ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة السادسة والثلاثون
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
محاولة الضرب في العمق:
يجب أن تضرب أثيوبيا من الداخل، يجب أن تضرب أثيوبيا من البحر.
يثجب أن نفعل كذا وكذا، كثيراً ما كنت أعرض نفسي لأشد المحن، وعلى سبيل المثال، أروي هذه الحادثة التي بقيت حية في ذاكرتي:
جرى لقاء بيني وبين كل من عبد الله ادريس وعمر سليمان وعمر جابر، وعندما طال الحديث وامتد، وكنت أقصد إطالة الوقت حتى يذهب عمرجابر، وعمر سليمان، وبالفعل فقد ذهبا، وبقيت مع عبدالله ادريس نتجاذب الحديث ونتشاور، ثم اتفقنا على العمل بضرب المصالح الأثيوبية داخل البلاد وخارجها، واتفقنا على العمل وبخطوط عريضة، كان في رأسي القائمة المنوي ضربها، قطار سكة الحديد الذي ينقل البضائع والأفراد من جيبوتي إلى اديس أبابا والذي يعتبر شريان الحياة بالنسبة لأثيوبيا، يجب عليناأن نضرب مصافي النفط في عصب ومصوع، يجب تعطيل محطات الكهرباء في أديس أبابال وغيرها،يجب العمل داخل اديس أبابا فلننقل الدمار من القرى والمدن الارترية إلى أثيوبيا ذاتها هذه أفكاري ومقترحاتي قلت لعبدالله ادريس في حينها: اسمع يا أخ عبدالله لا يفل الحديد غير الحديدوالنار القوية.
هذا الموضوع اتفقت عليه مع عبد الله ادريس .واتفقنا على أن نبدأفوراً بالعمل.
وافق رئيس اللجنة التنفيية الجديد لجبهة التحرير الارترية على فكرتي وخطتي.
أطلعتُ صالح اياي على ما اتفقت عليه مع عبد اله ادريس وناقشنا الأمور، فوافق صالح واعتبرها فكرة جيدة ومهمة، ثم استعرضنا أسماء الارتريين الذين سنتعاون معهم والذين سوف ينفذون هذه المهمات التي لها صفات النوعية المميزة.
استعرضنا أسماء كثيرة للعمل معهم، كنت جاداً أعمل ليلاً نهاراً من أجل تحقيق حرية واستقلال ارتريا، كنت أعتبر نفسي واحداً من الشعب الارتري، ألم أكن عضواً في الجبهة؟ ألم أحمل بطاقة عضوية الجبهة؟ ألم أكن مسؤولاً في جهاز الاعلام؟ أنا وعائلتي كلها كنا نعمل من أجل حرية الشعب الارتري.
سافرت إلى جيبوتي تمهيداً للتعاون مع رفاقنا، من أهالي دنكاليا، قمت بعدة لقاءات مع بعض الارتريين المقيمين في جيبوتي، واعذروني عن عدم ذكر الأسماء لأن هؤلاء الأخوة مازالوا يعيشون ويلتقطون رزقهم في جيبوتي، بعد أن رفضوا الدخول إلى ارتريا والعيش في ظل حكومة الجبهة الشعبية، ولكن هناك شاب يدعى كلاي وهو نائب رئيس مكتب الجبهة في جيبوتي، كما أرجو أن يعذرني الأخ صالح اياي لأني لم أطلعه على كل التفاصيل - زرت جيبوتي ثلاث مرات دون علم الأخ صالح اياي أو أحد من القيادة.
زرت جيبوتي من أجل التنسيق والعمل، وجيبوتي هذه المدينة الكبيرة - الصغيرة بمساحتها لكنها كبيرة بأهلها، فأهل جيبوتي طيبو المعشر ويحبون الغريب، وخاصة إذا كان عربياً، فخلال أيام عديدة أصبح لي أصدقاء، ولي أصحاب من رجال ونساء، والخير كثير في جيبوتي، فالقات المنتشر هنا وهناك والذي يعتبر من ضروريات الحياة كالخبز والماء، فبائع القات في جيبوتي يفتخر عندما يقول لك: لديّ قات هرري.
وهرر هذه المدينة المسلمة التي تخضعا أثيوبيا بالقوة لها، كانت منبراً حضارياً مسلماً في الأيام السابقة، وعندما كنت مع مقاتلي جبهة تحرير الصومال الغربي، اقتربت كثيراً من مدينة هرر لكن قتال السوفييت والكوبيين وقوات اليمن الجنوبي، إلى جانب الجيش الأثيوبي، منعت الصوماليين من استرداد هذه المدينة وغيرها.
