كنت شاهدا - الجزء الخامس

بقلم الأستاذ: أحمد فايد - كاتب وناشط سياسي ارتري

مؤتمر الجبهة الشعبية، وآمال انفتاح الافق السياسي:

تمهيد: لم أتعرف بتنظيم الجبهة الشعبية إلا قليلاً حيث لم أخرج من كرن

حتى العام 1989 حين اقتراب الشعبية كثيرا من تخوم المدينة.

كانت الرسالة الوحيدة التي كانت تصلنا من الشعبية هي أصوات المدافع حين تقترب المواجهات من مديتنا. ثم أن في مدينتنا أيضاً، كان لإذاعة "صوت الجماهير" قيمة ما تمثل بصيص أمل قد يأتي من تحت تلك الأيدي التي لم تنل يوماً أي من أشكال الثقة لدى أهل المدينة.

ومما زاد الطين بلة كان إعلان تلك الإذاعة عن وقف إطلاق النار مع الجيش الإثيوبي أثناء محاولة الإنقلاب الفاشلة في العام 1989 والتي حاولت الإطاحة بنظام منقستو أثناء غيابه والتي استمرت في أسمرا لعدة أيام بعد فشلها في أديس أبابا. هذا الإعلان كان مثار تشكيك وتندر في كرن حينها، وذلك استناداً إلى حقيقة أن هناك في إثيوبيا قيادة مشتتة ودولة فقدت السيطرة على إرتريا عمليا، ومن ثم كان التحرير أقرب إذا ما تم الإنقضاض على ذلك الجيش المنهمك في شؤون السياسة والواقف بين مشروع انقلاب عسكري انهار من المركز وقادة الجيش في أسمرا مازالوا يكافحون للإبقاء على مشروع التغيير. وهذا التشكيك كان محل تحليلات أهل كرن في ذلك الوقت، أتذكر بعض تفاصيلها وآراء بعض الأسماء اللامعة حولها ولكن لا يتسع المجال لسردها هنا.

أمر آخر كان أهل كرن يرونه مصدر كراهية لهذا "اللهو الخفي" الذي كان يحمل لنا قدرا من الأمل، هو حال الشباب والشابات الذين يلجأون من القرى المجاورة هربا من التجنيد الإجباري للجبهة الشعبية وهي الحملات التي نتج عنها تلك المواجهة التي حدثت في بركة بين المواطنين وعناصر الشعبية التي أتت لإجبار الشباب والشابات للانخراط في صفوفها. تفاصيل أخبار هذه المواجهة بدورها زادت من حالة الريبة.

حديث المؤتمر:

لم تسترح كرن إذاً، وظلت كعادتها تتداول الأمور من شقها السياسي بشيء من العمق عبر فترة ما بعد الإستقلال الرسمي. كانت الحوارات تدور حول عدم الاطمئنان للإشاعات والأحاديث التي ظلت تكررها كوادر الشعبية والتي تقول بأن مهمة التنظيم قد انتهت، وأنه سيحل نفسه أسوة بالتنظيمات الأخرى التي رفض استقبالها بهيئاتها بموجب التبرير القائل "بأن كل التنظيمات قد تشكلت للكفاح المسلح من أجل استقلال إرتريا وبما أن التحرير انجز والاستقلال قد تحقق فإن لا شيء يدعوا لاستمرارها".

هذه النظرة المتفائلة في نظري ربما كانت هي الأساس الذي بنى عليه عظام كوادر التنظيمات الإرترية الأخرى الذين عادوا إلى الدولة التي تخيلوا أنها ستخلوا من التظيمات بمجرد استكمال الإستقلال. ولتحقيق هذا الخيال كان عليهم انتظار مؤتمر الجبهة الشعبية الذي عقد بعد سبعة أشهر من إعلان الإستقلال الرسمي.

ميلاد الهقدف:

في هذا المؤتمر (10-16 فبراير 1994) أوفت الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا بما وعدت وحلت تنظيمها الساعي لتحرير إرتريا, ثم على الفور أبدلته في ذات الإجتماع بتنظيم آخر أسمي "الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة"، في تغيير إسمي للتنظيم الذي عاد بكامل مضامينه محافظا على كل ممتلكاته التي هي في الأصل قد تم جمعها من الشعب الإرتري من أجل دعم الكفاح المسلح الموصل للاستقلال.

كان لهذا التحول والخداع المنظم أكثر من هدف والتي من بينها تبرير إذابة كل التنظيمات الأخرى ثم إبدال ثوب التنظيم العسكري بحلة أخرى مدنية.
من جهة أخرى، الصراخ الشعبي "الصامت" والمؤثر للسلامة كان مستمراً. وفي ذات الأثناء كانت الشعبية بثوبها المدني الجديد تستأسد أكثر فأكثر مستفيدة من طبيعة الشعب الإرتري المسالمة التي تعتمد الإيجابية منطلقاً لكل مجريات الأحداث.

المعلوم والمتعارف عليه دائماً هو أن هذا الشعب الإيجابي المسالم عادة ما يقوم بمحاولة تبرير ما يحدث له من خلال تلك النظرة المتفائلة البريئة التي لا تضع الغدر احتمالاً. كان هذا يحدث في الوقت الذي أصبحت فيه المؤسسات الأمنية للجبهة الشعبية تتشعب وتستمر في اختراق الأحياء والحواري والبيوت.

تمكن القوى الأمنية وتغولها:

الشعب الذي عاش حياته وأدار يومياتها تحت صنوف الإحتلال ظلً يعتقد بأن السلطة أيا كانت، مخطئ من يتحداها. ولعلمه بهذا الحال، قام إساياس أفورقي وزمرته بالاستفادة من هذا الوضع الذي يتسم بالمثالية لصالح مشروعهم القاضي بالإعداد لشتى صنوف التبشيع والإستغلال والإذلال ضد هذا الشعب.
وللأمانة، فإن إساياس الذي، في اعتقادي، كان يدير شبكة خاصة داخل الجبهة الشعبية ومن خلالها كان يدير كل شيء داخل التنظيم. عليه لم يكن إساياس ليطمئن لرفقاء النضال إلا من استدجن منهم. ولذلك وجدناه يأخذهم الواحد تلو الآخر حتى أصبح وحده في كل مفاصل النظام (التنظيم).

رفقاء درب إساياس هؤولاء ربما كان من بينهم من يرى شيئا من انفتاح الافق السياسي بعد التحرير ضرورة لا بد منها (والحديث هنا مازال يعتمد معطيات الفترة حتى اوائل العام 1994، حين دخلت الجبهة الشعبية مؤتمرها بملابسها العسكرية وخرجت منه بما ادعت انه ثوب مدني يتواقف ومعطيات المرحلة المقبلة).

وتأكيداً لتمرير مشروع تحول التنظيم واستمراره تم العمل على إشاعة أخرى بالإنفتاح السياسي بعد صدور الدستور والقوانين التفصيلية الأخرى ومن ثم استمر الأمل في حدوث انفراجة سياسية في مرحلة ما.

نواصل بإذن الله... في الجزء القادم

Top
X

Right Click

No Right Click