ارتريا، اريتريا، إرترا، ارترا ثالسا، ﺳﻨﻴﻮﺱ ﺍﺭﺗﺮﻳﻮﺱ - الجزء الثاني

بقلم الأستاذ: حامد ود عد - كاتب وناشط سياسي إرتري

تأريخ إرتريا: إن التاريخ الإرتري مر بتعرجات كثيرة بسبب الصراع الذي كان يدور في المنطقة بأكملها والغزو الذي كان يقوم به

خريطة إرتريا

الأجانب إما بحثا عن منفذ مائي وإما للسيطرة على الموقع الاستراتيجي المطل على البحر الأحمر.

سيطر البطالمة على أجزاء من الساحل الإرتري في القرون الخمسة الأولى قبل الميلاد، وإليهم يرجع تأسيس مدينة عدوليس الأثرية بالقرب من ميناء مصوع الحالي فترة من الزمن، ثم أصبحت السواحل الإرترية محل صراع دائم بين الفرس والروم خاصة في القرن الأول قبل الميلاد، ولعبت مملكة أكسوم التي كانت تقع بالقرب من الحدود الإرترية الإثيوبية الحالية أداة من أدوات ذلك الصراع في تلك الحقبة قبل أن تضمحل في القرن الثامن الميلادي على يد مجموعات البجة التي كانت تمتد من أسوان بمصر حتى المرتفعات الإرترية.

انتقل الصراع في العصور الوسطي إلى البرتغاليين والدولة العثمانية، ونستطيع أن نلخص هذه الصراعات في الصراع البرتغالي التركي، ثم الخديوية المصرية والأحباش وانتهى بدخول الاستعمار الغربي الحديث الذي تمثل في الاستعمار الإيطالي الذي وضع اللمسات الأخيرة على إرتريا كدوله، وهو الذي وضع خريطتها الموجودة حاليا، كما يرجع الفضل إليه في بناء البنية التحتية للدولة الحديثة وإن كانت الأيدي العاملة والقوة المستهلكة إرترية، إلا أن التفكير والتخطيط كان إيطاليا بحتا.

الاستعمار البريطاني خلف الإيطاليين بعد الحرب العالمية الثانية وحافظ على خريطة إرتريا كما تركها الإيطاليون، إلا أنه عمل على تدمير المنشئات الإرترية ومن ذلك تفكيك أحواض السفن الثابتة والمتحركة والرافعات في مينائي عصب ومصوع والمخازن، كما قام الاستعمار البريطاني بتفكيك الجسور والقطارات وعربات القطارات، وخط (التلفريك) الذي كان يربط بين اسمرا ومصوع وغير ذلك من المنشئات التي بيعت لدول أخرى وفى آخر المطاف وهب الاستعمار البريطاني إرتريا التي لا يملكها هدية لمستعمر جديد وهو الاستعمار الإثيوبي.

الصراع التركي البرتغالي في إرتريا:

في مستهل القرن السادس عشر الميلادي (1520م) نزلت قوات البرتغال إلى الساحل الإرتري وقضت خلال أيام على مقاومة الأمير البلوي في مصوع لكن المقاومة الوطنية استمرت في ضواحي المدينة حيث ضرب الوطنيون حصارا حول المدينة ومنعوا امدادها بالمياه ولكن مع استمرار التعزيزات العسكرية تمكن البرتغاليون من التوغل إلى الداخل بهدف تأمين احتياجاتهم من المياه والمواد الغذائية والاتصال بالملك الحبشي (لبنا دنقل) كما فرض الأسطول البرتغالي سيطرته على البحر الأحمر بقيادة (رودريجو دي ليما Rodrigo de Lima).

