مذبحة المعاقين في ماي حابار الجرح الذي لم يندمل في أرتريا
بقلم الإعلامي الأستاذ: باسم القروي المصدر: وكالة زاجل الأرترية للأنباء - زينا
الجهر في زمن الصمت جهاد، وليس حدثاً عادياً أن يخرج من فم معاق صوت جهور يطالب بحق،
ويقف في وجه الظالم، ويثبت أمام رصاصة تنطلق لتلحق ماتبقى من حياته بما سبق منها، ويحرص أن تقبض يداه ذكراً حسناً مقابل بذل روحه ؛صوت يرفع من شأن صاحبه على رؤوس الخاملين الخائفين، وإن الله عز وجل أوجب على الأنبياء وعلى من يقوم مقامهم الجهر بالحق في وجه الطغيان، وكرم بالشهادة لمن لقي حتفه دفاعاً عن حقه، ومظاهرة المعاقين في (ماي حابار) أتت حصة أولى للتمرين على هذا الجهر فكانت وسام شرف جديرأً أن يطبع في ا لقلوب، ويرسم في جدران المنازل، شجرة عطرة غرست بالدماء. صحيح أنها لم تنجح لكنها تجربة ثرة شرعت سنة حسنة في المطالبة بالحق، قد يأتي اليوم الذي يقتدي بها الآخرون، وصحيح أنها قمعت بقسوة، لكنها تركت عهداً في ذمة الخلف يجب الوفاء به، وكتبت بالدماء ذكرى مؤلمة تدعو إلى القصاص من الظالمين المعتدين وأثبتت أن ما دفنه المجرم بالأمس من أخبارها يكشفه اليوم من اكتوى بنيرانها وإذا أثبت الحديث ا لحدث والشاهد الجريمة كان العدل واجباً والقصاص حقاً ولن يفلت فرعون من خَصٍم يأتيه من كل مكان ومن عَدلٍ تقيمه عليه دولة القانون وما كان اليوم بعيداً قد يكون غداً قريباً وفي التاريخ عبرٌ ونظائرُ إذ لم تدم دولة لباطلٍ ولا دام لجبارٍ سلطان.
التاريخ: يوليو 1994م والأرتريون حديثو عهد باستقلال بلادهم ويمنون أنفسهم بالحق في الحياة والأمن والرخاء.
الزمن: نصف ساعة فقط بين السابعة والثامنة والشمس تنسج خيوط الصباح الجميلة على صدر الجبال الخضراء المزدانة بعمائم بيضاء.
الموسم: خريفي تسخو السماء فيه مطرًا تقصف مرة ببرق، ورعد،وقسوة. ومرات كثيرات تقع لطيفة خفيفة؛ تمسح على رأس الحياة بلطف، ورحمة، وبركة. تتحين في غالب أحوالها أوقات الليل، والعشي، والأصيل، وتنثر الخضرة، والنبات، والجمال، والثمار، على التلال، والجبال، والسهول، وتغطى ا لفضاء بثيابٍ بيض، رقيقة الجسم، وحريرية الملمس، تزرع الأمل والدفأ في النفوس والأمان.
المكان: (ماي حابار) وهو اسم لموقع يضم معسكرًًا للجيش الأرتري، وقرى زراعية ورعوية وتجيز اللهجات المحلية نطقه بصور مختلفة ما ي حابار أو ماي حبار أو ماي محابار ومعناه عند جميعهم ملتقى الماء بلغة (تجري) وهو وصف لواقعها حيث يلتقي واديان. وحظها أن تشهد ماساة المعاقين فالتقى فيها التاريخ، والزمان والحديث والحدث، مع الموسم والجمال و النسيم و الزهور والورود والثمار. والأمطار غرست فيها أشجاراًً ظليلة، وفاكهة كثيرة، وخضرة نضيرة. وكلها آيات بديعة تستنكر أن يراق دم المعاقين في ماي حابار وتستبشع أن يواجه احتجاجهم الحق بالرصاص الباطل.
موقع المعسكر:
يقع المعسكر على طريق (دقي محري - نفاسيت) ويتصافح فيه واديان أحدهما ينحدر من جبال (أسمرا) والآخر من جبال (حرعادو). وينقسم المعسكر إلى قسمين أحدهما يسمى معسكر (ماي حابار حلة) ويضم مباني قديمة تعزز متانتها من مواد بنائها: بلك وحجارة مرصوصة بانتظام و العرش زنكي قوي يشكل غرفاً شبيهة بخيام لبعضها سنام شامخ وينحدر جانباها نحو الأرض وهي موروثة من الاستعمار وظلت تشهد صيانات متكررة فاحتفظت بالحيوية والمتانة والرونق.
• يقع هذا المعسكر في منطقة سهلية تحيط بها جبال خضراء ويتكئ على ظل جبل من الجهة الشرقية يسمى (قعب) ويحده من الناحية الغربية وادي مندفع منحدر من سلسة جبال حرعادو.
• والمعسكر الآخر يسمى (فروشي) وسمي كذلك لكثرة الفواكه التي فيه ويجتمع فيه واديان القادم من أسمرا والقادم من جبال (حر عادو) المار بمحابار حلة يتجاوزه بالجهة الجنوبية حتى يصطدم بطرف من جبل (قعب) فيرده قسرًا ً نحو الشمال قبل أن يتجه شرقاً إلى البحر الأحمر عبرمناطق وقرى كثيرة منها (عد روسو) و(علي قدي) وأخريات كثيرات يصافحهن الوادي عند عبوره ويمنحهن خضرة وبركة وماء ونماء.