إذن القات متوفر والبارات منتشرة، ومابين البار والبار يوجد بار، كما أن فنادقها نظيفة ولها تسهيلات خاصة، كما أن فندق الشيراتون الذي توجد به صالة قمار فخمة، ويغص باللاعبين من كل الأجناس وغيرهم، أما المطاعم فحدّث عنها ولا حرج، والذي سأقف عنده وأقول: (إنك تجد فتيات فرنسيات شبه عاريات يقمن بخدمتك في المطعم وغيره إذا شئت) ثم هناك الفتيات اللواتي بشرتهن بلون الكاكو وعيونهن تشبه عيون الغزلان، إنهن رفيقات لطيفات كريمات، أما الفرنسيات فهن أيضاً كريمات، لكن بسعر أغلى بكثير، فعندما تدخل مطعماً على شاطئ البحر، تستقبلك الفتاة الفرنسية شبه العارية وسط الجو اللاهب، فجيبوتي من أشد بلاد العالم حرارة، تستقبلك الفتاة والابتسامة على شفتيها، وهواء البحر يداعب شعرها فيرسله على صدرها شبه العاري، فيزداد لهيب الطقس، ويتحول إلى بركان قد ينفجر في أي لحظة.
أما فتيات الكاكاو فهن شبه عراة ويرتدين الملابس الشفافة ذات الألوان المغرية، وتسريحتهن الأفريقية، فشعرهن المضفور بعناية فائقة ودقيقة، فجدائل شعرهن محبوكة بخيوط سوداء ناعمة تتدلى على وجوههن وكلأنها شلال ماء، أما صدورهن العارية والصاعدة بنظراتها إلى السماء دائماً تقول لك إن الدنيا بخير.
يأتيك القريدس والكافيار والسمك بأنواعه ثم المحار بجانب ما يطيب لك من أنواع الكحول، إلا أن المحار هو المحبّب عند الأجانب، فأنا لم أستسغه مطلقاً، رغم ما فيه من قوة دفع لآن ما بي يكفيني.
كنت أتناول السمك وقليلاً من الكافيار والقريدس المقلي والمسلوق وأحياناً النيء، طبعاً بالإضافة إلى السلطات وقرون الفليفلة الحمراء ذات الحدودية العالية والتي لا تطاق، وعند الحساب تغيب جنة عدن، لتجد نفسك في جهنم الأسعار والتي تكون أغلى من أي مطعم في باريس وبشارع الشانزيليزيه، وفي جيبوتي يستعملون الفرنك فهو يساوي تقريباً الفرنك الفرنسي وعندما تتمشى في شوارع جيبوتي تلاحظ دوريات الجيش الفرنسي ثم دوريات شرطة جيبوتي انهم في اتجاهين مختلفين وفي وقت واحد تقريباً وقريباً من وسط المدينة توجد معسكرات الجيش الفرنسي، إن جيبوتي تضم القوى العسكرية الفرنسية الضاربة، كان هذا قبل استقلال جيبوتي وما زال أو ربما اختلف الأمر وأصبح على الخفيف، إن أهالي جيبوتي هم صوماليون عرب مسلمون، فالصومال قُطع إلى أربعة أجزاء من قبل الاستعمار وكل حسب رغبته وجنسه.
المقطع الأول:
جمهورية الصومال الحالية بجزئيها الإيطالي والانكليزي، الإيطالي مقديشو العاصمة وما حولها من مدن والانكليزي هرجيزة وما يعرف الآن أي بعد الأحداث الأليمة التي ألمت بالشعب الصومالي بجمهورية أرض الصومال.
المقطع الثاني:
جمهورية جيبوتي وكانت تسمى الصومال الفرنسي.
المقطع الثالث:
الصومال الحبشي ويسمى أوغادين أو الصومال الغربي فكلمة أوغادين غير محببة لدى الصوماليين لأنها تضم قبيلة كبيرة تحمل نفس الاسم، وفي الصومال الغربي يوجد نفط كثير ورأيتُ - أثناء الحرب والتحرير - في منطقة قلافو وشلابو وقرب نهر شبيلي آبار النفط وهي مغلقة إلى حين تحتاجها الدول الكبرى.
المقطع الرابع:
الصومال الكيني وهو من أجمل المناطق الطبيعية والتي لم تمتد إليها يد إنسان.
