ارتريا من الكفاح المسلح إلى الاستقلال - الحلقة الرابعة
بقلم الإعلامي الأستاذ: أحمد أبو سعدة - صحفي سوري - صديق الثورة الإرترية
عودة إلى المؤتمر الوطني الأول: لي رفيق ارتري اسمه صالح أحمد أياي وهو صديقي الحميم،
وكان مسؤلاً عن مكتب دمشق، لجبهة تحرير أرتريا، جاءني في الصباح كعادته وبعد أن شربنا الشاي سوية تمشينا.
وقال لي: يا أحمد! هناك دعوة موجّهة لك، من اللجنة التحضيرية، للمؤتمر الوطني الأول، وأنا ورفاقك في الجبهة، نريدك أن تحضر، هذا المؤتمر التاريخي.
وجرى بيننا نقاش طويل، حول رأيي في هذه الدعوة، فوافقت بعدها على الذهاب.
وسألته: متى نمضي أيها الرفيق العزيز؟ وطلبت إليه أن يهيئ لي بطاقة طائرة، ويساعدني في شراء أفلام سينمائية وفوتوغرافية، كي أقوم بتسجيل وقائع المؤتمر، ليبيقى الفيلم وثائقياً، ويكون وثيقة تاريخية أيضاً للشعب الأرتري.
بعد أسبوع تقريباً، تم كل شيء، وأصبحت جاهزاً للسفر، وسافرت بالطائرة المصرية إلى القاهرة، ومنها إلى السودان، ثم أرتريا. وقبل سفري اتصل بي، أحد المسؤلين السوريين، وأخبرني أن أحضر إلى مكتبه وهكذا تم.
قال لي المسؤول: انشكاً بقيمة (مائة وخمسة وسبعين ألف درهم) وصلت إلى البنك باسم الارتريين فلمن هذه النقود؟ وكنت أعرف ضمناً، أنه يعلم أن هذه النقود، هي لقوات التحرير الشعبية، وليست إلى جبهة تحرير أرتريا.
وطلب مني المسؤول، أن أعطيه رأيي، إلى أي طرف تعود هذه النقود.
فقلت له: إن هذه النقود هي لجبهة تحرير أرتريا، ومثلها الأخ صالح أياي. فأعطاني ورقة كانت أمامه، ومعدة سلفاً وطلب مني أن أوقّع، بأن هذه النقود تعود إلى جبهة التحرير، وإلى ممثلها في سورية صالح أحمد أياي، ودون تحفظ وقعّت على الفور، ولم أكن أعرف ما سيحدث، بعد ذلك وما ذيول ذلك!؟
وسافرت، دون أن أرى الأخ صالح، لأخبره ما عليه، أن يفعل. ولكنه عرف، أخذ النقود، وسافر إلى لبنان، وأرسلها إلى القيادة العامة للجبهة.
وكانت القيادة العامة بحاجة ماسة، إلى هذه النقود، كانت مرسلة من الأخ عثمان صالح سبي الرجل الأول في تنظيم قوات التحرير الارترية إلى سليم الكردي مندوب قوات التحرير الشعبية بدمشق.
وأريد أن أذكر بأنني حين عدت من المؤتمر أوقفت من قبل أحد المسؤولين الأمنيين. حوالي أربعة أيام ثم تم إطلاق سراحي. ودارت الأيام وأصبح هذا المسؤول الأمني، وزيراً للداخلية فيما بعد في بلدي سورية، وتدور الأيام تباعاً، وألتقي به في الوزارة، وكان في مكتبه. وقد كنت موظفاً، في التلفزيون العربي السوري، مصوّر سينمائي في قسم الأخبار، وأثناء تصويري السيد الوزير، مع الوفد الضيف، ذكّرني وقال لي: (ألا تزال تسرق؟).
قلت له: يا سيدي نعم. لو جاءت نقود مرة أخرى، لأخذتها وقدمتها لجبهة التحرير الارترية.
فبادرني قائلاً: سأحبسك هذه المرة أكثر.. وضحك.
وتشاء المصادفات، وبعد ثلاثة وعشرين عاماً، كنت أحضر خطبة ابنته، فذكّرته هذه المرة أنا، وقلت له: هذه المرة دون سجن يا سيادة الوزير؟
فعاد بذاكرته وضحك وقال: لقد قمت بعمل جيد، في حينها.