• هذا الوادي هادر غاضب مزبد مرعب عند هطول الأمطار ويجف عند فوات الموسم إلا من معين وعيون وآبار تسخو على السكان بالماء العذب الصافي على مدار السنة.
• وهنا جسر يقطع الوادي - قبل أن يتباعد نحو الشرق - مهمته أن يسوق طريق (دقي محري) حتى يعانق طريق أسمرا - جندع في مدينة نفاسيت.
معسكر محابار حلة قريب من السكان المحليين الذين يسكنون المنطقة منذ أمد بعيد ويعيشون على الرعي والزراعة والتجارة ومعسكر فروشي بعيد عن السكان لكنه أقرب إلى الطريق الرئيسي في مدينة نفاسيت ويحجب الرؤية بين المعسكرين سلسلة من جبال وتلال شامخة الرؤس مكسوة بالخضرة والجمال ويمكن قطع المسافة بين المعسكرين بالاقدام في مدة ساعة واحدة تقريباً كلا المعسكرين مقر للجيش إقامة وتدريباً ومهام تامين قد يتعاظم منسوبوهما منهم وقد يتضاءل حسب المقام والمصلحة والحكمة التي تقتضيها تحركات الجيش.
مهمة جديدة للمعسكر:
كان المعسكر يقوم بتأهيل الجنود وهو كذلك محل إقامتهم إلا أن السلطات الأرترية أضافت له مهمة جديدة وهي تجميع الجنود المعاقين فيه بقصد إجراء فرزهم وتصنيفهم لإعطاء رعاية أكثر لصالح الفئة الأكثر عجزا وإعاقة وسبق أن قسم المعاقون إلى فئة العجز التام فهذه تم تحويلها إلى معسكر (سنبل) باسمرا لتتلقى الخدمات التامة من طرف الحكومة بصفة دائمة وفئة العجز الناقص التي يمكنها أن تتحرك وأن ترعى نفسها وهذه تضم كل معاقي الثورات الأرترية الذين سلموا أنفسهم بعد التحرير إلى حكومة الجبهة الشعبية وبينهم معاقوها وهم الأكثر عدداً والأعظم مكانة والأعلى منزلة.
جمع هؤلاء المعاقون في محابار بقصد إجراء فرز آخر جديد بموجبه يتحدد ذوو الإعاقة الخفيفة التي يستغني صاحبها عن خدمة غيره في المعيشة والإعاقة البالغة التي تحوج صاحبها إلى خدمة ومساعدة الآخرين في حياته.
العدد يزيد عن تسعة آلاف جندي تقريباً حسب رواية شاهد عيان وتضم الرجال والنساء والأطفال والشباب والشيوخ وكلهم - غير الأطفال - مصنف في قائمة المعاقين لكن درجات إعاقتهم متباينة.
الحكومة تطرح قرار الفرز الجديد:
تم استدعاء المعاقين كلهم من المعسكرين في صعيد واحد وطرح فيهم قرار السلطات الأرترية بإجراء فرز جديد يبنى عليه تقسيمهم إلى فئة العجز التام لتقوم الحكومة برعاية أمرهم بصفة دائمة وفئة العجز الناقص وهذا بإمكانه ممارسة حياته العادية غير متكل على غيره مستفيدا من دعم يقدم له وهو عشرة آلاف بر إثيوبي - كانت العملة الإثيوبية سارية المفعول في أرتريا حتى صدرت عملتها المحلية نقفة عام 1997م ليؤسس بها حياته الخاصة.
طرح هذا القرار يماني وهو مقرب جدا من الرئيس ويدفع به في المهام الخاصة - حسب رأي المعاقين فيه وتم تكليفه بمعالجة هذا الملف - ولا يخضع لوزارة معينة ويتم تنفيذ تعليماته عبر ودي قشي - وهذا من محبر سنكولان أي جمعية المعاقين - المكلف بمهمة إدارة المعسكرين والقيام على رعاية المقيمين فيه من توفير الطعام والشراب والخدمات الأخرى.
ضمن محتويات القرار أن الفرز يقوم به أطباء مختصصون ولا يبنى على الادعاء الشخصي ولهذا ليس لأحد الحق أن يجعل نفسه عاجزًا عجزًا تاماً أو معاقاً إعاقة جزئية لا تمنع صاحبها من القيام على خدمة نفسه.
رفض القرار:
تدارس المعاقون القرار مع مفوض المعاقين الذي جاء به وتوصلوا على اتفاق يوجب عدم مطاوعة القرار ومقاومته والمطالبة بإلغائه وذلك بسبب:-
1. إن مبلغ عشرة آلاف بر إثيوبي قدر ضئيل لا يتناسب مع تضحيات المعاقين.
2. فهم المعاقون أن تسريحهم عن الجيش تنكر لدورهم النضالي.
3. فهم المعاقون أن البقاء في ظل الحكومة يوفرلهم خدمات جليلة لا تتوفر في القطاع الخاص وذلك لأن الحكومة تقدر الإعاقة النبيلة فتسهل لها فرص التوظيف بخلاف القطاع الخاص الذي قد لا يتعاطف مع المعاقين فلا يعطيهم الأولوية في الوظائف.
4. المعاقون غير قادرين على التواصل مع المجتمع باعتبارهم عجزة ولهذا يفضلون البقاء في ظل الحكومة والعمل في مؤسساتها.