لقد سافرت في هذا الطريق في اللوري إلى كينيا لأنه لا توجد وسائل أخرى، كنت أرى الحيوانات على الطبيعة وأهل المنطقة يعملون بالتهريب ما بين الصومال وكينيا، هناك تُهّرب جلود الحيوانات والعاج والخشب من أبانوس وصندل وهي التجارة الرائجة وكما قلت لا يوجد طرق قانونية إنما على البركة، وفي الصومال الكيني، يقاتل الصوماليون دون أن يدري أحد بهم وقضيتهم مطموسة.
كلنا نعرف أن كينيا وعاصمتها نيروبي والمدينة الثانية هي ممبسا وهي مدينة ساحلية وبها ميناء كبير وأغلبية سكان هذه المدينة من المسلمين المهاجرين من عمان ومن الجزيرة العربية منذ القديم.
والتقيت في هذه المدينة بشاب عماني يدعى جعفر بن سعيد وهو ابن عم السلطان قابوس سلطان عمان وقلت له: ماذا تفعل هنا؟ أجابني جعفر كما يحب أن ينادوه - إن أهلي وأقربائي هنا في ممبسا.
والتجارة رائجة ومربحة ما بين ممبسا وعمان، ثم ألم يكتب الكاتب الأمريكي ارنست همنغواي روايته الشهيرة ثلوج كلمنجارو وهذا الجبل يقع ما بين نيروبي وممبسا وهو مغطى بالثلوج، ثم إن حركة الماوماو التي كانت ضد الاستعمار البريطاني والتي قادها جوموكينا كنياتا وأصبح بعدها رئيساً للجمهورية، كانت قواعدها في تلك المنطقة.
إن كينيا بغاباتها وجبالها وسهولها وحيواناتها هي منتجع للغرب كافة. ومن هنا فإن منطقة الصومال الكيني مغموسة وغير مسموح بالكلام عنها..! إلا أن الجبهة الصومالية والتي تسمي نفسها (جبهة تحرير الصومال الكيني والتي تدعى اختصاراً انفدى تناضل من أجل حرية هذا الجزء من الصومال ليعود إلى امه).
جلست في أحد مقاهي جيبوتي لأفاجأ بتمساح كبير أمامي يسلّم عليّ، إنه التاجر الارتري الذي يدعى حسن كيكا وهذا التاجر عاش بين أثيوبيا والسودان وهو عني، ويتعاون مع من يتاجر معه دون استثناء. من أين ظهر هذا؟.
كانت ساعة شؤم عندما تعرفت عليه، والذي عرفنّي عليه هو عثمان صالح سبي في الخرطوم وأراد أن يجلس معي فأخبرته أن لديّ عملاً وأنا ذاهب وأنه من الممكن أن نلتقي في وقت آخر.
وقف معي هذا التمساح الجائع دائماً وسألني بعض الأسئلة الغريبة. متى وصلت؟ وماذا تفعل هنا؟.
تركته على أن نلتقي غداً صباحاً في ذات المقهى. ذهبت إلى مقهى آخر قريب من فندقي الذي يدعى منلك وهو اسم الامبراطور الأثيوبي القديم ومعناها الرأس أنتظر الأخ محمد علي شوم والملقب بكلاي. هذا الشاب الطيب الذي قال لي: يا أبا سعدة اعذرني أنا لا أستطيع أن أضيّفك ولا فنجان قهوة.. خرجت من السجن مؤخراً وليس لدي منزل ولا مكتب ولا ملابس، نعم كانت ملابسه قديمة ورثة، اعتقدت في بادئ الأمر إنه طالب حسنة وليس هو المناضل الذي أنتظره.
قال لي محمد علي: لم ترسل لي الجبهة، أي قرش منذ سنة، أرجوك أن تبلّغ أصدقائك بحالتي.
ألم تكتب لهم رسائل؟ ألم تعلمهم بحالتك وبوضعك؟.
إنهم يعرفون كل شيء، لكنك أنت تعرف كيف أصبحت الأمور تمشي في الجبهة.
ودعت كلاي وقلت له: "إنني مسافر غداً وسوف أعرض مشكلتك على الرفاق وأرجو أن يحصل خير"، كنت قد أنجزت ما أريده، رجعت إلى المقهى وجلست أفكر وأتساءل: (ماذا تفعل هذه الجمعيات الكثيرة في جيبوتي، جمعيات أثيوبية وارترية شعبية من الخارج لها الشكل الانساني، أما المحتوى الداخلي لهذه الجمعيات فهي تضم أجمل الفتيات الارتريات والأثيوبيات؟ إن هذه الجمعيات موجودة للتجسس وتقف وراءها المخابرات الأثيوبية والفرنسية والصهيونية وغيرها، فالواجهة جميلة وتزخرّفها النساء، أما الداخل فكان لأشياء أخرى وأنا في شرودي وتفكيري أتت حورية من الحوريات الفرنسيات التي تعج بهن جيبوتي وجلست بجانبي وقالت بالفرنسية و بنغمة راقصة: بونسوار.
