ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الرابعة عشر
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
الفصل الثاني:
عدن: وفي دمشق أنجزت الفيلم الذي صورّته وأخرجته في رحلتي،
وتبنى فلمي هذا التلفزيون العربي السوري، وأوفدني إلى المانيا الديمقراطية لعرضه في مهرجان لايبزغ الدولي.
وعند عرضه على المشاهدين كان له وقعه، ونال الجائزة التقديرية، إلا أن الفيلم كان مرشحاً لنيل الجائزة الثانية على أقل تقدير، وإني أعتقدت أن ضغطاً سياسياً قد مورس على لجنة المهرجان لعدم عرضه، إلا أني أذكر أن مدير التلفزيون الإلماني الديمقراطي - عندما كان في زيارة لسورية شاهد الفيلم وأعجب به جداُ، وهو الذي أوصى بأن نعرضه في مهرجان لايبزغ، إلا أن التبديل السريع الذي حصل في المواقف في لايبزيغ أثار تساؤلي، ولم يدم تساؤلي طويلاً فقد أقامت إلمانيا الديمقراطية علاقات دبلوماسية مع أثيوبيا.
ومرت الأيام والأسابيع وأنا في دمشق أحضّر لفيلم سينمائي طويل، وظهرت الضائقة المالية على الجبهة، وتعاونت مع الأخوة قدر ما أستطيع، وأعتقد أن الأخ/ صالح إياي يعرف مدى تعاوني ولا ينساه، وإليكم هذه الرواية.
غادرت القاهرة السادسة مساء، على متن الطائرة اليمنية اليمدا والطائرة من النوع القديم، والطريق طويل، وممل والطيران مدته ست ساعات من القاهرة إلى عدن، إنما الخدمة كانت جيدة إن هذا الارتجاج الذي تحدثه الطائرة متعباً، فالمطبات الهوائية كثيرة وأتساءل لماذا أنا أسافر وأتعرض للأخطار والخوف وأعرّض أسلاتي ومستقبلي للضياع؟، هذه الأسئلة كانت تدور في ذهني ثم ماذا عن القضية الفلسطينية وكنت من المتعاطفين جداً معها، وقد عملت مع الثوار الفلسطينيين بجد وشرف وإخلاص.. أليست هي قضيتنا الأساسية، أليس الصهاينة أعداؤنا وأعداء ديننا؟
ولم أكن أعرف ما يخبؤه المستقبل بعد 29 عاماً هل أنا في حلم؟ لقد طال هذا الحلم إنه طويل ومزعج، ما هو المستقبل الذي كنت أحلم به؟ الفن أم الثورة واعتقد أنهما الإثنان معاً.
لا أستطيع أن أفكّر ولو مجرد تفكير بسيط، أننا يمكن أن نرضى بما يتم الآن من اتفاقيات وحلول وأتساءل أين أرضنا؟ أين الشهامة العربية؟ أين الكرامة العربية؟ لماذا ذهبت أنا إلى ظفار وتعاملت مع الثوار هناك؟ وفي عام 1973 كنت المصوّر الأول في التلفزيون العربي السوري، لقد ذهبت إلى الخطوط الأمامية، وعدت بالأفلام واللقطات الحية المعبّرة والمؤثرة، لماذا ذهبت إلى غور الأردن مع الأخوة الفلسطينيين؟. لماذا ذهبت إلى شبعا وكفر شوبا في لبنان؟ لماذا ناضلت مع الثوار الفلسطينيين؟. أليس هذا كله من أجل شعبي وأمتي؟.
عندما كنت طفلاً صغيراً كنت أتشوّق لما أسمعه من والدي عن البطولات العربية والإسلاميبة، كنت أريد أن أعرف تاريخ أمتي وأبحث عن الكتب فلا أستطيع شراؤها، وكنت أستأجرها من المكتبات إني أتذكّر كيف كنت أذهب إلى مكتبة صغيرة تقع جانب جامع السنجقدار بدمشق وأستأجر الكتب، كانت أجرة الكتاب عشرة قروش أو فرنكين كما كنا نقول، وأعتقد أن كثيراً من الشبان الدمشقيون وغير الدمشقيين قد مروا على هذه المكتبة، وصحوت على صوت ناعم لطيف.
