العيوب الأساسية (السياسية والقانونية) في دستور النظام الارتري - الحلقة الأولى

بقلم المناضل الأستاذ: عثمان صالح - كاتب ومفكر سياسي

مدخل: على الرغم من أنني سجلت هذه الملاحظات منذ اطلاعي على نسخة دستور

النظام الارتري قبل أكثر من عقد من الزمان إلاَ أنني لم أجد من دافع لنشرها لمجموعة من الأسباب، يأتي في مقدمتها أن النظام نفسه رفضه عمليا ورمى به في سلة المهملات، وثانيها أن المعارضة الارترية لم تعترف بكل الترتيبات التي أثمرت الدستور وغيره فتجاهلت الموضوع كليا ولم تشغل به نفسها، وعليه دخل الدستور الذي أعدته سلطة الشعبية لتحكم به كما أعلنت (ربما ذرا للرماد في العيون كما يقال) في سبات عميق وطواه النسيان على مستوى النظام والمعارضة معاً وأصبح موضوعه في خبر كان الى عهد قريب.

ولم يكن من سبب لمناقشة هذا الدستور في أوساط المعارضة لأن الذين صاغوه أنفسهم ركلوه تحت أقدامهم. ولكن بعد انسلاخ عدد من أركان النظام عنه وانضمامهم الى صفوف المعارضة عبر تنظيمات تتبنى مفاهيم (الشعبية) وطروحاتها وتجربتها ظهرت دعوات لتبني دستور النظام مما يجعل تسليط الضوء على بعض ما حوى هذا الدستور - على الرغم من أنه الآن خارج الفعل والتفعيل - أمرا ضروريا على أمل أن يكمل ما لم أحط به أنا من عيوب فيه، غيري من الأساتذة والمراقبين والمتابعين والمناضلين ويثروا النقاش فيه بحيث يتم تنوير الشعب الارتري بمحتويات هذه الوثيقة وما فيها من مفاهيم وموجهات خاطئة.

لأننا في نهاية الأمر سنكون بحاجة الى تبني وثيقة دستور تضبط ايقاع الحياة وتحدد اتجاهات الحكم وطريقة ادارة الدولة وممارسة السلطة سواء كان عن طريق الأخذ (بهذه) الوثيقة بعد قراءة دقيقة للأخطاء الفادحة والنقائص الكبيرة فيها وإزالة القواعد المؤسسة على الإقصاء وادخال التعديلات اللازمة وما يقتضيه الحال ويستجيب لمطالب وقواعد ومبادئ المقاومة الوطنية والنضال الديمقراطي الذي خاضه شعبنا وفصائله الوطنية ضد الدكتاتورية لتنال قبول ورضا الجميع، أو بإعداد وثيقة دستورية أخرى غيرها.

وعلى هذا فإني لا أرى حكمة في تعبير الرفض الكلي لوثائق النظام الذي ورد في الفقرة الأولى من (موجهات عامة) في المحور الثالث من توصيات ورشة ملتقى الحوار للتغيير الديمقراطي لأن التعديل أوفر للزمن والجهد والمال، لما للدساتير عادة من أثر بالغ في ضبط ايقاع الحياة عند كل الشعوب وفي جميع البلدان - طبعا عند اقرارها والعمل بها. كما أود أن أشير الى أن ملاحظاتي ستنصب أساسا على العيوب في المفاهيم في ما ورد في هذه الوثيقة ولن أناقش موضوع التطبيق من عدمه. وسأحاول تقريب الصورة الى القارئ بنقل كامل النص موضوع التعليق ووضعه بين هلالين وبلون مميز ونقل الجزئية موضوع التعليق في ما ليس كله محل تعليق. تتكون هذه الورقة من أربعة أجزاء:-

الجزء الأول: يتكون من تمهيد ثم يتناول أساسايات الدستور بصورة مختصرة لإعطاء فكرة عامة عن ماهية الدساتير ومن ثم المناقشة على ضوئها.

الجزء الثاني: يتناول الملاحظات العامة على وثيقة الدستور.

الجزء الثالث: هوملاحظات تفصيلية على نصوص بعض مواده التي أرى فيها خللا فادحا وضررا كبيرا بالمبادئ والأهداف التي ناضل وضحى من أجلها الشعب الارتري. الجزء الرابع هو عبارة عن تلخيص لأهم التباينات بين مبادئ المعارضة الإرترية ممثلة في التحالف الديمقراطي الإرتري وبقية تكويناتها ومطالبها وأهدافها، وبين دستور النظام، ثم يختم ذلك بقائمة من المراجع التي اعتمدت عليها في الاعداد.