وأجبتها بالانكليزية فقالت: أوه...
أنت تتكلم الانكليزية؟ هل أنت تاجر، أم دبلوماسي؟ ومن أين أنت؟، لم أجبها من أين أنا بل قلت لها أنني تاجر..، وبأي نوع من التجارة تعمل؟ بتجارة الأسماك يا حبيبتي.. لم تقل لي من أين أنت؟ ولم أرد عليها.. بل قلت لها بالعربية: ألا تعرفين السمك (يللي بدون حسك يا سمكه)، ضحكت لأنها لم تفهم شيئاً مما قلت، خاصة إني نطقت باللهجة الشامية، لكنها فهمت أني أتكلم العربية، وقالت بلغة عربية ركيكة وبلهجة صومالية جيبوتية: ألا تريد (اموري) أي تعاطي الحب. قلت لها: لا (أنا مريض ولا أريدك أن تنعدي مني)، قالت: وما هو مرضك حتى أشفيك منه يا حبيبي..؟
لو عرفتِ لتركت كرسيك وهربت.أتعرفين "الزهري". "نو.." أتعرفين السيدا.. مالت عليّ وعضتني من أذني وقالت: ألف فرنك وأنا سوف أشفيك.. كانت تعرف أني أكذب، فهذا النوع من النساء يستطيع القراءة في الأشياء الممحية...!
قلت لك أني مريض..
قلتها بعصبية، وقفت الحورية غاضبة منرفزة، وانصرفت لتبحث لها عن تاجر أو دبلوماسي آخر حتى تشفيه.
ركبت التكسي وتوجهت إلى المطار وحقيبتي الصغيرة معي وفيها ملابسي البسيطة، وسألت ما إذا كانت هناك طائرة مسافرة إلى جدة أو عدن أو صنعاء وكان حظي طيباً فالطائرة اليمنية مقلعة بالفعل بعد قليل..
من الفندق و إلى المطار إلى صنعاء ونمت في فندق المخا في صنعاء بين أهلي وأخوتي ولم أعد بعدها إلى جيبوتي مطلقاً، هذه المدينة التي تجمع الطيبة والجمال.
إن جيبوتي صغيرة المساحة لكنها تحتوي على كل شيء من الحرارة العالية إلى النسيم العليل لم أعد مطلقاً إلى جيبوتي لأن أصدقائي عبدالله وصالح لم يكونا جادين فما أكثر الوعود وما أقل العمل.
عدت إلى الخرطوم، واختليت بنفسي لأيام كنت خلالها أسرح بخيالي وبذكرياتي مع أخوتي المناضلين ومنهم الأخ المناضل محمود حسب.
تذكرت كيف استقبلني محمود حسب، على الشاطئ الارتري بعد أن قطعت باب المندب، كنت أرى الابتسامة والسعادة على وجه أبو حنفي كان يقول لي: سوف نمشي سوية مئات الكيلو مترات، وسنمضي أياماً وشهوراً سوية.
كان محمود عزيزاً عليّ، كنت أحترمه، وأحبه كثيراً، وعندما كنا نلتقي، نجلس ونفكّر في المستقبل وكان يقول لي: (إن فيلتك جاهزة في أسمرا يا أبا سعدة)، وقلت له: (لا أريد فيلا بأسمرا، فأنا لا أحب العيش في المدن، أريد الفيلا التي كنت أسكن فيها في مدينة مندفرا، ثم ترسل إلى الخدم والحشم. كنت أقول لأبي حنفي: لا أريد أحداً في الفيلا من الجنس الخشن.
في أي مكان كانت تقع الفيلا في مدينة مندفرا يا أبا سعدة؟
إنها مواجهة للبنك التجاري، وكان أحد الايطاليين قد استأجرها، وعندما بدأت الجبهة بتحرير المدينة، هرب هذا الايطالي وترك الفيلا، ألم أشارك يا محمود بتحرير مدينة مندفرا، والله يا محمود أجمل أيام الحياة كانت في هذه الفيلا. وكان ولد داويت يرسل لي ألذ الطعام وأشهاه، كنت عندما أتحمم في البانيو أمسك الهاتف الموضوع بجانبي وأتكلم مع ولد داويد الذي كان محافظاً لمندفرا أقول له: يا سيادة المحافظ أريد أن اقول لك إن الماء بارد وأريده ساخناً في المرة القادمة.