5. يرى المعاقون أنهم أحق بالمعروف في وطن ضحوا من أجله بجزء من أجسامهم وأعمارهم ولهذا يرفضون التهميش والتنكر الذي يغشهم بعشرة آلاف بر إثيوبي لتقطع صلتهم بها عن بيئتهم العسكرية.
تواصل النقاش والجدال بين يماني المفوض من الرئيس وبين المعاقين في محابارمن الصباح الباكر حتى العصر وتعالت الأصوات بين مسؤول لا يملك صلاحية التنازل عن قرار الحكومة وبين رفض المعاقين لهذا القرار فتازم الموقف بين ا لطرفين.
مشهد القبض على يماني:
ارتفعت الأصوات المنفعلة واتجهت تلقي أسئلة مريرة غاضبة على يماني:
ألم تكن معنا بالأمس مناضلاً ؟
ما الذي حولك إلى مدير ظالم لرفاق الدرب ؟
أترضي بضياع حقوقنا يا يماني ؟
لماذ أنت تصبح خصمنا الآن ؟
لم تجد غير أن تتأبط قراراً تقدمه إلينا هدية طرد وتهميش ؟
وتحولت الجلسة إلى فوضى لا أحد يدير أحداً ولا أحد يسمع حديث أحد.
وكثر اللغط وتغاضب الناس وهاجوا وماجوا في ساحة يقف فيها ما يزيد عن تسعة آلاف جندي- العدد تقريبي حسب تقدير شهود عيان- يتامل كل منهم يده المبتورة او عينه المفقوءة أو رجله العرجاء، أو أذنه المقصوصة أو سمعه الذاهب وكانت هذه عوامل تحرضه على المطالبة بحقه وتحثه على مواصلة النضال لتحقيق رغبته ويرى أنه لا يحق لأحد أن يحرمها من حظ ناضلت من أجله. وفي ظل الأجواء المشحونة بالغضب والانفعال تلقى يماني ضربات ولكمات بعض الحانقين وأرادوا به كيداً وانتقاماً على اعتبار أنه في صف حكومة ظالمة وآخرون قاموا بحمايته على اعتبار أنه طرف أسير ضعيف.
و يماني كان عاجزاً أن يقاوم إلا بصراخ يتلاشى في الفضاء ودموع غزار تستعطف الرحمة من الغاضبين وانى له أن يفعل أكثر من هذا أمام الجيش الجرار من المعاقين وفي منطقة جبلية معزولة.
تصاعد الأزمة:
ليس بوسع مفوض التسريح أن يفعل شيئا غير خيار الفرز الذي جاء به متابطاً و رفضه عليه المعاقون فتصاعدت الأزمة بين الطرفين على نحور خطير:-
1. هجم المعاقون على مسؤول التسريح (يماني) فقبضوا عليه وتم سجنه في غرفة من غرف المعسكر أحكمت بطبلة.
2. تم توجيه مدير المعسكر ود قشي بالانصراف إلى أسمرا وإبلاغ الرئيس أسياس أفورقي بضرورة الحضور شخصياً لمعالجة الأزمة.
ذهب ودي قشي إلى أسمرا فاستقبله تعنت الرئيس ورفضه تحقيق مطلب المعاقين فكانت هذه نتيجة خائبة عاد بها إلى المعاقين فازدادوا غضباً على غضب الأمرالذي دفع بهم ليتعاظم سقف مطالبهم فاتفقوا على القيام بمظاهرة مطلبية حقوقية - وليست سياسية - تخاطب:-
• الرئيس في مكتبه.
• السفارات العالمية في العاصمة.
• الإعلام المحلي والعالمي.
حسم الظلام الضجيج والجدال وسكنت الأحوال بعد الاتفاق على خطة لتنفيذ المظاهرة فيها:-
1. تحديد ساعة الصفر للتحرك - الساعة ا لرابعة قبل الفجر- من المعسكر إلى أسمرا عبر الشارع العام: جندع - أسمرا.
2. يتحرك المعاقون القادرون على الحركة بالأقدام نحو مدينة نفاسيت في زمن قدر بساعتين إلى ثلاث ساعات يمكنهم من تجميع الصفوف في الوقت ما بين السابعة والثامنة صباحاً.
• الاتفاق على التحرك الجماعي نحو أسمرا وإغلاق الشارع العام.
• الاتفاق على أن يستغل المعاقون عربات الشعب في الشارع العام وتجريدها من ركابها والاستفادة منها للمواصلات (نفاسيت - أسمرا) وهي منطقة جبلية ومدينة جميلة فيها خدمات الكهرباء والماء والمنطقة تتعالى على غيرها من القرى والمدن القريبة منها بالارتفاع الشامخ تبعد عن العاصمة حوالي 25 كم.
3. تفويج المعاقين العجزة بسيارة حكومية كانت قد أتت بدفعة من المعاقين وتم القبض عليها لأنها صادفت المشكلة وهي تتسع لعدد سبعين شخصاً تقريباً وهي عربة شحن وليست عربة ركاب.
4. الاتفاق على إخلاء المعسكر تماماً والانطلاق منه إلى العاصمة وقد تخلف عن هذا الاتفاق عدد قليل تشبث بالاستسلام ولم يشارك في المظاهرة خوفاً من المخاطرة.