فكرة الدستور:

تتفق معظم الدراسات ان اصل كلمة (دستور) مكونة من كلمتي (دست أي - يد، و اور أي - صاحب) وترجع في اصلها الى اللغة الفارسية وكانت تستعمل لتعني السجل الاساسي كدفتر أسماء الجنود والسجل الذي يضم مجموعة قوانين الدولة. وبهذا فان الدستور يعني مجموعة القواعد التي تتعلق بتنظيم ممارسة السلطة في الدولة.

وإذا كان ما يميز الدولة هو وجود سلطة تمارسها قيادة سياسية، فان دستور الدولة إذن مجموعة القواعد التي تبين الطريقة التي تمارس بها السلطة من قبل القابضين عليها. وعليه فان كل قواعد (عرفية كانت أو مكتوبة) تنظم ممارسة السلطة في بلد ما هي دستوره. إلا أن ما تجدر الإشارة إليه هنا هو إن السلطة لا تمارس لذاتها وإنما لتحقيق أهداف وغايات اجتماعية واقتصادية وسياسية.

وطريقة الممارسة هذه تتأثر بطبيعة الحال بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لذلك البلد، ونظرا لأهمية هذه الأسس يصار دائما الى تثبيتها وإعلانها في الوثيقة الدستورية. وعليه فان أي دستور في العادة يتضمن مجموعة القواعد أو المبادئ التي تبين الأرضية التي يقوم عليها المجتمع المطلوب تنظيم ممارسة السلطة عليه أي ما يمكن تسميته (فلسفة النظام السياسي) وأسس الحكم، وبعبارة أخرى تحديد الاتجاه الذي ستسير فيه السلطة عند وضع قواعدها القانونية وتشريعاتها.

ومن البداهة القول إن هذه المبادئ الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تتضمنها وثيقة (الدستور) قد لا تكون في جزئ منها معطيات بل تكون (غايات أوهدفا) يراد تحقيقه وبهذا المعنى سيكون الدستور أيضا (دليل عمل) للقابضين على السلطة. وفي أغلب الأحيان نجد أن الدساتير تؤكد على هذه الصفة. أي أن ما يوجد بين دفتي الدستور هو (دليل عمل) للسلطة في ما يعرف بمقدمة أو تمهيد أوتوطئة أو تفسير أو مفاهيم أساسية أو موجهات أو ضوابط أو أحكام عامة...الخ من التعابير التي تبين الاتجاه المركزي في تفسير مضامين الدستور.

من ذلك مثلا ما ورد من ضوابط والتزامات في دستور النظام الارتري التي أعدته مفوضية الدستور في يوليو 1996م في المادة الثانية الفقرة (2) التي تنص على (يرسي هذا الدستور المبادئ والموجهات الأساسية التي تستند عليها الدولة)، ووردت مواد الفصل الثاني منه تحت عنوان (الأهداف الوطنية والمبادئ الموجهة) كما وردت مجموعة من هذه الموجهات في الصفحة الأولى تحت عنوان (توطئة):-

الفقرة (1) تنص (وادراكا بانه واجب مقدس على المواطنين ليسعوا للحفاظ على الاستقلال والوحدة).

الفقرة (2) تنص (واقتناعا بان قيم الوحدة والمساواة وحب الحق والعدل والاعتماد على الذات وحب العمل التي نمت خلال ثورتنا التحررية والتي حققنا بفضلها الانتصار، ينبغي ان تكون جوهر قيمنا الوطنية التي يرتكز عليها العمل لبناء وطن مزدهر).

الفقرة (5) تنص (وادراكا بان المشاركة الاعجازية للمرأة الارترية في النضال من اجل الحرية والحقوق وبان التضامن المتين بين المراة والرجل والمبني على المساواة والاحترام المتبادل والذي كان قد تطور في خضم هذا النضال يشكل أساسا لعهدنا ونضالنا غير القابل للتزعزع في سبيل تحقيق المساواة والتضامن بين المراة والرجل).

ومما تقدم يتضح إن فكرة أي دستور تتضمن:-

1. تأكيد الأسس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع.

2. تحديد فلسفة النظام السياسي.

3. منهاج ودليل عمل للسلطة حاليا ومستقبلا.