هل تريد كوفي؟ قالتها المضيفة السمراء، هل هذا الجمال وهذا التناسق البديع هو الذي سمعت عنه؟ هل هذه المضيفة هي سمراء عدن؟ التي تُروى عنها الحكايات والأساطير؟ إن هذه الفتاة الماثلة أمامي تريدني أن أشرب (الكوفي).
قلت لها: نعم.. أريد فنجاناً من القهوة، أيتها اليمنية الجميلة!
وضحكت بدلال وقالت: أنت تتكلم العربية؟
نعم... أنا عربي ومن سورية، وأسمي أحمد، وما هو أسمك أنت يا سمراء عدن؟
أنا لست من عدن.
من أين إذن.
أتعرف حضرموت؟ هل سمعت عن بنات المكلا؟
من منا لا يعرف، ومن منا لم يقرأ عن حضرموت؟ عن حضارتها إنني أعرف بعض المحافظات في اليمن.
سوف أحضر لك فنجان القهوة.
لا تنسِ يا زينب أن يكون البن عدنياً أيتها الجميلة العربية.
إن زينب مضيفتنا تشبه في تقاطيعها حليمة الأرترية، وكانت حليمة تحدثني باللهجة ذاتها، وعدت بذاكرتي إليها لونه أغمق من زينب بقليل، إنما تقاطيع الوجه واحدة.
غير أن حليمة ترتدي اللباس الوطني الخاص بمنطقة الساحل الارتيري، أما زينب فترتدي ثياب مضيفة طيران، اللهجة واحدة، واللون متقارب، والإبتسامة الهادئة واحدة، إن حليمة تحمل كثيراً من الألم والمعاني لفتاة ارتريا السمراء، كثيراً ما خيّل لي أن عيون أطفال ارتريا ونساءها لها معنى واحد، ألا وهو الألم والتساؤل أين أنتم يا أخواننا العرب؟ أين أنتم يا أشقائنا المسلمين؟ نحن منكم وأنتم من، نحن أهلكم وأنتم آباؤنا وأمهاتنا، أنتم أهلنا.
وعادت زينب تسألني إن كنت أريد شيئاً آخر: لقد أيقظتني من خيالي.
شكراً يا زينب على القهوة، لكني لا أظن أنها قهوة عدن العربية.. واتسعت الابتسامة على شفتّي زينب، ولمعت عيناها ببريق العيون العربية؟
نعم.. إنها "نسكافة" ولقد شربتها على مضض. القهوة العربية تصدّر للأوربيين ونحن نستورد "النسكافة" (هه هي الدنيا) قالتها زينب وهي تضحك..
وقالت: نعم هذا هو الحال.
طائرتنا تهتز وتهبط وتصعد، باقٍ لنا ساعتان ونصف، هل ستستمر وتصمد هذه المحركات الأربعة في الطيران باقي الساعات؟ أم إننا سنكون طعاماً للأسماك؟
ازدادت المطبات وقلت للمضيفة: المطبات كثيرة!
دقائق ونتخلص منها.
نعم.. لقد صدقت زينب، وعادت الطائرة إلى الاستقرار. كم هي تشبه حليمة الارترية. إن اليمنيين الارتريون يشتركون بصفات عدة وهي اللهجة والشكل والتصرفات، ولاحت أضواء عدن من الطائرة، لقد اقتربنا كثيراً من الماء ورأيت السفن مضاءة وهي في البحر، الساعة الثانية عشرة وعشر دقائق عندما لامست عجلات الطائرة أرض المطار.
(الحمد لله لقد وصلنا بسلام وقد قطعت المرحلة الأولى وسأذكرها كثيراً).
وعندما وصلت إلى مقدمة الطائرة لفحني الهواء الحار، وعدنا للحر وارطوبة مرة ثانية، الساعة الآن الثانية عشرة وعشر دقائق ليلاً؟ درجة الحرارة الخارجية 41 درجة مئوية والطقس لطيف، هكذا أخبرتنا سمراء عدن الحرارة 41 والطقس لطيف، هذا ليلاً فكيف نهاراً؟.