شعارات المظاهرة:
جموع المعاقين اتجهت لتنفيذ خطتها لكن لم ترفع شعارًا مستفزاً ولا هتفت بنشيد ورقصت بأغاني ولا أعلنت عداءها للنظام ولا طالبت بإسقاط حكومة ولا صرحت بعزل رئيس ولا دعت إلى الجهاد، ولا تمسكت بتعاليم دينية، ولا تشكلت على أساس طائفي ولا غيرت ولاءها التنظيمي السياسي ولا انتمت إلى الإرهاب ولا أحرقت الممتلكات العامة… وإنما تحركت صامتة خاشعة تريد توصيل طلبها إلى رئيس الدولة وهو طلب محصور على التوسعة في المعيشة وضمان استمرارها وكان يدفعها حسن الظن بالحكومة وتوقعوا أن رئيس البلاد والعباد سوف يهدي إليهم استبشارًا وإكراماً وتعاطفاً وتقديراً واستجابة.
التحرك وفق الخطة:
اتجه المعاقون نحو نفاسيت بالجملة في مسيرة كبيرة اصطفت على الشارع وغطت وجهه تغطية تامة تدب دبيب النمل وكل واحد من الآلاف التسعة يكتم على غيظ، ويخفي نار الغضب قابل للانفجار تحت أدنى سبب لكنه مؤمل على انتصار موقف ومقدم حسن الظن تجاه قاتليه واثق بهم.
اقترب العدد الزاحف صعوداً نحو جبل نفاسيت الذي ينظربازدراء في عليائه مطلاً إلى محابار.
المنطقة الخضراء ومعظم أشجارها متوسطة القامة ويكثر فيها (بلس) - ثمرة طيبة مأكولة - و(تسس) - شجرة دائمة الخضرة كثيرة العدد كثيفة الورق - وفي الجنائن يوجد الفواكه مثل (منقا وبرتقال) والجو ممطر خريف لكنه يتمتع بصحو الصباح وجمال الطبيعة وعليل النسيم.
المواجهة رقم 1:
أول دفعة وصلت نفاسيت من العاقين بالسيارة تحمل حوالي 50 خمسين شخصا تقريباً من الفئة الأكثرعجزاً وجدت نفسها في كمين كان جزئاً من جيش عرمرم يحيط بالمنطقة إحاطة السواربالمعصم وكلهم متهيئ أن يلقي بالموت غير الراحم على المعاقين.
تلقت السيارة أمراً من الجيش بالعودة نحو المعسكر فرفضت وفاء بالاتفاق ورغبة على تحقيق الهدف لكنها فوجئت بأن البوابة الوحيدة التى تصل طريق دقي محري بنفاسيت تم إغلاقها بشاحنة كبيرة وضعها الجيش - عارضاً - تعطيلاً لمسيرة المعاقين الأمر الذي جعل المعاقين يتناثرون من السيارة على الشارع العام زاحفين نحوالجبل مواصلة للمسيرة فقطع الجيش هذا الإصراربالنار فسقط بعضهم بين قتيل وجريح وتحول الموقع إلى نار تتلظى فاستسلم المعاقون واستجابوا لتوجيه الجيش بالعودة في عربتهم نحوالمعسكر تثبيطاً لزملائهم الباقين الزاحفين نحو نفاسيت.
حاول بعض المعاقين إنقاذ الجرحى ومواراة القتلى فباءت محاولتهم بالفشل أمام تهديد الجيش الحانق فتركوهم في العراء وجراحهم تنزف وآلامهم تصرخ.
أخذت السيارة المرعوبة تركض بالمعاقين المرعوبين حتى استقبلهم البقية في الشارع فنزل الراكبون من سيارة الجيش وانضموا إلى إخوانهم الماشين باتجاه نفاسيت إصرارًا على الحق ووفاءً بالعهد ومضياً على درب من سقط منهم قتيلاً أو جريحاً.
المواجهة رقم 2:
جيش المعاقين يملا الشارع بين ركض فاتر ومشي أعرج صعوداً نحو نفاسيت متقطع الأنفاس ومنهك القوى وقد تمكن منه الجوع والتعب والإعياء وليس معه ما يدافع به عن نفسه لكونه مجرد عن السلاح فهو جيش مدني أعزل سوى ما يرتديه من زي العساكر من بنطال وقميص و(شدة) - حذاء بلاستيكي - وشجاعة تدفع به نحو التحدي. أصبح هذا الجيش في مواجهة جيش الحكومة الذي يملأ الأفق ويحيط بالمعاقين من كل جانب - عدا جهة المعسكر الذي جاؤا منه - ويحمل من الحقد والنار ما يكفي لحسم الموقف وتراء الجمعان دون وسائط لكن المسافة لا تزال بعيدة بين الطرفين ولهذا كان معقولا ألا تصل أصوات بعضهم إلى بعضهم وكان معقولا أن يحذرالأقوياء الضعفاء فهذه رشاشة رصاص فوق رؤسهم تنشر الرعب لكنهم مضوا نحوها غير مبالين وتدافعت الصفوف إلى الأمام صاعدة نحو نفاسيت تجر جراحاتها القديمة ويسوقها الأمل لتحقيق الأهداف ولم تكن تدرك أن الجيش قد انتزعت من قلبه الرحمة ويملك من الصلاحيات ما يرفع عنه الحرج إذا أثخن في القتل ولهذا كان مقبولاً لديه أن يمطر الجموع المعاقة ناراً تتلظى طرشتها عليهم (كلاشنات) غير راحمة و(قرنوفات) ذات الشريط الناري فتحول الموقع إلى دخان ونار وجرحى ودماء وقتلى.
