عينان خضراوان… ثلاث طبقات سردية لحكاية واحدة
بقلم الأستاذ: عامر بوعزة - كاتب صحافي من تونس المصدر: جريدة القدس العربي
ميثاق النباح: تتركب اللعبة السردية في رواية حامد الناظر الجديدة «عينان خضراوان» من ثلاث طبقات،
تفضي إحداهما إلى الأخرى في ما يشبه الحتمية، أو القدرية الطاغية التي لا فكاك منها. كل الأحداث تؤدي بعرفة بطلة القصة إلى المصير الذي انتهت إليه، ولا تملك حتما وأنت تقرأ تفاصيل حكايتها إلا أن تتعاطف معها، رغم أن ما أقدمت عليه يمثل في الذهنية العامة، وفي المرجعية التي تصدر عنها أنت نفسك كبيرة بلا مغفرة.
وعرفة، بطلة لأنها تشبه أبطال المآسي الإغريقية، امرأة تغادر مع والدها «وادي العقيق» بعد فقدان والدتها هاربة من جحيم الحرب، لتقع على بعد كيلومترات قليلة في الأسر وتبدأ رحلتها الصعبة مع الانتهاك في مواجهة قاسية للعالم، الذي يتضاءل حتى يصبح بالكاد بضعة وحوش ترتدي ثياباً آدمية، وتتقلص إزاءهم إنسانيتها لتصبح شيئاً للمتعة العابرة والاغتصاب المهين. رحلة من وادي العقيق إلى بورتسودان عبر تضاريس الحرب التي لا تميز بين البشر، والتي يصبح فيها القتل لعبة لاسترداد الأنفاس واستعادة بعض من الكرامة والانسجام مع الذات، ويصير ضرورة للاستمرار والحياة. وفي كل هذا لم تكن عرفة إلا منقادة لمصير أجوف، ونهاية مجهولة وغد بلا أفق. وفي اللحظة التي اختارت فيها لنفسها وحققت إرادتها وجدت نفسها تواجه حكم الإعدام، في مجتمع لا يعترف بالإرادة الحرة ولا بحق تقرير المصير.
ولئن اختار الكاتب تفكيك زمن القصة إلى خطين سرديين، فإنه في النهاية يصف عالماً واحداً، فالخط الأول يسرد ما وقع من أحداث لعرفة في معسكرات الأسر، بينما ينطلق الخطّ الثاني من لحظة وصولها إلى المدينة ولقائها برحمة، التي ستنتشلها من براثن الضياع، وستضعها على أول الطريق المفضي إلى الطمأنينة والقرار. لكن إذا نظرت ملياً فلا فرق بين معسكر الحرب ومدينة السلم، فالمرأة في هذا العالم أسيرة، أسيرة حرب وأسيرة فكر ومجتمع.
الطبقة الأولى حينئذ هي رواية الحرب، ونحن هنا بصدد قراءة تجربة سردية تماثل الكثير من نظيراتها في عالم السرد، حيث تمثل الحرب ثيمة مركزية لاحتوائها على عناصر الصراع الضرورية لأي مأساة. والحرب هي الحرب، أينما كانت، تماماً كما هي حرب تحرير أنغولا في رواية جوزيه أغوالوسا «نظرية عامة للنسيان» أو غزو الكويت في «فئران أمي حصّة» لسعود السنعوسي، أو حرب تحرير الجزائر في روايات الحبيب السايح، وغيرها من روايات الحروب.
ولا تخرج الحرب في هذه الرواية عن كونها سياقاً تاريخياً مجرداً، إلا في حوار عرفة مع الضابط الغامض في المشهد الحادي والعشرين، الذي كان مداره فلسفة الصراع، وهي شخصية يمتزج فيها الجنون بالحكمة (هل خطر لك أبدا أن الرب خلق جدنا آدم في يوم مغبر كهذا؟ وأنه نزل إلى الأرض كي يقاتل؟ كان جيشه مؤلفاً منه ومن جدتنا حواء وقطيع من الكلاب) وتفضي هذه الفلسفة إلى وجهة نظر خلاصة عبر ما يسميه (ميثاق النباح) أساسها أن «الحرب لا تجلب الموت، بل تخلق للحياة معنى جديداً في كل مرة، عندما يتواطأ المتحاربون على سيادة قانون خاص له أخلاقه الخاصة».