إلى القاهرة فالخرطوم.
غادرت دمشق إلى القاهرة، وبعد أن ودعّت عائلتي، وكانت زوجتي حاملاً،وفي الأيام الأخيرة للحمل. وقد وضعت زوجتي ابنتي ليلى، وأنا أحضر المؤتمر الوطني الأول لـج. ت. أ.
إن أولادي الكبار، يعرفون سبب سفري، ويدركونه، ولكنهم لا يريدونني أن أسافر، لمعرفتهم بأنهم يبقون بلا مصروف ويضيّق عليهم الخناق. وأريد أن أروي لكم هذه الحادثة.
"إن ابنتي غادة - وقد أصبح لها طفل يدعىأ مجد، كانت مرحة وتحب الفكاهة، وكثيراً ما كنا نجلس على المائدة، ومائدتنا بسيطة جداً، وتنقصا أشياء عديدة، وأنا لا أستطيع أن أتنفسّ، سوىعبس وتولى كل ما هنالك، أنني أقول لهم هذا هو الموجود.
فتردّ غادة بروحها المرحة وتقول،ل أخوتها وهي تضحك: هذه رشة وطنية! هذا صحن إنسانية! هذا شراب قومية! المائدة عمرانة، والحمد لله. كلوا وانبسطوا! هذا هو شرابنا وطعامنا! وطنية زائد قومية زائد إنسانية، تساوي أجمل وألذ الطعام.
وتدير وجهها إليّ متسائلة:
"كيف أبوي؟".
وأنا لا أستطيع الكلام أو الحراك، وأبقى صامتاً، ولكني أملي عليهم كثيراً من الكلمات الثورية، كما كانوا يسمونها.
حطت الطائرة في مطار القاهرة، وتوجهتُ إلى الجوازات حسب العادة، وأنا أعرف الإجراءات الطبيعية، والقاسية والأسئلة الكثيرة، حينها ولا أبالغ إذا قلت، إن السفر من دمشق إلى القاهرة يستغرق حوالي الساعتين تقريباً، أما الإجراءات في مطار القاهرة حينها فلا أبالغ إذا قلت: إنها تستغرق أربع ساعات، في أكثر الأحيان.
مثال: تقدّم جوازك وتنتظر طويلاً ويصبح جوازك في علم الغيب، ثم يُنادي عليك فجأة، فترى جوازك في يد الضابط أو المسؤول فيبادرك بالسؤال:
"أهلاً وسهلاً يا بيه"، حضرتك مصوّر، ستعمل عندنا "أفلام"، أنت من وين؟ فأجيبه داخلياً في قلبي من غوغلا، وهذه يُضرب فيها المثل، في بلادنا بالبعد والضياع، وهي كلمة شائعة.
ويقلّب المسؤول الجواز، بين يديه، يمنة ويسرة، ثم يعيد السؤال: "حتقعد كم يوم عندنا إنشاء الله"؟
ثلاثة أيام أو أربعة أيام.
ويعيد عليك السؤال مرة ثانية: حتعمل "أفلام" عندنا ولا إيه؟
ويستمر هذا المنولوج الطويل البديع: "الحمد لله حقائبي في السيارة، وأنا في طريقي إلى القاهرة. وأتساءل في نفسي: لماذا نحن العرب أمورنا معقدة؟".
نحن عرب، لغة واحدة، تاريخ واحد، ثقافة واحدة، أماني مشتركة واحدة، أي نحن أمة واحدة، فلماذا هذه الأمور المعقدة؟
أتساءل وكأن عمري صغير ولا أعرف سبب ذلك!
ويسألني سائق التكسي: على فين يا بيه؟
فأجيبه: الزمالك.
حاضر يا بيه.
وأقول له مرة ثانية: إلى فندق جنرال، جانب مسرح الزمالك.
تؤمر على رأسي، على عيني، الأخ من وين؟!
من سورية؟
آه.. إحنا أخوات، هل معاك دخان؟
لا!
هل معاك ويسكي؟
لا!
هل معاك دولارات؟
لا!
هل معاك. هل معاك. هل معاك.
لا. لا. لا..
طيّب اسم حضرتك إيه؟
الآن تذكرت ما هو اسمي؟!...