في عام 1538م تقدم الأتراك لاحتلال عدن وألحقوا الهزيمة بالأسطول البرتغالي في البحر الأحمر بالقرب من مصوع وبدأوا بالاتصالات مع أمراء الساحل الإرتري وأعدو جيشا قويا للقضاء على التحالف البرتغالي الحبشي. تمكن الأتراك من السيطرة على مصوع عام 1557م، كما استولوا على المدن المجاورة حتى وصلوا إلى مدينة (دباروه) عاصمة الإمارة الواقعة في الهضبةالوسطى التي ساعد أميرها الأتراك على احتلال مصوع من أجل أن يسهل الاتصال بينه والاتراك ليستعين بهم في صراعه مع أباطرة الحبشة،
فرض الأتراك بعد تمركزهم في مصوع نوعا من الإدارة المركزية على طول الامتداد الشمالي للساحل الإرتري وأصدر السلطان أحمد فرمانا بتأسيس ولاية الحبش ومقرها مصوع لتصبح بذلك مدينة مصوع حاضرة الإقليم من منتصف القرن السادس عشر الميلادي واستمرت كذلك حتى أسس الايطاليون اسمرا مرتكزا لحكمهم بعد توغلهم في الهضبة وكانوا في مطلع استيلائهم على إرتريا يتمركزون في مصوع وأسسوا مفوضية مصوع، وعين الأتراك الزعماء المحلين من قبيلة بلو (بلي العربية) لحكم تلك المناطق نيابة عن السلطان العثماني فحصل حاكما مصوع وحرقيقو على لقب (نائب) السلطان العثماني.

الخديوية المصرية في إرتريا:

في يوم 29 مايو1866م وصلت السفينة المصرية الإبراهيمية مدينة مصوع وعلى متنها (حسن رفعت) الذي عينته الحكومة المصرية حاكما على مصوع وجرى استلام مصوع وسط احتفال الأهالي وتلا الفرمان الخديوي بحضور جمهور الوجهاء والأعيان والقاضي والمفتي وكبار التجار في المدينة فأظهر الجميع سرورهم بقدوم المصريين. وفى عام 1872م احتلت الجيوش المصرية إقليم البغوص (اقليم عنسبا حاليا) كما استولت على منطقة حماسين المحيطة باسمرا الحالية.

أصاب تقدم القوات المصرية حاكم الحبشة بالفزع، لذا فقد قام بتشجيع ودعم كامل من بريطانيا بالاصطدام مع القوات المصرية في عامي 1875-1876م بإقليم أكلوغزاى وتمت هزيمة القوات المصرية في المعركتين، لذلك انسحبت القوات المصرية إلى مصوع واحتفظت بمرتفعات الحباب وكرن، أما المناطق الغربية من إرتريا (بركه والقاش) ظلت تحت إدارة القوات المهدية السودانية التي وصلت إلى مشارف مدينة أغردات، في حين ظلت المرتفعات الإرترية منطقه عازلة بين المصريين والإثيوبيين تحت إشراف حكام من أبنائها.

الاستعمار الإيطالي لإرتريا:

بعد استكمال وحدتها 1870م تطلعت إيطاليا إلى افريقيا، فكانت البداية عن طريق المبشر الإيطالي (سابيتو) ففي 15نوفمبر 1869م أبرم (سابيتو) اتفاقا مع مشايخ الدناكل، وفى 11 مارس 1870م أتبعه بإبرام اتفاقا مع عبد الله شحيم، وعبد الله أحمد، وإبراهيم بن أحمد، كما أبرم اتفاقا جديدا مع بعض المشايخ المحليين حصل بموجبه على قطعة أرض أخرى على الساحل من رأس لوقا وخليج علالة وجبل جانحا ورفع في 13 مارس العلم الإيطالي على تلك البقعة في ساحل خليج عصب.

في مارس 1882م أبرمت الحكومة الإيطالية اتفاقا مع (روباتينو)تنازلت بموجبه الشركة المذكورة عن امتيازها في ساحل عصب، وفى ظل التنافس الاستعماري الأوروبي رحبت بريطانيا بالمشروعات الإيطاليةالاستعمارية حيث أبلغ اللورد جرتفيل وزير خارجية بريطانيا في مذكرة وجهها إلى زميله الإيطالي الكونت نيجرافى.