رواية تنهض على التفاصيل في بناء مشهدي سينمائي، يتوفر على قدر كبير من الدقة في الوصف وإدارة السرد وتوزيع الحوار، مع التناوب المستمر بين العالم الخارجي ونمو الشخصية من الداخل عبر تطور وعيها بذاتها وبالعالم.
ميثاق النباح هذا يصف بدقة المآلات العامة لهذه الحرب الفوضوية المدمرة، عندما تشكلت حكومة ائتلافية بين الإسلاميين وجبهة التحرير الشعبية في السودان، وهي نقطة النهاية في الرواية، إذ تطرح عرفة على نفسها سؤالا لأول مرة (هل ترى أخطأت وأين؟) وكان ذلك عند سماعها نبأ تعيين موريس وزيرا للتعليم العالي في حكومة جنوب كردفان، منصبه الذي اقتضى منه التضحية بها، وخذلانها في لحظة كانت تواجه فيها مشنقة الدين والمجتمع.
وهكذا لم تكن الحرب في هذه اللعبة السردية إلا مدخلاً إلى قصة أخرى مجالها الذات الساردة، ذات عرفة المثقلة بتجارب وأحداث قاسية ومدمرة في معسكرات الأسر، التي مرّت بها، وتلك هي الطبقة الثانية حيث لا تُرى الأحداثُ، إلا من داخل عرفة - رغم وجود راو يتولى عملية السرد في مواضع محددة ويجعل زاوية النظر خارجية متعالية- عبر حوار باطني عميق تخوضه البطلة مع نفسها في مختلف المراحل التي مرّت بها، حوار يكشف ضعفها وقوتها، ويعري تضاريس ذاتها الإنسانية، التي تتموج داخلها المشاعر، حتى أشدّ المشاعر تناقضا، من الشفقة والعطف والأمومة إلى القتل والانتقام والتخلص من ثمار الخطيئة. وهو التناقض ذاته بين جمال العينين الخضراوين وقذارة النصف الأسفل من الجسد، حيث يصبّ الجنود المكبوتون جامّ شبقهم وعنفهم ودمويتهم، تاركين في الأحشاء أجنة منذورة للموت والضياع، ونفسا مهزومة دامية، تبدو في نظرهم بلا قيمة ولا معنى. هي معركة أخرى تقع بالتوازي مع المعركة الخارجية بين الاستسلام للقدر ومواجهته، معركة من أجل البقاء.
أما الطبقة الثالثة والأعلى في هذه الهرمية السردية فهي سنام الحكاية وذروتها. الفكرة التي انبنت حولها القصة كلها، والتي تفضي إليها كل الأحداث. عن علاقة الإنسان مطلقاً بالدين، وهو سؤال فلسفي وأنثروبولوجي عميق تطرحه الرواية بجرأة كبيرة. تضاهي جرأة عرفة عندما قررت أنها لم تكن قبل لحظة الاختيار الحاسمة على أي دين، وأن إسلام طفولتها لا يعكس إيماناً حقيقياً وإرادة حرة. لقد وفّر الكاتب للقارئ كل مبررات التعاطف مع عرفة في قرارها، لأن القضية تتجاوز مسألة الدين، لتتعلق بالإرادة والحرية. «عندما بلغت السن التي تخولني الاختيار الحر، اخترت المسيحية ديناً بمحض إرادتي. هذه هي الحكاية».
لقد انطلق حامد الناظر من قضية رأي عام، أثارت كثيرا من الجدل في المجتمع السوداني، حين أصدرت المحكمة حكم الإعدام على امرأة في السابعة والعشرين اعتنقت المسيحية، لكنه صنع من هذه الحكاية ملحمة روائية على درجة عالية من العمق الإنساني، والبراعة السردية. فهي رواية تنهض على التفاصيل في بناء مشهدي سينمائي، يتوفر على قدر كبير من الدقة في الوصف وإدارة السرد وتوزيع الحوار، مع التناوب المستمر بين العالم الخارجي ونمو الشخصية من الداخل عبر تطور وعيها بذاتها وبالعالم. كل الانتهاكات التي تعرضت لها عرفة، كانت وقوداً للتمرد الداخلي الذي أنضج الإرادة الحرة وأطلقها، في مواجهة العالم عندما قررت أمام محكمة العائلة والمجتمع أنها اختارت دينها. ويظل سؤالها الأخير عما إذا كانت قد أخطأت، بمثابة الشك الذي يلتبس باليقين ويضع كل ما نفكر فيه وما نعتنقه جميعا في مدار النسبية.