كان داويد يضحك ويقول لي: أمرك يا سيادة الرئيس!!
أين ولد داويد الآن؟ وأين محمود حسب؟ لقد استشهدا، لقد صفّي هذان البطلان.
كنا نتسامر أنا وأبو حنفي. عندما كنا سوية في دنكاليا، وعندما كنت أتمدد على الرمل وأنام مرتاح الفكر، تعب الجسد، كنت أحسّ بأن الزمن يقف ليريحني. من أين يأتيني هذا الإحساس؟ الآن يحضرني الجواب (إنه من ألمي النفسي الذي كان يتوالد لديّ لحظة بلحظة وأنا لا أشعر به إلا كاملاً).
أنا الآن امامك على سرير وفراش وثير، وفي الصيف غرفة مكيفة وفي الشتاء دافئة، الطعام والشراب والقهوة يأتي إليّ وكأنني هارون رشيد عصري، كان فراشي الوثير في ارتريا هو الرمل، كما كان في أنغولا وأوغادين والفيتنام، أما وسادتي فقد كانت الصندل الذي أنتعله، والسماء غطائي، كان دفئي هو الأمل، كان مكيفي هو ضحكة مقاتل، ربما الأمان النفسي أو الطمأنينة، وربما كنت أتخيل أن الزمن وقف، بل الصندوق المنير في عقلي هو الذي يأمر حواسي ويقول لها: (إن الزمن قد وقف من أجل راحتك) لم يكن هذا خيالاً، بل كان أمراً واقعاً، فالأمان الذي كان قد توفر لي والذي يشعرني بان هناك أماناً وطمأنينة في الحياة، كان محمخود حسب والمقاتلون يدللونني، ولم أكن أفكر لا بعدو خارجي ولا بعدو داخلي.
من كان يتصور أن جيش التحرير والقابض على زمام المور من قرب جمهورية جيبوتي إلى السودان، هذا الشريط الذي يمتد مئات الكيلو مترات، والذي حرّره جيش الجبهة، ينهار ويدّمر؟ كم هي المؤامرة كبيرة ودنيئة! إن لمنطقة دنكاليا خصائصها ومميزاتها ولا يستطيع العيش فيها إلا الأقوياء.
في تلك الليلة لم يبق سكر ولا شاي، بقينا عدة أيام دون عصب المقاتل وغذائه، إلا أن الأخ محمود حسب، أرسل بعض المناضلين إلى إحدى القرى القريبة لشراء الشاي والسكر، لقد تحرك اثنان حوالي الساعة الثامنة مساء بعد ان غيرّا ملابسهما، ولأهل المنطقة لباسهم الخاص، وهي عبارة عن وزرة يلفونها حول الجسم، ثم قميص أو كنزة خفيفة توضع فوق الوزرة، وهذا اللباس هو اللباس نفسه في اليمن والصومال غادرنا المناضلان، ومعهما جمل ومضى الليل والنهار ولم يعودا، وعلى فكرة الليل في دنكاليا هو الرحمة بالنسبة لي، إن هذه المنطقة تعتبر من أسخن مناطق العالم، ورغم أني كنت في شهر يعتبر شتاءً بالنسبة لأهل المنطقة، فإذا كان هذا شتاؤهم فكيف يكون صيفهم؟
ذهبت إلى محمود وقلت له: لم يعد المناضلان!
لا تقلق! فسوف يصلان قريباً.
رحم الله محمود حسب، وزج قاتليه بجحيم الحياة وجهنم الآخرة. نمت وأنا قلق على من ذهبا ليأتينا بالسكر والشاي، بقيت أفكاري معهما، وكيف سيدخلان إلى القرى غير المحرّرة، كيف لا يكتشفهما الجنود الأثيوبيون والجواسيس؟ ماذا حدث؟ وما هذه الضوضاء الخفيفة؟ لقد وصل الهودج وصل شريان الحياة، شريان المقاتل الارتري، إنه السكر والشاي كانت الساعة الرابعة فجراً.
أتى أحدهم وقال: وصلوا... وصلوا...
نعم يا حبيبي من الذي وصل؟
اعمل لك شاي يا أبا سعدة..؟
الآن تريد أن تعمل لي شاياً.. الرابعة صباحاً وأنا نائم فأنا أريد النوم.
وتم توزيع المؤونة على المقاتلين، إن فرحة المقاتلين لا أستطيع أن أصفها، وكيف كان الجنود يخبّرون بعضهم بعضاً. كان هنا أربعمائة مقاتل، وكلهم منتشرون.