وبعد رحلة التكسي، والأسئلة أنزلني السائق وقال لي: تفضل يا بيه هذا هو الأوتيل؟ الحمد لله على السلامة.
نحن عايزين نخدم يا بيه...
ودخلت الفندق، ووجدت غرفة متواضعة. ست ساعات من دمشق، إلى القاهرة. ساعتا طيران وأربع ساعات. بين الجوازات والجمارك. والآن أريد أن أنام. وبعد نوم عميق ومريح. استيقظت بعد الظهر، ونزلت ومشيت إلى التوفيقية. والله أنا أحب القاهرة وأهلها كثيراً. وفجأة وجدت نفسي، أمام مطعمالحاج محمود السمّاك؟ وهذا المحل لديه أجود أنواع السمك، وبعد أن (امتلأت المعدة) لابد من العودة إلى الفندق، وأخذ قسطاً من الراحة، لأني مسافر صباحاً إلى السودان، ولابد من مواجهة بعض الزملاء الفنانين، السوريين المقيمين في الفندق ذاته، وعلى فكرة إن الفندق عبارة عن شقق مفروشة.
وكان أحد الزملاء والذي يقيم في الطابق الثاني متزوجاً من الفنانة ميرفت أمين، والأخير يقيم في الفندق نفسه، وبادرني قائلاً: أهلاً أحمد أهلاً.
وبعد السؤال عن الصحة والبلد والزملاء ...الخ قالا لي: نحن نبحث عنك. بعدها أخبرنا الخواجه، إنك نازل عندنا. "و الخواجه هو مدير الفندق، وهو رجل طيب ولطيف"، وأخبرني الزميلان أننا سنسهر سهرة عامرة.
وقلت لهما: يا جماعة طائرتي الساعة الثالثة صباحاً، وأنا مسافر إلى الخرطوم.
وبعد إغراءات كثيرة، أخبرتهما إنني غير جاهز للسهر. إلا أن الإصرار كان من شيمهما وحضر الزميلان العزيزان ووضع أحدهما في يدي ربطة عنق.
وقال: المكان لا يمكن الدخول إليه دون ربطة عنق.
على بركة الله.
دخلنا الشيراتون وتوجهنا فوراً إلى صالة القمار، وكان الصديقان العزيزان يرحبان بي كثيراً، حتى بت أشك بتصرفاتهما، إلا أن شكي لم يصل إلى أن أتصور أن يعاملاني بالأسلوب الآتي:
صالة القمار تنقسم إلى قسمين، قسم شبه مرتفع والقسم الآخر منخفض قليلاً. أماكن القمار، في القسم المنخفض، وتشمل قاعة القمار، طاولات خضراء و روليت وفنون أخرى.
ومن حيث الإنارة فهي خفيفة وبيضاء. أما القسم العالي فالإضاءة خافتة وملّونة، والشراب مجاناً من الويسكي حتى آخر نوع من أنواع الخمور، ولكن من يقدم الشراب؟ إنهن من أجمل الحسناوات المختارات على الصينية ولا يرتدين سوى قطعة صغيرة من القماش تغطي جزءاً من الصدر، وجزءاً من تحت البطن، وهات يا سيقان وهات يا صدور وهات يا ابتسامات والوسكي والشراب دائر: وغطست في هذا الجو المفرفح المنعش.
"أما زميلاي فقد طلب مني أحدهما أن أقرضه نقوداً لأنه يريد أن ينزل إلى مكان القمار ويدور ويخبر من يعرفونه أنه شخص مهم ومعه عملة صعبة".
وقال لي: هل من الممكن أن تقرضني بعض الدولارات لأني أريد أن أتنغنغ ودون مقدمات أعطيته محفظتي كلها ونزل الزميل الكريم وبقيت أنا مع الزميل الآخر هو يشرب الوسكي وأنا أتمتع وأدقّق نظري بالحسناوات، وفجأة دق قلبي واهتزت أوصالي ونزلت إلى مكان المقمرة وجهاً لوجه مع الشريف وأمسكت برقبته وسألته: أين النقود؟..
فاصفّر وجهه وكاد أن يقع من الخوف ومن المصير الذي سيلاقيه مني وهو يعرفني جيداً ويعرف عندما ينتهي الكلام يبتدئ الغناء.
وهذا ما حدث وأمام كل من كان في المقمرة، أخذت أشتمه و.. وذهبت إلى الآخر فوجدته قد هرب حين رأى مصير زميله الأول.