النتنيجة:
لم يكن بوسع المعاقين أن يتحركوا إلى الأمام لأن الرصاصات كن قادرات لاصطياد كل شخص يتسلق الجبال جهة نفاسيت فتفرق الجمع إلى الخلف بلا انتظام وتعالت أصوات الأنين والصراخ والألم تساقط الناس قتلى وجرحى في الطريق فهذه ثماني جنائز كلها رجال ملقاة ممزقة الأوصال وهؤلاء ثمانية عشرة بين رجال ونساء أضيفت الى إعاقاتهم القديمة جراحات جديدة جددت فيهم الألم والعذاب وتلك كانت حصيلة الخسائر في الأرواح حسب رواية شهود عيان.
المشهد المأساة أقنع المعاقين العزل بالانسحاب فساقتهم أقدامهم المنهارة إلى المعسكر دون قائد هاربين وبعض قادتهم دفعهم خوف العاقبة لمواصلة الهروب جنوباً عبر دقي محري مختفين إلى إثيوبيا فانتهى بهم الرحيل إلى المعارضة الأرترية هناك حسب رواية سكان المنطقة.
من إيجابيات هذا اليوم أن الجيش لم يلاحق جموع المعاقين الهاربين المهزومين لأن الهدف كان تشتيتهم والحيلولة دون تحقيق أهدافهم ولهذا ظلت القوات ترابط في موقع المذبحة تحرس الجثث والجرحى دون اكتراث لما يعانون من ألم وعذاب وكان مقصودا أن يظل الضحايا في موقعهم لمدة أربع ساعات: من الثامنة صباحا وحتى الثانية عشرة منتصف النهار
الإفراج عن يماني:
التأم جمع المعاقين - الذي شتته الرصاص - في المعسكر من جديد وقد أتوا إليه من كل الجهات يلوذون به واحداً واحداً مرعوبين من هول ما شاهدوه على يد الجيش الأرتري.
تفقدوا الموقع فوجدوا أن أسيرهم (يماني) قد أفرج عنه وغادر المكان مع السيارة التي كانت محتجزة لديهم ووجدوا أن عدداً يقدر بين 40-50 شخصا ً كان قد تخلف عن المظاهرات وانضم إلى فئة التدريب المهني التي لم تكن معنية بالحدث من بدايته ويصل عددهم 40 معاقاً تم اختيارهم للإقامة في المعسكر بهدف ا لتأهيل المهني.
سمع هؤلاء وهؤلاء بما تعرض له المعاقون من قتل فتقربوا إلى النظام بالإفراج عن الأسير يماني وتهريبه مع السيارة حسب رواية بعض المعاقين.
اجتماع جديد:
المعاقون العائدون من المعركة يحسون بالألم الشديد لما جرى لهم ومع ذلك لم ينشغلوا بمصير الأسير يماني ولا بمصير السيارة الهاربة وإنما تدارسوا ما آلت إليه أمورهم في معسكر محابار حلة وهومركز للتدريب المهني اتفقوا فيه على استراتيجية جديدة للتعامل مع الحدث خلاصتها:-
1. تجديد المطالبة بحضور الرئيس أفورقي لمعالجة الأزمة.
2. المطالبة بمحاكمة عادلة وفورية أمامهم للقتلة من الجيش.
3. حملوا ما تعرضوا له من قتل لوزير الداخلية علي سيد عبدالله - كان يشغل منصب وزير الداخلية في الفترة من مارس 1993م - ديسمبر 1994م و مات - وهو يشغل منصب وزير الخارجية - في ظروف غامضة بمنزله في 28 أغسطس سنة 2005م ووزير الدفاع مسفن حقوص - انضم للمعارضة لاحقاً وأسس تنظيماً سياسياً.- ولهذا رفضوا أي حوار مع الوزارتين والوزيرين وقد أبلغوا ود قشي مسؤول المعسكرين بمطالبهم الجديدة وتمردوا على تعليماته التي دعتهم إلى القبول بالفرز واستلام الآلاف العشرة وهوالقرار الذي كان قد عرض عليهم قبل تصاعد الأزمة وقال: إنه معني فقط بإدارة ا لمعسكر والعناية بمن فيه إشرافاً وضبطاً وتقديم الخدمات الضرورية من سكن وغذاء ونصح المعاقين بالاستجابة لقرار الحكومة وأنه ليس من مصلحتهم تصعيد الأوضاع نحو التأزم لكن تعليمات ود قشي ونصائحه كانت تتلاشى مع الهواء لأن المعاقين رفضوا له ا لاجتماع والاستماع وتمسكوا بمطالبهم الجديدةوقلوبهم تغلي على قاتليهم ولهذا تفرقوا إلى مقارهم في المعسكرين: معسكر محابار حلة ومحابار فروشي.
خدمات المعسكر:
يقدم المعسكر تحت قيادة ود قشي خدمات أهمها:-
1. غرف سكنية.
2. توفيرخدمات الماء والكهرباء.
3. تزويد الجندي بفراش صغير من نوع (اسفنج) وبطانتين.
4. توفير الطعام بمستوى جيد تجلب مواده يوميا من أسمرا وتقوم على إعداده طباخات متفرغات لهذه المهمة.
5. توجد خدمات مطعمية إضافية وأغاني ورقص تجارية خارج المعسكر.
6. دورات مياه وصرف صحي مناسب.