بارك الله فيك. وبعد إجراءات قاسية في المطار خرجت بعون الله من المطار سالماً، وذهبت إلى فندق ليبرتي ووجدت غرفة وفيها مروحة سقفية، وبدأ الهواء يلعب، لا بأس وفي غدٍ سأرى ما يمكن عمله، وقلت في نفسي ماذا سأفعل غداً في هذا الجو، ذو الرطوبة والحرارة العالية؟ ونمت نوماً هادئاً، وشعرت براحة وأمان، وصحوت باكراً وأخذت الدوش المعتاد، وارتاديت ملابسي ونزلت على الدرج الخشبي إلى فسحة ضيقة ومستطيلة، إنها صالة الفندق وبجانبها الاستعلامات وجدت هناك أناساً كثيرين، لماذا يصحو هؤلاء باكراً؟
لعلهم يذهبون إلى أعمالهم من شدة الحر.
السلام عليكم.
عليك السلام.
أجابني أحد الأشخاص: ألست خواجا؟
لا.. أنا مثلكم عربي.
وبحثت عن الهاتف، وفي ركن صغير من صالة الفندق تكلمت مع شحيم إبراهيم وهو مسؤول مكتب ج. ت. أ. في عدن، على أن نلتقي خارج الفندق، لا نريد أن يعرف أحد أن لي علاقة مع شحيم، وأنا موجود من أجل الذهاب والتقاط فيلم عن قوات التحرير الشعبية، والمفروض أن أتصل بـ أحمد جاسر مندوب قوات التحرير الشعبية، وليس بشحيم إبراهيم.
كانت بين يديّ وثيقة هامة جداً من عثمان سبي، إلى أحمد جاسر رئيس مكتب ق. ت. أ. وكنت قد فتحت الرسالة في دمشق وقرأت ما جاء فيها وخلاصتها (إن المدعوين أحمد إبراهيم و أحمد آدم عمر متفقان مع عثمان صالح سبي على الإنخراط في قوات التحرير الشعبية، علماً بأنهما عضوان في القيادة العامة للجبهة، أليس هذا تآمراً على الجبهة؟.
في دمشق ذهبت إلى صالح إياي في الساعة الرابعة صباحاً وأطلعته على الرسالة ومضمونهات فذهل تماماً، ولم يصدّق وبدأ يرتجف، وأيته يرتجّف مرتين على مدى تسعة وعشرين عاماً، المرة الأولى عندما قرأ الرسالة، والثانية عندما تم إغلاق مكتب الجبهة في دمشق بعد توقيع إتفاقية جده وسألت صالح إياي ما العمل؟
فقال لي: (هذه الوثيقة يا أحمد انقذتنا من التفتت والضياع).
لم أكن أعتقد أنا وكل إخوتي في الجبهة أن الأحمدين هذين يحاولان قتل جبهة التحرير الارترية، هذه الوثيقة يجب أن تصل إلى رفاقنا ويعرفوا ما يتم في الخفاء، وقمت بتصوير الوثيقة وأعطيتها لصالح الذي سلمّها بدوره إلى زملائه ومنهم محمود اسماعيل الذي كان مسؤولاً عن مكتب الجبهة في بغداد.
والتقيت بشحيم إبراهيم وكان لدينا عمل في غاية الأهمية وخاصة بعد قراءة الوثيقة التي كتبها عثمان صالح سبي إلى أحمد جاسر أحد أركان قوات التحرير الشعبية، وكان عضواً هاماً فيها، يجب إفشال رحلتي هذه، واتفقت مع شحيم إبراهيم على خطة للعمل.
عدت إلى الفندق واتصلت بأحمد جاسر وللحقيقة والتاريخ أقول كنت مخطئاً بتعاملي مع شحيم إبراهيم ومع كثيرين غيره من أعضاء القيادة.
كيف حالك يا أحمد؟
سألني أحمد جاسر على الهاتف.
بخير والحمد لله.
أين أنت الآن يا أبا سعدة؟
أنا في فندق ليبرتي.
سوف أكونه عندك خلال دقائق.
وكان لقائي الأول مع الأخ/ أحمد جاسر. هل أخطأت في تصرفي؟ أين أحمد جاسر الآن؟ وأين شحيم إبراهيم؟ وأين محمود اسماعيل؟ وأين.. وأين؟.
شحيم إبراهيم سلّم نفسه إلى أثيوبيا في العام ذاته.
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة