حجي جابر: هبة إريتريا للأدب العربي
بقلم الأستاذة: عائشة البصري - إعلامية مغربية المصدر: درج
جل روايات جابر تحركها قصة حب كبير بحجم الوطن: إريتريا، ذلك العقد الفريد الذي تزينه أكثر من مئة جزيرة عائمة
في زرقة البحر الأحمر.
تعاقبت عليها الحضارات والديانات، واختلطت الأجناس، وتعددت اللغات بتعدد الأعراق لتجعل كل شيء فيها مبعث انشراح وانفتاح. إريتريا الجميلة والثرية أثارت أطماع القريب والبعيد، لكن الإريتريين كانوا بالمرصاد لكل مستعمر طماع وكان آخرهم الجارة الإثيوبية. وما إن تحرروا من الاستعمار الإثيوبي حتى بدأ عهد الاستعباد الإريتري. تسلّط على الشعب نظام أذاقه أقسى أنواع العذاب، سلبه نعمة الحرية والكرامة التي حارب من أجلها، أفقره على أرض غنية، جنّد شبابه في معسكرات التعذيب، ثم شرده بعدما حول البلاد سجناً كبيراً.
لكن الصحافي الروائي حجي جابر، ابن إرتريا المحجوبة عن الأنظار، كسر هذه العزلة وفتح أبواب هذا السجن على مصراعيها للقراء. تبدأ رواياته أو تنتهي في مدينة أسمرا الساحرة وتجول بنا بلا تصاريح مرور في ربوع البلاد، فتأخذنا من سفوح الجبال إلى سواحل مصوع البهية ورأس مدر وقرقسم ودهلك وتدخلنا جحيم معسكرات ساوا والوادي الأزرق. وهذا أول انتصار لروائي ولد في إريتريا في منتصف السبعينات وغادرها إلى السعودية يافعاً، تحت قصف المدافع الإثيوبية، لكن وطنه الأم وعروبته لم تغادراه، بل سكناه وألهماه أدباً رفيعاً.
بين الثابت والمتحول:
نُشرت لحجي جابر أربع روايات، الواحدة تلو الأخرى، مثلما تتوالى أمواج البحر على رمال لا ترتوي، مخلفة وراءها زبداً رائع السواد. فجرت ”سمراويت“ طاقاته الإبداعية عام 2012، وتلتها ”مرسى فاطمة“ في السنة اللاحقة، ثم ”لعبة المغزل“ و”رغوة سوداء“، أحدث إبداعاته. حصد الكاتب جوائز قيمة وكسب جمهوراً واسعاً من القراء ودخل الأدب من أوسع أبوابه وبكامل عروبته وأفريقيته.
نُشرت لحجي جابر أربع روايات، الواحدة تلو الأخرى، مثلما تتوالى أمواج البحر على رمال لا ترتوي، مخلفة وراءها زبداً رائع السواد.
جابر لا يكتب. إنه يُدِوّن للتاريخ قهر النظام الظالم للوطن الحبيب مثلما كان المدونون القدامى يكتبون على الرقوق المصنوعة من جلود الخيل والغزلان أو ورق الصين، وعندما تبهت الكتابة يمحونها ويعيدون تدوين مخطوطات أخرى على الرقوق ذاتها. روايات جابر تعتمد هذه التقنية السردية التي تعرف بـ”الطرس“ (palimpsest) أو الرق الممسوح، لتدوين النصوص المقدسة والأساطير الإغريقية. ففي كل رواية من رواياته تظهر ظلال الرواية السابقة التي مُحيت لتُكتَبَ فوقها رواية جديدة تتداخل، وتتقاطع، وتتعارض أحياناً مع سابقتها بين الثابت والمتحول.
الثابت في رواياته هو جبروت نظامِ يفتقر إلى الإنسانية والشرعية، ويحوّل الحب والحياة في الوطن، جحيماً كبيراً، والعيش بعيداً ننه جحيماً أكبر. أما المتحول فهو مصير المواطن الذي يتباين بين الضياع، والألم، والأمل، والتشرد، واللجوء إلى أن يجابه الموت والعبث.
ثنائية الحبيبة والوطن:
جل روايات جابر تحركها قصة حب كبير بحجم الوطن، يبدأ حتماً في أحد مقاهي أو شوارع أو محطات أسمرا. افتتح الكاتب مسيرته الأدبية برواية ”سمراويت“ التي تحكي بمرارة عذبة قصة شاب مسلم ولد وترعرع في السعودية من دون أن يشعر بالانتماء إليها، فعلّق كل آماله على إريتريا، مسقط رأس والديه. فما كان له إلا أن يحمل ذاته المتشظية إلى الضفة الأخرى. هناك في أسمرا يقع في حب الوطن الذي تجسده سمراويت، فتاة مسيحية مترفة ومغتربة مثله، من أب إريتري وأم لبنانية. يحلم عمر بالزاوج بها والاكتمال فيها لكن والدي سمراويت، رمز النظام، سيرفضان مشروع التحام نصفي المجتمع المسيحي والمسلم. ويخلص البطل إلى هذا الاستنتاج: ”ما أصعب أن نغترب عن الوطن، أو يغترب عنا، وإذا ما حاولنا الرجوع إليه، صدّنا“.
تزيد قسوة النظام مع ”مرسى فاطمة“، من خلال قصة حب تجمع بين شابين إلى حد الزواج سراً. تختفي الفتاة، سلمى، فجأة بعد حَمْلِها ويُشاع خبر ترحيلها إلى معسكر التجنيد الإجباري في ساوا أو السودان. يخوض الشاب رحلة المخاطرة بحياته داخل البلاد وخارجها بحثاً عن زوجته الحامل ووطنه الحبيب، ”فـثمة أوطان نغادرها وتغادرنا رغماً عنها وعنا، فلا نملك إلا أن نلهث خلفها“. يفشل في العثور على حبيبته ويعود إلى أسمرا منكسراً، ليكتشف أنها لم تُرَحَّل أبداً، بل خبأتها أمها عنه وعن الجميع خوفاً من تجنيدها من قِبل النظام وهي حامل. ويدرك الشاب أيضاً أن سلمى هبَّت للبحث عنه بعد اختفائه وكانت تطارده حيثما كان هو يطاردها: ”كنت مصدوماً من كوني أتبع مساراً خالياً من آثارها، بينما آثاري تملأ طريقها“. يسدل جابر الستار على الرواية وبطلها مؤمن بأن سلماه، إريترياه، ستتبع الطريق الذي سلكته أول مرة وسيلتقيان حتماً، كما تلتقي أطراف الدائرة. لكن عبثاً يحاول الكاتب أن يُبقي على كثير من الأمل بينما يتفاقم طغيان النظام وتتمدد آلام الوطن.
بين العبث بالوقائع وواقع العبث:
”لعبة المغزل“، رواية تنقل جابر بوضوح إلى الأدب العبثي عبر قصة فتاة لعوب وفائقة الجمال، لا اسم لها ولا تعرف شيئاً عن أمّها، ولا تجد هدفاً أو معنى لحياة طائشة تتلاعب بها الرياح كأوراق الخريف. تعيش في كنف جدتها التي تسامرها كل ليلة بحكاية عن الثورة والنضال والوطن مثلما تحبك خيوط المغزل ببراعة. تشاء الأقدار أن تعمل الفتاة في أرشيف حكومي ويُعهد إليها الاطلاع على وثائق سرية تدوّن تاريخ الثورة. ينتابها شعور بالملل وهي تطبع المعلومات وتنقلها من الورق إلى أجهزة الحاسوب، فتشرع في اللعب بالوثائق والعبث بالوقائع والحقائق. استمرت في لعبة الزيف إلى أن تسنى لها الاطلاع على سجلات رئيس الدولة. تنبهر ببطولاته وإنسانيته ووطنيته فتقع في حبه، قبل أن تكتشف أن السيد الرئيس هو ”سيد الزيف“، الطاغية، الغادر، الذي سبقها إلى تجميل سجلاته وتزييف التاريخ. وتدرك الفتاة أيضاً أنها ابنته غير الشرعية، فهو من اغتصب أمها أثناء الثورة. تموت الفتاة رمياً بالرصاص وهي تخترق موكبه وتحاول خنقه بيديها وعطرها انتقاماً لأمها.
جابر لا يكتب. إنه يُدِوّن للتاريخ قهر النظام الظالم للوطن الحبيب.
وما أن يُصَدِّق القارئ نهاية هذه القصة حتى يصدمه الراوي المجهول بالتشكيك في حقيقتها وهو يطرح نقيض الحكاية. ويضيف أن الفتاة ذاتها قبيحة الشكل، مريضة، مقعدة، وشبه مجنونة، توفيت وتركت للطبيب الانتهازي الذي كان يعالجها أشرطة تتحدث عن تفاصيل حياة الرئيس وسلوكه، ما جعله يشي بها للنظام ويتهمها بالانتماء إلى خلية إرهابية تخطط لإيذاء الرئيس. لكن لا شيء يضمن أن هذه القصة هي الحقيقة، وأن الحكاية تنتهي هنا. فيضيع القارئ الذي لن يجد لأسئلته جواباً، لأن غياب النهاية والحقيقة والمعنى والمعقول والحلول، وهي سمة روايات الأدب العبثي.