هرب النذلان كانا متآمرين علىّ ونزلت من الشيراتون، بعد أن فقدت كل نقودي، وتساءلت (إلى أين أذهب وليس معي سوى خمسون قرشاً مصرياً)؟
وبعد ذلك ذهبت إلى الفندق سيراً على الأقدام من الجيزة إلى الزمالك وربطة العنق تكاد تخنقني.
كان مدير الفندق الطيب موجوداً، ورويت له ما حدث فسلّفني خمسة جنيهات، مازالت في ذمتي حتى الآن، وعدت بعد سنوات ولكنني لم أجده فقد ترك الفندق، كم هو طيب الشعب المصري.
ومن مطار القاهرة إلى مطار الخرطوم كان الوقت يمر بطيئاً، يمر وصوت الطائرة كأنه يصدح، وأنا أبكي - نعم لقد بكيت من الاحتيال - وما أكثر المحتالين في هذا الزمن؟
إني أحب شروق الشمس على العاصمة المثلثة ووجوه السودانيين الطيبة، ذهبت كالعادة إلى فندق الخليل الذي يقع في السوق العربي، وكان هذا الفندق صديقي، ولم أستطع النوم رغم تعبي وإرهاقي، حيث شاركت ثلاثة من النزلاء السودانيين في الغرفة وانتظرت حتى تصحو المدينة، ورغم جمال ووجوه السودانيين المحببة، فقد وجدت نفسي متضايقاً جداً، ثم بدأت أبحث عن مندوب الجبهة ولا أريد أن أطيل الحديث فبعد عناء وجدته، وأسمه عمار وقد توفي منذ سنوات رحمه الله كان رجلاً متّديناً جاداً، وأخبرني بأني سوف أتحرك إلى كسلا ومنها إلى الميدان، في يوم أو يومين على الأكثر، لأني آخر من وصل من المدعوين إلى السودان، وعدت إلى فندق الخليل، وأنا بانتظار غد أو بعد عد، وجاء أحمد عامل الفندق يسألني ما إذا كنت سأتغدى، وأخبرني بأنه مكلف بتلبية كل حاجاتي.
قلت له: شكراً فأنا لا أريد شيئاً، فقط أريد كأساً من الماء البارد.
وبعد أن شربت الماء وخلال دقائق أحسست بألم شديد في رأسي ومعدتي. وقعت على الأرض، وحاولت أن أنادي أحمد ولكنني أحسست بدوار، ولم أشعر بعدها، إلا وأنا مرمّي على سرير في غرفة واسعة.
وتساءلت (أين أنا وماذا حدث؟).
وجدت يدي قد ربطت على السرير الموضوع على الرمل وأحسست بإبرة السيروم في يدي والألم في رأسي وبطني، وجلت بنظري يمنة ويسرة، وسمعت أنيناً صادراً من الأسرّة البيضاء، من المرضى ضمن هذاالقبر الفسيح كان هنا حوالي ثلاثون مريضاً، وكان هناك زائرون وحركة متواصلة.
ورأيت السيدين خليفة كرار، و إدريس قريش يقفان بجانب السرير، وسمعت صوت الأخ خليفة يقول: كفّارة يا أبو سعدة.
قالها خليفة. أما قريش فلم أنسَ رؤيتي لدموعه، وهي تنحدر من عينيه، وهو يسألني: ماذا حدث؟
وسألته وأنا متعب: أين أنا يا قريش؟ وماذا حدث لي؟
كنت في وضع يائس، إلا أن دموع قريش الحقيقية، وطيبة ورقة يدّي الأخ خليفة، اللتان مسح رأسي بهما جعلتني أحس بأني أفضل من السابق، وأنني لست غريباً عن الوطن.
وقالا لي: هيا يا أبو سعدة سننقلك إلى مشفى آخر.
وهذا ما حدث، فقد نقلت إلى مشفى دار الشفاء، بجانب سينما الكولزيوم "سبعة أيام وأنا في المشفى، وقد أشرف على مراعاتي ومداواتي، طبيب لست أذكر أسمه، إلا أنني أذكر سلوكه الطيب ومراعاته، وقد عرفت أنه كان وزيراً للدفاع أيام حكم الفريقعبود".
الى اللقاء... فى الحلقة القادمة