7. خدمات طبية ضئيلة بالتحويل إلى مظانها خارج الموقع.
8. سيارة صغيرة لخدمات المطبخ وتواصل الإدارة.
9. معظم ما يقدم للجنود من فرش وبطانيات هو مواد إغاثية خارجية أتت لدعم الشعب فاستغلها النظام لاحتياجات جيشه.
وهذه هي وظيفة ودي قشي في المعسكر يدير بها كل من انتسب إليه في جو آمن متفاهم ومتعود على السمع والطاعة من الرعية ولهذا تقع حالات الرأي الآخر أو التمرد والشغب خارج سلطته فكان مبررا تضايقه مما يشاهد من تمرد المعاقين على صلاحياته.
اجتماع اليوم التالي برئاسة ودي قشي:
في اليوم التالي نادى ود قشي يطلب من المعاقين كلهم الاجتماع في معسكر محابار حلة فاستجابوا لدعوته وأتوا إلى موقع الدعوة وكان الاعتقاد احتمال الاستجابة لطلبهم بوصول الرئيس ومحاكمة القتلة. بدا الاجتماع برئاسة مسؤول معسكر المعاقين ود قشي فقال: إن مسؤوليتكم تحت وزير الداخلية فانتم تحت إدارته وأنا مسؤول عن المعسكر وأقدم لكم الخدمات المتوفرة ولهذا لا أستطيع أن أستجيب لمطالبكم الحقوقية كما أنه ليس من صلاحياتي الخوض فيها.
تصايح المعاقون رفضاً لحديث ود قشي وأوسعوه ذماً وهموا بالعودة إلى مقراتهم فكشر الجيش عن أنيابه وكان الأمر مدبراً بصورة لم تخطر ببال المعاقين الذين وجدوا أنفسهم في حصار محكم تحت رحمة الرصاصات التي قتلت وجرحت رفقاءهم بالأمس في بوابة نفاسيت ً.
هاج الناس وماجوا واضطربت الأحوال وأعلنوا عن العصيان المدني والإضراب عن الطعام.
توارى قائد المعسكر ودي قشي وسيطر الجيش على الموقف وأصدر توجيهاته إلى المعاقين أنه لا أحد يمكنه الخروج من المعسكر حتى تتم الإجراءات المعتمدة رسمياً لمعالجة الأزمة فهم المعاقون أن الأمر ليس لصالحهم ما دام الرئيس غائباً والجيش هو الخصم والحكم فحاولوا الخروج من المعسكر حتى تمكن بعضهم وتعارك بعضهم الآخر مع الجيش في ا لبوابة وبينما هم على ذلك إذ هطلت أمطار قاسية أجبرت المعاقين للعودة للغرف في المعسكر فتمكن الجيش من إغلاق البوابة الوحيدة واختلف موقفه في التعامل مع المعاقين الذين تمكنوا من الخروج فنظرإليهم فريق من الجيش على أنهم عصاة ويمثلون قادة تمرد المعاقين فمالوا إلى رأي التعامل معهم بقسوة ورأى فريق آخر إلى الاستفادة من ظروف الأمطار واختفاء بقية المعاقين في الغرف فحسموا الأمر لصالح إجبارهم على العودة إلى المعسكر فتحقق لهم ذلك تحت تهديد السلاح والتذكير بمشهد أمس الدامي.
وهكذا تم تقييد حركة كل المعتقلين وفرض الإقامة الجبرية عليهم ليسهل انقيادهم للإجراءات الرسمية المعدة لمعالجة أزمتهم فأصبحوا في قبضة خصمهم: الجيش في البوابة والأسلاك الشائكة من كل جانب تردهم بقسوة إلى حيث يريد عدوهم من الصبر ا لذليل أمام ما هم مقبلون إليه من قرارات جائرة.
التحقيق:
خلف الجيش كان هناك رجال أمن يقدر عددعم بعشرين عنصرا ً يمسك كل واحد منهم قلما ًوملفاً تحت حراسة الجيش وتنظيمه وقد بدأت مهمتهم بعد استتباب الأحوال وسكون هيجان المعاقين وبدأ التحقيق مع كل شخص معاق على حدة.
جلس المحققون صفاً وجلس أمام كل رجل أمن واحد من المعاقين وأخذ ا لجيش يرتب الفرص وينادى على جموع المعاقين فرداً فرداً كيفما تيسرويدفعون بالمنادى نحو المحققين دون أن يكون معهم قائمة الأسماء واستمر التحقيق أسبوعاً كاملاً حتى كتبت أقلام المحققين آخر دفعة من التسعة آلاف معاق يضمهم المعسكر.
أسئلة التحقيق:
مع كل معاق يتحقق عنصر أمن واحد والمحققون نسخة واحدة تخصصا وقسوة ومكرا والأسئلة كذلك معدة وموحدة تبدأ بذكر السيرة ا لذاتية من يوم الالتحاق بالثورة حتى لحظة التحقيق ودور الشخص في المظاهرة والأسباب التي دعته ليشارك فيها ولا ينسى التحقيق أن يستنطق الشخص المعاق عن الإدلاء بمعلومات عن الأشخاص المهمين الذين يمثلون المحرك الأساسي القائد في المظاهرة وكانت مهمة المحقق تسجيل كل شيء يتفوه به المعاق و يقوم بتسجيل انطباعات وملاحظات يستنبطها من الحديث مع المعاق ويكتب مقترحات تنصف المعاقين حسب رأيه إلى فئات من حيث ما ينتظرهم من عقاب متدرج حسب اختلاف أدوارهم في المظاهرة.
