيضاً. فقد سمعت أن الشاعر علي فايد ينظم شعراً سياسياً وطنياً. قال الشاعر: "حطم الأعداء المواطنين وفرضوا عليهم الضريبة فيما مضى كان أبناء البلاد أقوياء أما اليوم فصارت حمايتهم بيد الظالمين.. وإذا شاءت الحكومة أن تعرف حالياً فبلّغوها هذا الكلام عنا".
أما الطب والتجميل فله دوره أيضاً في الريف والقرى هناك شخص في كل قرية يسمونه كبير الأطباء لصاحبنا رأيّ يتمثّل بأن فصد الدم من الرأس يمنع المرض فيقوم بتشطيب الوجنتين شطبات كبيرة وصغيرة، ثم هناك الشلوخ كما يسميها الارتريون والسودانيون فعلى الوجه تُرسم بسكين وتترك أثراً حتى الموت.
إن هذه العادات حاربتها الجبهة، ولم يبق منها إلا القليل النادر، وهي للزينة فقط والمرأة تتزين بالذهب في صدرها ويديها وقدميها ثم تضع في أنفها أسواراً من الذهب العريض للزينة، وأنا بنظري أنها تفسد جمالها، أما بنظرهم فهي الزينة التي تعطيها الجمال.
هذا في مناطق السهل والساحل، أما في المرتفعات فالمرأة يرسم على حبينها وبين عينيها صليب صغير كلوشم، وكثيرؤاً ما كنت أرى أطفالاً صغاراً يضعون في رقابهم خيطاً وهذا هو التمييز ما بين المسلمين والمسيحيين، وحاربت الجبهة كل هذه التفرقة، ومن أجل هذا حوربت الجبهة ودمرت.
وفي المرتفعات والتي تشمل كلاً من أكلى قولزي وسرايين وحماسين والعاصمة اسمرا تقع منطقة حماسين كنت أرى الأنوار المتصاعدة من قلبها.
كنت أقف على قمم أحد الجبال المحيطة باسمرا، حيث تقع اسمرا بين سلسلة من الجبال، وأتساءل هل سأدخلها يوماً؟ طقسها يشبه طقس بلدي، في حماسين رأيت شجرة يبلغ قطرها نحو عشرة أمتار، كان المقاتلون يجلسون تحتها، ويتفيأون في ظلها، ووجدت عدة سيارات مدنية وعسكرية غنمتها الجبهة، وخبأتها تحت تلك الشجرة فلا يستطيع الإنسان أن يجلس تحتها طويلاً لأن الجو يكون شديد البرودة، وحين سألت قبراي عنها أجابني أن اسمها الباوباي وعمرها حوالي 5000 سنة كما يقولون ثم شاهدت أشجار الكفيليا فثمر هذه الأشجار يعيد إليك النشاط والحيوية ويستعمل كدواء.
إن سحر هذه الجبال وقممها الشاهقة تقول لك: إن العودة إلى الله أفضل شيء إن الهواء النظيف يعطي الصحة والعافية والسير وسط هذه الجبال ساعات طويلة، والتي تمتد إلى أربعين كيلو متراً، كل هذا يعطيك القوة ويزيل عنك الشحوم والأمراض.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة