تداعيات حول رواية فريج المرر - الحلقة الأولى
بقلم الأستاذ: صلاح محمد الحسن القويضي
كنت قد كتبت بضع كلمات تعليقا على المنشور الشيق للدكتورة أميرة أحمد حول رواية فرريج المرر للروائي السوداني حامد الناظر.
ولما كانت كلكاتي المتواضعة قد وجدت تقريظا لا تستحقه من الدكتورة أمير والكاتب نفسه فقد تملكني الإحساس بأنني يمكن أن أكتب مساهمة أوسع أفقا حول الرواية الجميلة. لقد دفعني استعراض دكتورة اميرة لاعادة قراءة الرواية. ورغم أنه من النادر ان اعيد قراءة رواية إلا لأغراض البحث العلمي. إلا أنني قرأت فريج المرر مرة ثانية لوجه الاستمتاع بالحفر العميق في دواخل الشخوص والأمكنة عن طريق تقنيات متنوعة في السرد تتراوح بين التداعي والحوار والمونولوج والفلاشباك والوصف الاخاذ الذي يقترب من تقني. السينما خاصة في مشهد (الكشة) والشجار. مما اعجبني في الرواية أن شخوصها نساء ورجال عاديين لكن وراء كل منهم عالم كامل من الاحزان والافراح والامال والخذلانات.
عندما اشتريت الرواية من الوراق كمال وداعة بالخرطوم كان ما جذبني هو العنوان وشجعني انه كان معي الصديق عثمان علي (شنقر) الذي شرح لي معنى العنوان وقال لي انه حي بدبي... وانا اساسا عاشق مفتون برواية المكان خصوصا اذا جمعت لكونها رواية مكان كونها رواية شخوص ورواية لغة.
بعد قراءتين للرواية يمكنني أن القولباطمئنان أن (فريج المرر) جمعت بين الثلاث مستويات من الامتاع السردي. فهي رواية محبة عميقة للمكان وللتاس الذين عاشوا فيه كما أنهارواية كتبت بلغة في مستوى ذالك الحب للمكان والبشر. فريج المرر رواية ضد غواية الادانة المجانية للبشر بحكم سلوكهم الظاهري. وهي بجاتب كونها رواية مكان وبشر ولغة رواية تحليل عميق للشخصية ومجاولة للغوص في ما وراء المظهر والسلوك اليومي للولوج لما هو إنساني الشخصية (المحورية) في فريج المرر تحمل بصدق ملامح الغريب. وتظل طوال الروائة تحتفظ بتلك الملامح. فالراوي الذي وصل لفريج المرر باختيار عشوائي يبقى هناك (تماما كما بقي مصطفى سعيد في ودحامد). ليصبح بوجوده هناك (مرآة) استطاع من خلالها حامد الناظر بذكاء أن يكشف ويعكس أدق تفاصيل المكان والناس.
من ملامح (الغريب) يحمل الراوي تلك اللامبالاة التي تجعله لا يهتم حتى بمرضه الشديد. فهو يبقى في غرفته لأكثر من خمسة أيام في شبه إغماءة ولا يفكر حتى في زيارة الطبيب (فقط حبتي بندول وكوب من الماء).
ورغم الفارق الزمني بين (غريب) ألبير كامو ورواية حامد الناظر ورغم اختلاف الثيمة الأساسية فإن الشخصية المحورية في كلتا الروايتين تتشابهان في اللامبالاة. لكنها ليست لامبالاة سلبية أو مجانية. الناظر يستغل نلك الخاصية (لإطفاء) شخصيته المحورية (الراوي) لصالح بقية شخوص الرواية. يتحول الراوي هنا لمرآة أو كاميرا ذكية ترصد وتسجل وتعكس من خلال (الحكي) الحيوات اليومية لأهل فريج المرر.
وهو يفعل ذلك بتفصيل ولكن أيضا بعمق يجعلنا نحس بأننا نعيش الحدث ونعايش الإحساس ونحيا الآمال والمخاوف والخذلانات الكبرى لنساء وفتيات ورجال جمع بهم القدر عبر يراع حامد الناظر في هذه البقعة. الراوي في فريج المرر لا يكتفي (بعكس) الشخصيات الآخرى لكنه ينقل إلينا عبر سرد مشوق تقاطعات حيواتها ومصالحها ومشاعرها وآمالها وخذلاناتها في مكان اختارة الروائي بعناية جعلتني أتساءل (ترى هل إختار حامد الناظر فريج المرر أم أن فريج المرر هو الذي اختاره؟).
بدون إسقاط أو محاولة للخلط بين ذات الكاتب في الواقع وذاته في الرواية إلا أنني أحسست من خلال قراءتين للرواية بأن (المكان) قد فرض نفسه على الكاتب عبر محبة عميقة له. وهكذا أحسست بأن الفريج هو الذي اختار حامد الناظر لييطرح من خلاله فكرته ورؤاه حول مصائر الرجال والنساء والفتيات اللائي عرض علينا (سيرة حياتهم).
يلعب تكنيك (المصادفة) دورا رئيسيا في رسم ملامح (غريب) حامد الناظر وبقية شخوص روايته. فكل اللقاءات والتقاطعات والخيارات تمت تقريبا بمحض الصدفة. حتى مجيء الراوي للفريج كان مصادفة. ولقاءه برفيقة إقامته في فريج المرر كان أيضا مصادفة. وهكذا بالمثل شكلت (المصادفة) أساس كل العلاقات والتقاطعات بين شخوص الرواية المحورية. يدفع ذلك للتساؤل (هل يحاول الناظر أن يقول أن سيرة حياة الإنسان ليست سوى سلسلة من المصادفات ؟ أم أنه يود أن يؤكد ما قاله ماركس من أن الصدفة هي شكل من أشكال تحقق الضرورة؟).
استخدمت تعبير (تكنيك المصادفة) وهو مصطلح غير شائع وربما غير مستخدم من قبل النقاد. لكن ذلك لا يهمني كثيرا. المهم عندي أن (تكنيك المصادفة) الذي استخدمه الناظر في روايته الجميلة (فريج المرر) ذو أثر إيجابي على القاريء. فهو يجعل من الرواية سلسلة من (المفاجآت السردية) التي تقوده من دهشة لدهشة. والإدهاش المستمر عندي أحد الخصائص الأساسية للعمل الإبداعي الناجح.
الحكي المتحرك (Dynamic Narration) يشكل الأداة الرئيسية عند حامد الناظر لتقديم شخوصه المحورية والثانوية. ويكاد مفهوم التفريق بين الشخصبة المحورية والشخصية الهامشية يتلاشى هنا. فعبر الاحداث المحكية تحس بأن كل واحد من شخوص الرواية يلعب دورا أساسيا. حتى الشخصية الوحيدة (صديق الراوي وشريكه في السكن) التي يعتقد القارئ انها (هامشية) بحكم فترات اختفائها الطويلة المتكررة من نسيح السرد إلا أنها تؤكد محوريتها كونها هي السبب الأساسي في مكوث الراوي في فريج المرر وفي تعريفه على الأمكنةالبشر والمكان في رواية الناظر يحتل مساحة كبيرة كما ونوعا والبشر يحتلون باقي المساحة عبر الحدث.
المكان في رواية (فريج المرر) ليس مجرد مسرح تدور عليه الأحداث. إنه عالم متكامل يشكل عنصرا مهما في الحدث بل قد يلعب كثيرا دورا اساسيا في مسير الأحداث. مقاهي فريج المرر وفنادقه الصعيرة وأسواقها كما كتبها الناظر ليست مجرد نقاط على الخارطة. أنها مواقع تتقاطع فيها الحيوات والمصائر وتتعارض وتتفق فيها المصالح وتتشكل فيها ملامج الآمال والخيبات لفتيات ونساء ورجال ساقتهم أفدارهم قسرا لمصائرهم الحالية وما ذالت ذات الأقدار تدفع بهم بعيدا عن أحلامهن/ أحلامهم. أطرح مرة أخرى التساؤل الذي ظل يتملكني طوال الرواية (ترى هل اختار حامد الناظر فريج المرر أم أن الفريج هو الذي اختاره). يقول ميشيل لوبو Michel Lebeau "استاذي في جامعة بيزانسون وأحد قادة حراك الطلاب في 1968م" (نحن لا نسكن البيوت... البيوت هي التي تسكننا). وبهذا المعنى أعتقد أن فريج المرر قد سكن حامد الناظر لحد بعيد.
في رواية الجيل الأحدث من الروائيين السودانيين يلعب (الخذلان) دورا أساسيا في تشكيل ملامح الشخصبات الروائية. ففي رواية عمران تقدم الدكتورة أيمان المازري بطل روايتها (عمران) عبر سلسلة من الاخفاقات الوجودية المتكررة بحيث يخرج القاريء بانطباع أن (الخذلان) هو (الثيمة) الأساسية في الرواية. عثمان شنقر في روايته (ذكرى حروب قادمة) ينحو ذات المنحى. فوسط كومة الاحباطات والخذلانات التي تمتليء بها الرواية يمكن أن نرى انجازا واحدا (فأحد ابطال الرواية يتكلم أخيرا بعد صمت دام لعقود).
في فريج المرر نجد ذات مشهد (الخذلانات) المتكررة. أول خذلان فتيات فريج المرر من (بائعات الهوى) إذا جازت التسمية هي في إضطرار كل منهن لامتهان ذلك العمل في مواجهة ظروف قاسية دفعتها إليه دفعا. لكن (الخذلان) الأكبر يكمن في أن ذلك الخيار القاسي الصعب لم يتح لأي منهن تحقيق أملها وقهر الظرف القاسي الذي قادها لأن تشارك الغرباء مضاجعهم كيف توفر قيمة الدواء لأمها (مثلا).
لعل خاصية (الخذلان) ظلت مثار تساؤل واستنكار كثير من النقاد التقليديين الذين يحملون تصورا (تطهريا) للبطل أو للشخصية الروائية المحورية. ولكنني ظللت أرد على ذلك أن البطل في الرواية هو (صورة لعصره). فمن أين يأتي الروائي بشخصية على غرار ما يشتهي أولئك النقاد (التطهريين) في مجتمع الخذلان الذي نعيش فيه. أحمد لجيل الروائيين الأحدث في السودان (إيمان المازري - محمد سيف الدولة - جمال الدين علي - عمر الصائم - ضياء الدين عثمان - عادل سعد - عمر الصائم... وكثيرين غيرهم) أنهم قدموا لنا من خلال نشيدهم الروائي (أبطالا من هذا الزمان) على سائرين على خطى ليرمنتوف.
ولكنهم فعلوا ذلك - كما في مثال حامد الناظر - مستفيدين من أحدث تفنيات فن السرد. وقام كل منهم بذلك بطريقة متفردة أهلت كل منهم للفوز عن جدارة بالجائزة الرفيعة التي فاز بها. ومن بينهم يتميز حامد الناظر بأن شخوص روايته لم يكونوا سودانيين فقط وإنما من عدة جنسيات. هذا التنوع في جنسيلت شخوص الرواية منحها عمقا اكبر. فقد استطاع حامد الناظر في استغلال ذلك التنوع - ليس في تقديم واقع الشخوص في فريج المرر وحسب - وإنما في عوالم كل منهم الحضارية والثقافية والتاريخية والوجدانية في مجتمعاتهم التي قدموا منها.
كان يمكن لذلك أن يكون عامل إعاقة للرواية. كان من الممكن أن يحولها إلى مجموعة من المباحث في الانثروبولوجي والتاريخ والجغرافيا. لكن هنا تتجلى مرة أخرى مقدرة حامد الناظر كروائي يدرك - وعن وعي - بأن الرواية هي فن السرد - والحكي تحديدا - في المقام الأول. لقد استطاع الناظر أن يتحكم كمايسترو حقيقي في أدواته السردية ويهندس تنوعها وتتابعها بحيث يحضر التاريخ والثقافة والانثروبولوجي بدون أن تثقل على النص السردي. ذلك أن حضورها يتم دوما عبر أدوات سردية يستخدمها الكاتب بمهارة ممتعة.
نواصل... فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.