في عام 1884م احتلت إيطاليا “بيلول” بحجة المحافظة على النظام وذلك بعد مقتل الرحالة الإيطالي جوشانوبيانكى في منطقة دنكاليا، وفى شباط فبراير من العام نفسه نزلت القوات الإيطالية إلى ميناء مصوع بدعوى عجز حكومة الخديوي في مصر عن تأمين حياة الرعايا الإيطاليين.

هكذا أخذت إيطاليا تستولي على جزء من الأرض ثم تعقبه بالاستيلاء حتى أكملت في الأول من يناير عام 1890م احتلالها لإرتريا وذلك حين أصدر الملك (امبرتو) الأول ملك إيطاليا مرسوما ملكيا بتأسيس مستعمرة إرتريا وأطلق عليها إرتريا إحياء للتسمية الرومانية (ماري إرتريوم) المأخوذة من التسمية اليونانية للبحر الأحمر(سينوس ارتريوس)وهكذا تأسست مستعمرة إرتريا بحدودها الحالية.
منذ عام 1890م شهدت إرتريا تطورا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا كبلد واحد وشعب واحد يخضع لإدارة واحدة (الإيطالية) وكانت لتلك الفترة الأثر الكبير في تكوين الشعب الإرتري النفسي والفكري وفي وضع أسس البني الاقتصادية والاجتماعية، وباختصار حددت تلك الفترة الملامح الأساسية للمجتمع الإرتري ولعبت دورا مهما في صياغة المستقبل الإرتري.

بعد إعلان إرتريا مستعمرة عام 1890م بدء الإيطاليون باستثمار الثروات الزراعية والحيوانية والخام وقد بدأت هجرة واسعة من المزارعين والعمال المهرة والحرفيين والمهندسين الإيطاليين إلى إرتريا بالإضافة إلى أصحاب الأعمال.

كان سائدا نظام التفرقة العنصرية حيث يعتبر الإيطاليون أنفسهم الطبقة الأولى (عليا) ويعاملون الأهالي الوطنيين كطبقة ثانية (دنيا) ولذلك حرموهم من التعليم وكل إشكال المعرفة وكانت الحرب العالمية الثانية بمثابة إنذار بدنو نهاية الإيطاليين فقد خسر الإيطاليون الحرب واستولت قوات الحلفاء على إرتريا 1941م واستسلمت آخر الحاميات الإيطالية في (قوندر) سنة 1942 وبذلك خرجت إيطاليا نهائيا من إرتريا، لتقع إرتريا تحت الإدارة البريطانية.

الاستعمار البريطاني لإرتريا:

في العاشر من شهر يونيو حزيران 1940م دخلت إيطاليا الحرب، في مايو أيار 1941م كانت القوات الإنجليزية تحتل إرتريا والصومال الإيطالي والجزء الأكبر من إثيوبيا ما عدا مرتفع منطقة (قوندر) البعيدة والمنعزلة، ففي الأول من ابريل (نيسان) 1941م دخلت الجيوش البريطانية اسمرا وفي الثامن من ابريل (نيسان) سقطت مصوع ووقعت إرتريا كلها تحت الاحتلال البريطاني، بعد أربعة أيام كان قائد الحملة البريطاني الجنرال بلات يحتل مكانه في قصر الحاكم الإيطالي السابق في اسمرا.

تشكلت إدارة عسكرية في إرتريا من قبل سلطات الاحتلال البريطاني، وشهدت إرتريا خلال فترة الانتداب البريطاني ركودا اقتصاديا في الحياة العامة، حيث قامت سلطات الاحتلال بنقل بعض المنشآت الاقتصادية إلى خارج إرتريا وجردت المشروعات الإنمائية التي كانت تحت التنفيذ مما ترتب عليه إضعاف المركز المالي والاقتصادي لإرتريا وإظهارها بمظهر القطر الفقير العاجز.