خلال نصف ساعة عرفوا جميعاً أن الشاي والسكر قد وصلا. وانتشر الخبر كالنار في الهشيم وأبيح شرب الشاي في تلك الليلة، واليوم، لكن النظام عاد في اليوم التالي، ثلاث مرات في اليوم كنا نشرب الشاي وانتهت الوقفة والعيد ليوم واحد. لم يكن المقاتل الارتري يسأل عن اللحم أو الرز أو الخبز لأنه يقدّر ظروف ثورته. هذا هو جيش التحرير الذي دمرّته المؤامرات والخيانة الداخلية والخارجية وأنانية بعض قيادييه.
قوميات متعددة في أثيوبيا:
عنما كنت في عدن التقيت بإخوان شباناً وشيوخاً وهم من قوميات مختلفة في أثيوبيا وكانوا ينشدون الخلاص من الحكم العسكري في بلادهم، والتقيت بهم أياماً عديدة، كنا نجلس ساعات طويلة نتناقش حول الأوضاع في أثيوبيا، أسمع آراءهم ويستمعون إليّ، واتفقت معهم على محاولة للدخول إلى أثيوبيا وزيارتهم ميدانياً.
ونتيجة علاقاتي معهم ولمعرفتي بأوضاع المنطقة وما استنتجته من خلال تجاربي سأرويه بشكل متواضع، إن الحديث عن القوميات الأثيوبية والطوائف الدينية وجبهات التحرير الوطنية يحتاج إلى كتب كثيرة، بل إلى مجلدات عديدة ولكني وكما يقول المثل (رحم الله إمرءاً عرف حده فوقف عنده).
في فندق الغولد مور في عدن التقيت بأحد الشبان الوطنيين وهو من دنكاليا ويدعى موسى محمد كان يتكلم العربية بطلاقة وبلهجة يمنية وبعد السلام والكلام عن الصحة ألخ... قال لي: أنت معروف لدينا وللكثير، من الجبهات في أثيوبيا.
هذا شرف عظيم لي، أن أكون بجانب الحق أينما كان.
خرجنا من الفندق وذهبنا إلى مكان يطل على البحر الأحمر، نظرت إلى الأفق البعيد وسألته: ما هي طبيعة الصراع بينكم وبين الأثيوبيين؟
إن صراعنا هو صراع ثقافي، نحن العفر لنا كياننا وعاداتنا وتقاليدنا وديننا، إن أثيوبيا ضمت ارتريا بالقوة، وهذا يعني إضعاف المسلمين في أثيوبيا والقضاء على وجودهم السياسي.
قلت له: ولماذا لجأتم إلى العرب؟.
لجأنا إلى العرب كونهم أشقاؤنا وللاستعانة بهم، ولكن يا للأسف لم يتفهموا قضيتنا كما توقعنا. إن سياسة تذويب كيان المسلمين وطمس شخصيتهم القومية هي من استراتيجية النظام الحاكم في أثيوبيا على مدى العصور.
أنا أعرف يا أخ موسى أن لكم علاقة بجبهة التحرير الارترية ما هي طبيعة هذه العلاقة وما هي عوامل بنائها؟.
استأذن وقال: علي أن أصلّي الظهر، وبعهدها نكمل الحديث.
وعدنا إلى الفندق وهناك ذهب لأداء الصلاة، أما أنا فقد طلبت زجاجة بيرة باردة فصالون الفندق ومن فيه يفتح نفسك على مباهج الحياة.
تقبل الله يا أخ موسى... أتريد كأساً من البيرة الباردة؟
الله يسامحك، أنا لا أشرب الكحول.
هل تمضغ القات؟.
أحياناً... سألتني عن علاقتنا بالأرتريين، نحن العفر نعتبر أنفسنا امتداداً للأرتريين زد على هذا، فهم عمق استراتيجي لنا.
هل علاقتكم محصورة بجبهة تحرير ارتريا فقط ولماذا؟ ولماذا لا تكون لكم علاقة بالجبهة الشعبية أيضاً؟.
وأشار لي بأصبعه (لا... لا... لا) أبداً (نحن نرفض أن تكون لنا أي علاقة بالجبهة الشعبية! علاقتنا مع جبهة التحرير الارترية فقط، هذا هو الفصيل الوطني، إن الجبهة الشعبية متحالفة مع جبهة تحرير تجراي إن لهذا التحالف أبعاده الخطيرة وله مدلولاته السياسية والطائفية، نحن نستطيع التأثير على المسلمين في أثيوبيا ونملك القدرة على إثارة المشاعر الدينية، فهناك مواقع ومقاطعات مثل عروس وبالي وهرر ومنها يمكن العمل على تقويض النظام الأثيوبي.