الخلاصة:
ينظر ا لمحققون بصفة جماعية في نتائج تحقيق أفرادهم ويتبادلون الآراء والتبريرات التي يبنى عليها فرز المعاقين إلى أكثر من فئة ولهذا كانت النتيجة النهائية ما يلي:
1. عدد خمسة عشر شخصاً تم تحويهم إلى أسمرا للمحكمة العليا بناء على أنهم راس الفتنة وقد تم تحويلهم بعربة خاصة.
2. عدد ثلاثمائة معاق حكم عليهم أربعة أشهر سجناً في معسكر محابار الحلة مع الاستفادة منهم في الخدمة العامة حسب الحاجة تم حبس هؤلاء الثلاثمائة في غرف جماعية كبيرة لا يخرج منها أحد إلا لضرورة الطعام ولضرورة قضاء الحاجة وتحت الحراسة المشددة.
الغرفة تشبه مخازن كبيرة تستوعب العدد كله والأصل أن المكان ورشة للتدريب المهني مبني بالبلك ومعرش بالزنك القوي له نوافذ عدة وباب واحد كبير يدخل منه عربات ولا يوجد أي مناشط لهذه الفئة من المساجين كما لا يسمح لها بما يسمح به لغيرها من شرب خمر ولا ممارسة رقص ولا الاستمتاع بالتنزه والتفسح أو الاستفادة من فرص التدريس والتدريب ويحظر عليهم سماع الأخبار والتواصل مع الآخرين إلا في أوقات خاصة محروسة ومن وراء شبكة حديدية.
ولم يقطع ما هم فيه من رتابة مملة إلا عندما جاء قرار تشغيل المعاقين والاستفادة منهم قبل نهاية المدة في مزارع منطقة (عالا) وهي منطقة زراعية باتجاه دقي محري حيث تم ترحيلهم إليها لإنجاز هذه المهمة وهو النظام الذي كانت تتبعه الجبهة الشعبية قبل التحرير وبعده إذ تستغل المجندين المعاقين منهم وغير المعاقين، المسجونين منهم وغير المسجونين في الخدمة العامة للدولة دون أي اعتبار لحقهم في رعاية النفس ولا رعاية الأسر.
3. السواد الأعظم من المعاقين حكم عليهم بإقامة جبرية بمعسكر محابار فروشي لمدة ثلاثة أشهر وهم أحسن حالاً من الفريقين يمكنهم التحرك بارتياح في المعسكر وخارجه دون الابتعاد وتوجد إمكانية الهروب بغير الطرق الرسمية والعودة إلى المعسكر مرة أخرى كما توجد لهم إمكانية الفرارالنهائي لكن الذي يمنعهم من فعل ذلك هو آملهم في الحصول على حقوق مادية من الممكن حرمانهم منها إذا هربوا من المعسكر بطرق غير شرعية. ولهذا كان بالإمكان التحرك المريح لهذه الفئة من المعاقين المسجونين ينتشرون في الجبال لجني ثمار التين الشوكي (البلس) وقد يذهب بعضهم إلى الأسواق والمدن الكبيرة لشراء احتياجاتهم أو زيارة أقاربهم والتزود بما يفيدهم من مساعدة أهليهم لهم.
حصرهذا العدد الكبير في معسكر فروشي ولضيق الغرف وقلتها تم إنشاء خيام لهم قماشية بيضاء وأعمدتها خشب مستورد أتى مع الخيام من خارج الوطن، الخيمة الصغيرة تستوعب عدد بين 5-6 افراد والخيمة الكبيرة نوعها قماشية أوبلاستيكية وأعمدتها حديد مستوردة تستوعب عدد 70 فردا تقريبا.
وقد أقيمت للنساء المعاقات وأطفالهن خيام خاصة بهن.
والشيء المهم المحظور طرحه ونقاشه والمطالبة به هوالحديث عن حقوقهم لأنهم في فترة عقاب ولهذا لا تظلم ولا تشكي حتى تنتهي مدة الأشهر الثلاثة العقابية.
نهاية القصة:
وجب على المعاقين الصبر الذليل حتى تكتمل مدتهم بعد ذلك كان الملف بيد ودي قشي قائد المعسكر فقد دعا لاجتماع فئة الأشهر ا لثلاثة وأبلغهم أن القرار الذي رفضوه قبل الأزمة هو الذي ينتظرهم الآن مع إضافة خيار جديد وبيان ذلك فيما يلي:-
1. قبول عشرة آلاف بر إثيوبي وقد اختاره عدد يقدر بخمسة آلاف معاق.
2. البقاء في المعسكر وتلقي توجيه لاحق باعتماد ألف بر إثيوبي لكل شخص مع تسريحهم عن الجيش ولتظل هذه المكافأة الشهرية تقدم لهم بموجب مستند خاص به يقدم إلى البنوك وفضل هذا الخيار عدد آخر من المعاقين.
3. فتح خيار التراجع أمام كل معاق إلى خيار الراتب الشهري لكن بعد إعادة مبلغ الآلاف العشرة التي كان قد استلمها.
4. يصرف مبلغ العشرة آلاف بر في العاصمة بموجب تحويل الا سم إلى موقع الصرف في العاصمة وهو بنك حكومي يستلم بعد التوقيع على الكشف أمام الاسم بعد التأكد من المستندات الشخصية.