عملت بريطانيا على الاحتفاظ بإرتريا ولما وجدت الطرق مسدودة نظرا لمواقف دول الحلفاء، شجعت فكرة تقسيم إرتريا، ومرة أخري اصطدمت برفض الحركة الوطنية الإرترية وعدم موافقة دول الحلفاء، وأخيرا طبقت نظريتها المفضلة التي مارستها قبل ذلك في فلسطين وهي أن تعطى أرضا لا تملكها إلى جهة لا تستحقها، وفي حالة إرتريا فإن إثيوبيا كانت الجهة التي اختارتها بريطانيا للقيام بالدور الإسرائيلي.

على الجانب الآخر أتاح الاستعمار البريطاني فرصة التعليم للإرتريين الذين حرموا في فترة الاستعمار الإيطالي الذي احتكر التعليم لأبناء الإيطاليين دون غيرهم، كما أن الاستعمار البريطاني فتح باب الحريات فنشأت في فترة الحكم البريطاني الأحزاب السياسية الإرترية وأطلق حرية التعبير فصدرت العديد من الصحف والمجلات.

بجانب الحريات التي منتحتها للإرتريين مارست بريطانيا خلال فترة احتلالها القصيرة لإرتريا كل الأساليب التي من شأنها تعميق التناقضات الثانوية بين الإرتريين، وباختصار فان بريطانيا التي بدأت بتشجيع إيطاليا في الماضي على احتلال إرتريا قامت في الفترة 1941م وإلى 1952م بإعداد إرتريا وتقديمها في طبق من ذهب إلي الإمبراطور هيلاسلاسي.

إرتريا في ظل الاتحاد الفدرالي:

تنص الفقرة الثالثة من معاهدة السلام التي وقعت مع إيطاليا في باريس 1947/2/10م على أن حكومات الدول الأربع الكبرى المنتصرة (أمريكا، بريطانيا، فرنسا، الاتحاد السوفيتي) عليها أن تكون لجنة مشتركة للتصفية النهائية لممتلكات إيطاليا السابقة في أفريقيا (إرتريا، الصومال، ليبيا) خلال عام واحد وتتنازل إيطاليا بموجب الفقرة واحد من المادة 23من المعاهدة المذكورة عن كل مستعمراتها السابقة.

نصت المعاهدة على أنه (إذا لم تتمكن الدول الأربع من الوصول إلى اتفاق حول تصفية أي من هذه الأراضي خلال سنة من تطبيق معاهدة السلام فان الموضوع يحال إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لاتخاذ توصية بشأنه وتوقع الدول الأربع على قبول التوصية وعلى اتخاذ التدابير الكفيلة بتطبيقها).بالفعل لم تتمكن الدول الأربع من الوصول إلى اتفاق خلال سنة واحدة لذا أحيلت قضايا المستعمرات الإيطالية إلى الأمم المتحدة في 1948/12/25م.

في الدورة الثالثة صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على عدة اقتراحات بشأن إرتريا من ضمنها اقتراح لتقسيم إرتريا بين السودان وإثيوبيا وفشلت جميع تلك المقترحات في الحصول على الأغلبية المطلوبة.

وفي الدورة الرابعة شكلت الأمم المتحدة لجنة لتقصي الحقائق وتقديم توصيات لحل القضية وهذه اللجنة كانت مكونة من خمس دول هي: (بورما، جنوب أفريقيا، النرويج، غواتيمالا، باكستان) إلا أن اللجنة عادت وهي تحمل أراء متناقضة وقدمت مقترحات متعارضة.
ناقشت الأمم المتحدة جميع المقترحات في الدورة الخامسة وبعد مداولات تقدمت 14 دولة في مقدمتها الولايات المتحدة بمشروع قرار يقضي بإقامة اتحاد فدرالي بين إرتريا وإثيوبيا حيث فاز القرار 390أ في 1950/12/2م.

أوصت الجمعية العمومية للأمم المتحدة بموجب هذا القرار بأن إرتريا تشكل وحدة تتمتع بالحكم الذاتي متحدة فدراليا مع إثيوبيا تحت سيادة العرش الإثيوبي وتتمتع الحكومة الإرترية بالسلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) التي تتعلق بالشؤون الداخلية.