أنتم العفر الأثيوبيين كيف تنظرون للعرب؟
إنهم أشقائنا ولكن المشكلة هي الخلافات بين العرب بعضهم مع بعض، ومن هنا يحاول الأثيوبيون الاستفادة من هذا الخلاف.
إلى أي مدى يكون تأثير الماركسية في أثيوبيا؟
انتظر بعض الوقت وسوف ترى كيف سينهار كل هذا، إننا نعرف بعضنا بعضاً في أثيوبيا وفي ارتريا، نحن وطنيون وليس لنا أي أفكار خارجة عن منطقتنا، وإذا سألتموني عن العفر أقول لكم إنهم ينتمون إلى الكوشيه، وكلهم مسلمون وهم يتطلعون إلى إقامة حكم ذاتي لأبناء العفر، في إطار اتحاد أثيوبي باستثناء عفر ارتريا والذين يعيشون في دنكاليا.
وفي 1983/3/10 عقد في دمشق اجتماع لأعضاءي من جبهة تحرير ارتريا وحسين أحمد موسى وهو عفري وكان يعمل موظفاً في وزارة الخارجية الأثيوبية، وكان آخر عمل له في السفارة الأثيوبية في ليبيا، مثّل جبهة التحرير الارترية كل من صالح اياي وعلي اسحاق ومحمد صالح حمد وادريس قلايدوس ومحمد علي ادريس. وقبل هذا الجتماع كان قد التقى عبدالله ادريس رئيس المجلس الثوري واللجنة التنفيذية بعد 25 آذار/مارس، التقى مع حسين أحمد موسى واتفق معه على المساعدة بقيام جبهة تحرير تجراي،لأن منطقة العفر تسمح بالتحرك و ضرب الجيش الأثيوبي، ولهذا تم الاجتماع الآنف الذكر.
تقع الأراضي العفرية في شرق إفريقيا وفي شرق أثيوبيا وتعرف بالاصطلاح الجغرافي بالمثلث العفري وهذا المثلث شبه متساوي الأضلاع، فالضلع الأول منه يمتد من ساحل البحر الأحمر من حدود جيبوتي إلى خليج زولا، جنوب ميناء مصوع الارتري، وهذه المنطقة تعرف باسم دنكاليا الجنوبية نسبة إلى قبيلة دنكل العفرية، الارترية ويوجد فيها قبائل عفرية متعددة وتتكلم اللغة العربية.
أما الضلع الثاني لهذا المثلث فهو يمتد من جيبوتي إلى اديس أبابا ويشمل نهر أواش ومجاوزاً لمحافظتي هرر و شوا في أثيوبيا.
والضلع الثالث يمتد من منحدرات جبال فنري أب الشهيرة قرب أديس أبابا ثم يسير مع منحدرات الهضبة الأثيوبية ماراً بمحافظات شوا ولو وينتهي في خليج زولا على البحر الأحمر، هذا التقطيع الجغرافي هو من وجهة نظر العفر الاوسا.
إن تكوين أثيوبيا العام هو على الشكل التالي وتشمل على ثلاث فصائل:-
1. الفصيلة السامية.
2. الفصيلة الكوشية ومنها العفر.
3. الفصيلة النيلية.
هذه الفصائل الثلاث هي التي كونت القرن الأفريقي ومنها أتى التكوين الأثيوبي، فالقوميات الرئيسة المتطاحنة سياسياً هي ست قوميات وتشمل:-
1. الصومالية.
2. الأورومو.
3. العفر.
4. التجري.
5. التجرينيا.
6. الأمهرا.
ثم هناك قوميات أخرى مثل فوراجي والكوناما وهي موجودة في ارتريا أيضاً.
ولهذه القوميات المتطاحنة ميليشيات خاصة بهم ولهم تسليحهم الخاص بهم والمصادر متعددة والأديان الموجودة في أثيوبيا:-
1. الإسلام.
2. المسيحية.
3. اليهودية.
4. الوثنية.
فشعب الأورومو نسبة الإسلام بهم 90% والباقي كانوا مسلمين إلا أن المبشرين الغربيين فعلوا فعلتهم، وشعب ولو كلهم مسلمين ويعتبرون من أفقر الناس في أثيوبيا بل في العالم، والأمهرا مسيحيون وقليل من المسلمين، اليهودية نسبة قليلة وهم معروفون بالفلاشا وقد تم ترحيلهم حين تواطأ منغستو - النميري و...؟ مع إسرائيل. ومن هنا بدأتآمر النميري على جبهة تحرير ارتريا.