5. يكون الذهاب إلى العاصمة بسيارات كبيرة تسع لعدد يترواح ما بين 20-40 فردا يقود المعاقين السائق إلى حيث يوجد البنك.
6. هذه الخيارات هي قرارات نهائية تطبق على كل فئات المعاقين سواء تم عقابهم بالسجن القاسي أربعة أشهر أو السجن الأخف ثلاثة أشهر كما تطبق كذلك على الجرحى بعد معالجتهم.
7. الفئة الاولى الخمسة عشر فردا لا أحد يعرف أين مصيرهم ولا ماذا تم في حقهم من قضاء.
يوميات المعتقلين:
كيف تتخيل أن يكون الإنسان سعيدا وهو ينظر إلى جزء من جسمه مفقود يتذكره كلما احتاج إليه لأداء مهمة وهو عاجز عن أدائها بدونه كما أن ما يزيد الألم ما يجده المعاق من قسوة شديدة من سلطته التي كافأته بالرصاص على مطالبه الحقوقية المشروعة ولهذا يظل الطابع العام للسجين الحزن والكآبة على الرغم من البيئة الجميلة المحيطة بهم التي تدعو إلى السعادة.
وعلى الرغم من هذه الكآبة وما تدعو إليه من سكون وخمول كانت هناك مناشط يومية يمارسها المعاقون في المعسكر:
ليس لهم دروس تأهيلية ولا برامج مفيدة يقضون فيها أوقاتهم حتى يكملوا فترة المحكومية سوى ما أتيح لهم من (بارات) تجارية تتوفر فيها أطعمة وأنواعي من الخمور المستوردة (بيرا) ومقهى ولعب الورق ورقص صاخب على أصوات المسجلات الكبيرة. كل ذلك يعد مناشط تابعة لإدارة المعاقين يضمها نادي كبير يقع شرق المعسكر بجوار الطريق المسفلت المتجه إلى دقي محري مبني بالحطب والقنا ومعرش بالزنك المقوى إلى جانب مقهيين خاصين أحدهما لمسلم يدعى جابر مكي والآخر لمسيحي ويتردد المعاقون في هذه المحلات حسب الإمكانيات المتاحة لهم وليس في المعسكر أي برامج رياضية لا كرة القدم ولا التدريبات الرياضية العسكرية ولا مناشط خدمة إلزامية نافعة كما يخلو برنامج المعاقين اليومي من أداء العبادات جماعة فكلهم يتفق على إبعاد الشعائر الدينية من حياتهم- إلا ما ندر وبشكل فردي مستضعف - تاثراً بتربية الجبهة الشعبية وبرنامجها التعبوي.
كل ذلك ينطبق على منسوبي المعسكرين من المعاقين وهما يتزاوران والمسافة بينهما ساعة بالأقدام وكل واحد منهما محاط بالجبال كما أن كلا منها يقع في سهل منخفض على ضفاف وادي موسمي وفيه ماء دائم للشرب ومعسكر محابار (فروشي) أقرب لمدينة (نفاسيت) من معسكر محابار (الحلة) وكلا المعسكرين يمر بهما طريق دقي محري - نفاسيت والحلة يشقها الطريق وهي حلة قديمة من زمن الاستعمار و تضم بارات ودكاكين ومطاحن ومطاعم وفسوق إلى جانب مسجد تقام فيه الجمعة والجماعة وهو مبني بحجر وطوب أحمر وبلوك والعرش زنكي وكنيسة غالب مواد بنائها الطوب الأحمر والسكان مسلمون ونصارى وهم خليط متعايش متعاون من القبائل والأعراق ذات الأصول المختلفة.
سطر الختام:
منذ تاريخ مذبحة ماي حابار إلى اليوم مضى قريبا من عشرين عاما وحتى الآن لا يعرف مصير خمسة عشر من المعاقين تم تغييبهم بعد اتهامهم بأنهم الرأس المدبر لمشروع المظاهرة المظلومة المهزومة كما لا تعرف البيانات اليقينية لمنسوبي هذه الماساة من المعاقين قتيلهم وجريحهم وسليمهم وسجينهم فقد قصد النظام قتلها في منطقة معزولة عن وسائل الاتصال وعن تواصل المدينة قتلها مرة بالرصاص، ومرة بالسجن والإقامة الجبرية، ومرة ثالثة قتلها بإرغام المعاقين على تجرع الحافز المادي الهزيل الذي كان مرفوضاً من طرفهم ومع ذلك سوف تظل ماي حابار شاهداً أليماً لا تنطمس معالمه وسوف تظل صيحة المعاقين على المطالبة بالحق درساً تم تقديمه للاجيال اللاحقة كما أن قطرات دماء قتلاهم وجرحاهم برهان إدانة يقدمه الخلف الحر ضد النظام الطاغي لن يمسحه تعاقب الليل والنهاركما لا تعوضه راتب الألف (بر) الشهرية ولا حافز العشرة آلاف التي انتشى بها كثير ممن منحت لهم مضيعين إياها في حفلات النظام وأعياده ورقصه وشرابه وفسوقه وفي شراء مذياع (راديو) يتابطه كثير من المسرحين لسماع صوت الجماهير. فواعجبي من نظام يقتل مواليه، وواعجبي من مقتول متيم بحب قاتليه.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
باسم القروي: كاتب حاضر، عرف الإعلام منذ أيام كان طالبًا في الثمانيات، يرى أن القضايا الضعيفة توجب المناصرة القوية ولهذا يتشبث بالقلم.