وقد يبدو للقارئ أن جابر ينحو منحى واقعياً في ”رغوة سوداء“ أحدث أعماله، في حين أنه يوغل في أدب عبثية الواقع. هنا تدور القصة حول شاب اسمه ”أدال“، لا دين له ولا ملة ولا انتماء إلا للجبال والأودية الإريترية. ابن غير شرعي يجهل كل شيء عن أمه وأبيه، إلا أنهما كانا جنديين جمعتهما علاقة جنسية في جبهات القتال. نشأ وكبر وسط القصف والدماء و”الرؤوس المفتوحة“ إلى أن ولج مدارس يخصصها النظام لأمثاله، الذين يسميهم ساخراً: ”ثمرات النضال“. بدأت معاناة أدال حين وقع في حب عائشة فادعى أنه مسلم واسمه ”داوود“ خوفاً وخجلاً من هويته المنبوذة. تمادى الشاب في حب عائشة وأصبح يتغيب عن المدرسة ليحبها أكثر إلى أن أمسك به الجنود وألقوا به في غياهب الوادي الأزرق، هناك ”تساوى عنده الموت والحياة في معسكر التجنيد الإجباري“.
لعن داوود حب عائشة الذي أوصله إلى معسكر الذل والاستعباد، وتحول البحث عن الوطن الحبيب الذي طبع الروايات السابقة إلى رحلة النجاة منه. يهرب أدال من إريتريا، ويلج مخيم اللاجئين في إثيوبيا، فيطمس هويته مرة ثانية منتحلاً شخصية المسيحي اليتيم ”ديفيد“ للحصول على حق اللجوء في بلد آمن. يفشل في هذه المحاولة، فيتجه نحو مخيم اليهود ”الفلاشا“ ويشتري شخصية ”داويت“ اليهودية التي ستدخله إسرائيل مثلما يختبئ الحمل بين فكي الذئب. في إسرائيل يُفْحَص كجرثومة قابلة للانتشار، تطارده نظرات الازدراء وشتيمة ”العبد“ أينما حل، يضطهده الفلاشا الذين يعرفون أنه يهودي مزيف. في ”أرض الميعاد“ يصبح ”داويت“ مستوطناً غير شرعي. داويت الذي هرب من وطنه بحثاً عن النجاة، كاد ينقذه رجل فلسطيني، لو لم يجد نفسه يجري في شوارع القدس مذعوراً من جنود يظنهم سيوقفونه في حين أنهم يلاحقون مجرماً، لكنهم سيطلقون عليه الرصاص، فيموت من دون أن يعرف من يكون حقاً ولماذا لا يستحق موته الاعتذار:
”أراد أن يسألهم عن هويته، عن اسمه إن كان داوود أم ديفيد أم داويت، أن يسأل عن ديانته، إن كان مسلماً أم مسيحيّاً أم يهوديّاً، عن جنسيته، إن كان إريتريّاً أم إثيوبياً أم إسرائيلياً أم فلسطينياً… ليتهُ يجد الإجابة. كم يحتاجها الآن، والآن بالذات، حين التفت إليه الناس أخيراً، ليعرفوا هويّته التي قضي عمره يبحث عن مستقرّ لها“.
حين يفوق الواقع الخيال عبثاً:
”رغوة سوداء“ تجعل واقع العبث يفوق الخيال الذي نهل منه ألبير كامي أو صامويل بكيت أو فرانز كافكا، رواد الأدب العبثي. لأن ”داوود“، و”ديفيد“، و”داويت“ ليسوا من محض الخيال، فهم الشباب العرب والأفارقة الذين بلغ بهم القهر واليأس أن يبيعوا أعضاءهم من أجل الهجرة، ويركبوا زوارق الموت وهم لا يجيدون السباحة، ويبحثون عن وطن بديل وغد أفضل في إسرائيل، بلد الاحتلال والإجرام والعنصرية.
روايات جابر إثراء قيم للأدب العربي والعالمي، فهي تدوِّن عبثية الحياة في ظل شبح الموت، وحالة الصراع الذي يعيشه شعب إريتريا وشعوب المنطقة.
روايات جابر إثراء قيم للأدب العربي والعالمي، فهي تدوِّن عبثية الحياة في ظل شبح الموت، وحالة الصراع الذي يعيشه شعب إريتريا وشعوب المنطقة بين ميول الإنسان للبحث عن وطن الحب والحياة والكرامة وعدم مقدرته على تحقيق ذلك، على الأقل حتى الآن.
روايات سلسة، محبوكة بحرفية ومكتوبة بشاعرية، تُقرأ بلهفة، ولذة، وارتباك، وخوف من البداية إلى النهاية، مثلما يُمارَس الحب لأول مرة. كل رواية تجعل القارئ يردد مع محمود درويش: ”لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي“.