والوثنيين هم الكوناما المتواجدين أيضاً في منطقة القاش في ارتريا وهم أقلية و99% يعتمدون على الزراعة وأهم المزروعات البن وهناك مصانع بسيطة وهي بأيدي الارتريين أما أهم صادراتها فهو البن أيضاً.
فمشكلة النظام السابق واللاحق هو عدم اعترافه بهذه القوميات ومشكلة شعب الأورومو وهي من أخطرها على النظام في أي وقت كان.
إن السياسة المتبعة هي اضطهاد المسلمين والذين يشكلون 65% من سكان أثيوبيا، وإليكم المثال التالي: في عام 1980 كان عدد الموظفين في وزارة الخارجية الأثيوبية 400 موظف في الداخل وفي الخارج 9 منهم مسلمون فقط والوزراء في التاريخ ذاته 14 وزيراً وليس بينهم وزيراً مسلماً واحداً، علماً أن الكوارث السلطوية لا تحل إلا بالمسلمين، فشعب ولو المسلم هو أفقر الشعوب وأضعفها في العالم، وإن أكبر نسبة مومسات في العالم هي في أثيوبيا نتيجة للفقر وسوء معاملة قومية الأمهرا للمسلمين.
وفي عام 1974 قامت مظاهرة من هؤلاء المومسات وطافت شوارع أديس أبابا وتطالب بحقوقها، فما رأيكم بمظاهرة للمومسات، إنها الأولى من نوعها. صحيح أن البغاء هو قديم بل هو أقدم مهنة في التاريخ، إلا أن المظاهرة قامت في أثيوبيا عام 1974.
إن نظام منغستو الذي سقط كان يحمّل الارتريين تفاقم اختراع الارتريين للمشاكل في أثيوبيا، لكن بعد سقوط النظام وأعني نظام قومية الأمهرا وتولي التجراويين السلطة وانتزاع الارتريين استقلالهم بالقوة، فالذي حكم هم التجراويون الذين منحوا حكماً ذاتياً محدود لبقية القوميات. ليس هذا هو الحل المطلوب والمنشود، فالأحداث شبه يومية في أثيوبيا، بالذات مع الأورومو وغيرهم هي دلالة واضحة على أن السلطة اليوم لم تقم باصلاحات جذرية على نطاق الحكم الذاتي الصحيح، والنار لا زالت مستعرة ومدفونة تحت التراب والحجارة وآجلاً أو عاجلاً سوف تتفجر هذه النار عندها سوف تتدفق هذه الحمم فلا تبقي في طريقها أحداً ممن يحكمون. وأقصد بالشعبين رغم التقارب والاتفاقات والدعوات بين الجبهة الشعبية لتحرير أرتريا الحاكمة وجبهة تحرير تجراي الحاكمة أيضاً في أثيوبيا.
فالحل الصحيح هو إعطاء المسلمين حقوقهم ومشاركتهم في السلطة. أي إعطائهم حقوقهم كاملة ولن تحل المشاكل إلا بوجود جبهة وطنية متكاملة ومتراصة، ثم إنهاء مشكلة جيبوتي الهامة والتنافس بين العفر والعيسا، ليس من مصلحة المسلمين الاقتتال فيما بينهم. هناك من يقوم بإشعال النار بين المسلمين.
قال لي صديق عفري أثيوبي: إننا نريد إقامة تعاون عفري لإقامة حكم ذاتي لأبناء العفر في إطار اتحاد أثيوبي.
يا صديقي إن الحكم في أثيوبيا المتمثل بجبهة تحرير تجراي قد أعطاكم حكماً ذاتياً. وها هو ابن السلطان حنفري علي مرح، رئيس للبرلمان في مقاطعتكم الأوسا أليس هذا صحيحاً؟
أقول لكم أن العفر الأثيوبيين هم حوالي 3 ملايين نسمة ويتوزعون على 4 ولايات هي: تجراي، ولو، هرر، شوا هؤلاء هم العفر الأثيوبيون.
أما فيما يخص الحديث عن شعوب أثيوبيا الآخرى، فشعب الأرومو تعرّفت على أبنائه خلال وجودي في الصومال الغربي حيث كانت تدور المعارك بين الجيش الصومالي وجبهة تحرير الصومال الغربي من جهة. والجيش الأثيوبي المدعم بقوات سوفيتية وكوبية وعربية من جهة أخرى.
في الصومال الغربي أو كما تسمّى وتعرف بمنطقة أوغادين، وليعذرني أخوتي الصوماليون لترديدي كلمة أوغادين فهذه الكلمة تطلق على قبيلة كبيرة في منطقة الصومال الغربي.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة