كنت شاهدا - الجزء السادس والأخير

بقلم الأستاذ: أحمد فايد - كاتب وناشط سياسي ارتري

الهروب الكبير:

نبدأ بحكاية: اسمحولي ان أبدأ بقصة حكى لي تفاصيلها أحد الأخوة القادمين

مؤخرا من إرتريا (شقيق أحد أصدقاء الطفولة).

تقول الحكاية ان أحد مقاتلي حرب التحرير (الذين أصبحوا بقدرة قادر، عسكر وعسس) اعتدى بالضرب المبرح على أحد أعلام كرن ممن هم على وزن المرحوم (إدريس زازا) بظروفهم المعروفة. بعد الاعتداء عليه وبعد ان همّ العسكري بالانصراف، هذا العلم الكرني سأل العسكري بالقول بأنه "لا يدري على اساس أي مادة سيشتكيه".. حيث قال له حرفياً ነዓኻስ፣ ብኣየናይ ዓንቀጽ ክኸሰካ እየ في إشارة إلى عدم وجود قانون في البلد.

هذا الحال وهذه الحكاية ليست حدثا عابرا بقدر ما هي جزء من تراكم أحداث سيتم جمعها حين محاكمة الشعبية وأركان نظامها في دولة القانون التي نحلم أن نرى.

نعم، هذا الحال لم يطرأ مؤخرا مع الحادثة أعلاه، بل تم تطويره تدريجيا حيث بدأ العمل في ذلك بعد التحرير مباشرة.

مازلنا في العام 1994:

نعم كلنا يذكر ذاك المقاتل الذي احتضناه منذ ثلاث سنوات خلت؟! نعم هو نفسه؛ أضحى هذا العسكري الذي يسير في شوارع إرتريا الحرة، حاملاً كامل سلاحه مضافا إليه العصى. لا يسأل ماذا حدث إلا بعد أن يكمل ضرب المواطن الضحية.

تذكرون أيضاً القائد ذو السترة الفضفاضة الذي اعتبرناه رسول الحرية وقائد مسيرتها؛ أصبح هذا المسؤول الذي يعلوا صوته بالرفض قبل أن يستمع أو يفهم أو حتى يقرأ مضمون الطلب المقدم إليه من المواطن. ثم يزيدك تعليقا مفاده "أن عهد اللعب بالأوراق الرسمية قد مضى!!" يقولها لك بتعال وامتهان يجعلك تحس بأنك أتيت إلى (عزبة أبوه لتسرق ما بها).

يعرف هذه المرارات كل من عاش تلك التفاعلات التي كانت في مرحلة التحول الكبرى تلك، بحسب فهمنا اتقليدي (على الأقل حينها!!).

العربة أمام الحصان:

أذكر هنا، في شهر ابريل من العام 1994 وقبل مغادرتي إرتريا نهائياً بأسابيع قليلة، حين اعتزمت السفر متوجها إلى مصر، وكان قد تم حينها الإعلان عن صدور جواز السفر الإرتري. ذهبت إلى المسؤول الذي كان يفترض أن يصدر لي الجواز فطلبت منه ذلك معللا برغبتي في السفر إلى مصر بغرض الدراسة. فقال لي إذهب إلى السفارة المصرية وإأتني بالفيزا حتى أصدر لك الجواز.

انطلقت مسرعاً متوجهاً إلى السفارة المصرية حيث قابلت مسؤول قسم التأشيرات بها وقلت له بأن هيئة الجوازات الإرترية طلبت مني ما يثبت منحي للتأشيرة حتى يتم اصدار الجواز لي. تهكم علي المسؤول بأسلوبه المصري الساخر "عايزني أختم لك الفيزا في إيدك؟!".

رجعت بما سمعت لمسؤول الجوازات، وقلت له ما قال الدبلوماسي المصري مؤكدا أن السفارة تمنح التأشيرة في الجواز فقط. المسؤول الإرتري رد علي بالاعتراض مؤكداً على أن هذا كل ما لديه، وأن النظام لابد أن يتبع. قال الجملة الأخيرة بالتقرنية بالرغم من أن كلّ حديثنا السابق كان بالعربية والتقرايت.

خرجت من مكتبه أجر أذيال الهزيمة والإندحار، وفي حالة من العجز وقلة الحيلة في وطن أتى ليطردني ويصرّ أن لا يكون هذا الطرد بشيء من الكرامة والأصول. لم أتوقع أن يأت إليّ منطق وضع العربة أمام الحصان بهذه الفجاجة. ومن ميييين؟؟!! وهذا ربما كان آخر تفاعل لي مع المسؤولين ممن نقول عليهم ولاد عد.

خبرة الماضي:

عدت بالذاكرة إلى خبرة التعامل مع العسكر والمسؤولين الإثيوبيين التي كانت تبدأ بشراء الثقة الشخصية ثم تتفتح أمامك كلّ الآفاق تدريجيا. كان ذلك في آخر أسبوع من شهر ابريل 1994 حين رجعت إلى كرن وذهبت إلى قسم تصاريح السفر. ربما أذكر اسم المسؤول الذي كان في القسم ("قري"، أو "ودي قري") وكان أحد معاقي حرب التحرير مصاب في إحدى عينيه ويده اليسرى. بدأت معه في دردشة عادية على أن أعود إلى مكتبه في الأسبوع القادم حين أعود من أسمرا.

رجعت إليه في موعدي، وأخبرته بأن أمر ما طارئ قد جدّ في شأن عائلي بأديس أبابا. وأنني أرغب في السفر بأسرع ما يمكن. وقمت بتذكيره بأنه كان قد منحني ذلك التصريح مرتين في العام 1993 وأعدت إليه ورقة التصريح بعد العودة من السفر في المرتين السابقتين. أعلمني بدوره بأنه تم إيقاف منح تصاريح السفر مؤقتاً، وأنه سيمنحني إياه استثناءً بضمانه الشخصي، معللا ذلك بأني قد سافرت وعدت في المرتين السابقتين وفيهما أعدت إليه التصاريح السابقة في إعلان لتأكيد العودة والخضوع للنظام المعمول به.

الوداع الأخير:

في صبيحة يوم الثلاثاء الموافق لتاريخ 3 مايو 1994 استقللت الأوتوبيس فجراً وغادرت كرن في ظلمة الليل متوجها إلى أسمرا وكأني أغمض عيون مدينتي لكي لا ترى الدموع التي ظلت تنهمر من عيني حتى أصبحت خارجها في حالة هروب أشبه بالخيانة.

وصلت إلى أسمرا واشتريت تذكرة السفر بالأتوبيس إلى أديس أبابا لليوم التالي، ثم ذهبت إلى المنزل. وفي الصباح الباكر بدأت في وداع الأهل الواحد تلو الآخر أحتضنهم بقوة وكأنني لن أعود ويحتضنوني وكأني عائد بعد أسابيع قليلة. ذات الحال كان في وداع الأهل في كرن في اليوم السابق.

انطلق بنا الأتوبيس مسرعاً وكأنه يحاول إخراجي بأقصى سرعة من المجهول الذي كان ينتظرني حتى وصل بنا إلى معبر زالمبسا حيث سارت الأمور بسلاسة بعد لحظات قلق تنقل فيها تصريحي بين يدي اثنين من عناصر الأمن في الجانب الإرتري، وتم سؤالي انفراديا عن الغرض من السفر، فقلت لهم أن أهلي يعيشون في كل من أسمرا وأديس أبابا، وأدرس في أسمرا، ومن ثم رأو تنقلي منطقيا.

إنتهى الأمر في ظهر يوم الأربعاء الموافق لتاريخ 4 مايو 1994. فراقُ لوطنٍ كم تمنيت العيش فيه، وأهل كم وددت أن أبدع وأنهض بمستقبلي بينهم، وأحباب لم أتخيل يوماً أن أفترقهم. ذلك الفراق الذي استمر لسبع وعشرين سنة وشهر ويومين، والعداد شغال.

أكثر من نصف العمر قد مضى في الشتات، وأكثر من نصف الأحلام ذهبت هباء دون أمل بعودة شيء منها، ثم لم يبق إلا القليل لنعود به ولا ينتظرنا إلا القليل لنعود إليه إن كتب الله لنا العودة قبل الممات.

Top
X

Right Click

No Right Click