4. تبيان طريقة ممارسة السلطة.

وعليه يلاحظ أن للدستور معنى موضوعي وآخر شكلي، فالأول هو القواعد القانونية التي تنظم طريقة ممارسة السلطة أي القواعد التي تتناول موضوعات ضمن نطاق القانون الدستوري كلتلك التي تبين شكل الدولة والحكومة وتبين سلطاتها الأساسية واختصاصاتها وتوضح العلاقة بينها وغيرها من المسائل المتعلقة بمادة القانون الدستوري. أما الشق الثاني (الشكلي) فيقصد به الوثيقة الدستورية ذاتها التي تحتوي على القواعد الأساسية للدولة.

القانون الدستوري د. علي غالب خضير / و د. علي نوري لطيف (ص155-157)

الطبيعة السياسية للدستور:

على الرغم من أن الوثيقة الدستورية تتضمن قواعد ذات طبيعة قانونية إلاَ إن للدستور مضوناً سياسياً لأنه ينظم نشاط حكام من ناحية وهو من ناحية أخرى وثيقة تعبر عن انتصار قوى سياسية على أخرى. وعليه فإن مما يؤخذ على النظام الارتري أنه قلل من الوزن السياسي للوثيقة التي أصدرها تحت عنوان الدستور، وأضعف كثيرا من أرضيتها السياسية بتجاهله حقيقة أن الوضع الذي تطلب وضع دستور من تحرير البلاد والاستقلال وميلاد الدولة والسلطة المطلوب تنظيم ممارستها انما كان في الحقيقة نتاج نضالات كل الشعب الارتري وتضحياته الجبارة. كما قلل شأنها من خلال حصر المفاهيم المنزلة فيها على رؤيته السياسية واستبعاد القوى السياسية الأخرى في التحضير والإعداد وبالتالي افقدها شرط التراضي السياسي وهذا ما حرم (دستور الشعبية) من القبول في أوساط سياسية عريضة وشرائح واسعة من المجتمع الارتري.

الطبيعة القانونية للدستور:

ما يزال الخلاف مستمرا بين رأيين بخصوص هذا الشأن. الأول يقول بالطبيعة القانونية للدستور والآخر ينكر ذلك عليه. فالذين يذهبون الى أن القواعد الدستورية هي قواعد قانونية بالعمنى الدقيق للقانون يستندون في ذلك على فكرة (علو) الدستور وكونه مصدر قانونية وصحة جميع القوانين في الدولة وبما يتضمنه من النصوص الواضحة بأن جميع القوانين التي لا تنسجم معه في الشكل والمضمون تكون لاغية وعديمة الأثر. وهنا يثور السؤآل إذا كان لابد لكل قاعدة قانونية من قاعدة قانونية أعلى تضبط صحتها ومشروعيتها فمن أين يستمد الدستور نفسه قانونيته؟.

وهناك مذاهب كثيرة في أصحاب هذا الراي بين من يقول يستمد قانونيته من / قبول المواطنين / إرادة القابضين على السلطة / وهناك من يرجعها الى سنة عليا.أما الرأي الثاني في هذا الخلاف فانه ينكر على القواعد الدستورية الصفة القانونية باعتباره لاتتوفر فيها شروط القواعد القانونية بصفة (الطلب) الصادر من أعلى الى أسفل (أمر ونهي) وترتيب عقاب مضمون بسلطة. واعتبروا القيد الوارد على تصرفات الحكام نابع من مصلحة وطموح الفئات التي يمثلوناها.

علوية الدستور:

مهما يكن الخلاف حول طبيعة الدستور القانونية إلاَ أنه اتفق على أن يكون الدستور أعلى سلم القوانين في البلاد وينبغي خضوع الجميع له.حتى تلك السلطة التي تشرعه مطلوب منها أن تلتزم بما يحدد من نظم وضوابط وعدم تجاوزه باعتباره (دليل عمل) ومنهاج لتحقيق مصالح الفئات أو الطبقات أو الأحزاب التي تمثلها السلطة. وعليه يمكن القول أن علوية الدستورلا تفرضها فقط الاجراءات القانونية المعقدة والخاصة المطلوبة لتعديله (أي الجمود) بل تفرضها بدرجة كبيرة الاعتبارات السياسية.

تـابـعـونـا... فـي الـحـلـقـة الـقـادمـة

Top
X

Right Click

No Right Click