في 1951/5/9م وصل إلى إرتريا السنيور إينزو ماتينزو الذي أوفدته الجمعية العامة للأمم المتحدة مندوبا عنها في إرتريا وهو بوليفي الجنسية أوكلت له مهمة صياغة الدستور الإرتري.

بتأريخ 1952/8/28م سلمت الإدارة البريطانية السلطة رسميا إلى الحكومة الإرترية ورفع العلم الإرتري الذي صممه البرلمان الإرتري وبموجب القرار الفدرالي الصادر عن الأمم المتحدة والدستور الإرتري المقر من البرلمان، أصبح لإرتريا سلطتها التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وقوات أمنها الداخلي.

في 1952/12/12م ألقى مندوب الأمم المتحدة تقريره النهائي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وأعلن فيه انتهاء مهمته في تطبيق الاتحاد الفدرالي بين إرتريا وإثيوبيا.

الظاهر أن الاتحاد الفدرالي لم يسر كما كان مخططا له، بل أخذ مجرى آخر، وفي ذلك يقول محمد سعيد برحتو في كتابه نحو ميثاق للتحرر الوطني واصفا مرحلة الاتحاد الفدرالي (وما أن أجليت القوات البريطانية عن إرتريا 1952/9/15م لإقامة الاتحاد الفدرالي بين البلدين تنفيذا لقرار الأمم المتحدة، انفردت إثيوبيا بإرتريا وبدأت تخنق الاتحاد الفدرالي الوليد وسارعت بالعمل على تخريب الاقتصاد الإرتري ونشر البطالة وتشريد العاملين، وشرعت في قمع وتكميم الأفواه ومصادرة الصحف المحلية ومنع الصحف الأجنبية، ومنعت المدارس من تدريس اللغتين الوطنيتين العربية والتجرينية وفتحت السجون أبوابها ونصبت المشانق، ثم حلت الأحزاب السياسية وكافة النقابات والاتحادات المهنية، وانشأت جهازا بوليسيا مسلحا بأسلحة الفساد والإرهاب ومؤيد بقضاء خاص حتى جاء يوم 1962/11/14م الذي أصدر فيه الإمبراطور هيلي سلاسي مرسوما يعلن بمقتضاه التنكر الرسمي لقرار الأمم المتحدة وإلغاء النظام الفدرالي رسميا، فأسقط العلم الإرتري وألغي الدستور وحل البرلمان وطردت الحكومة.. واستبدل ذلك كله بحاكم عسكري معين من قبل أديس أبابا ومدعوم بجيش الاحتلال.

النضال السياسي من اجل الاستقلال:

للوقوف على النضال السياسي الإرتري الذي خاضته الحركة الوطنية الإرترية لابد من الرجوع إلى بداية الوعي السياسي الإرتري الذي بدأ يتبلور مع قيام الأحزاب السياسية والكيانات النقابية.

كان تكوينأول لتجمع سياسي إرتري يضم المسلمين والمسيحيين عام 1941م في العاصمة اسمرا وكانت قيادة هذا التجمع تتكون من عدد متساو من المسيحيين والمسلمين 12 شخصا ستة من كل طائفة وأطلق على هذ التجمع اسم (جمعية حب الوطن) وقد حققت هذه الجمعية بمرور الزمن مكاسب أهمها إلغاء قانون التمييز العنصري الذي فرضته السلطات الإيطالية، كما ساهمت في نشر التعليم الأهلي، بجانب أنها استطاعت أن تفرض نفسها حركة سياسية واجتماعية تنادي بوحدة الإرتريين وحقهم في الاستقلال الوطني.
هذه الجمعية لم تصمد طويلا فقد طالتها يد الإثيوبيين بالترغيب والترهيب حتى تنازلت عن أهم مبادئها وهو الاستقلال الكامل. وأخير حدث الانشقاق الشهير الذي حدث في اجتماع (بيت قرقيس) في اسمرا في عام 1946 محيث نادى بعض أعضاء الجمعية من المسيحيين بالوحدة مع أثيوبيا في حين تصدي لهم وطنيون آخرون منهم عبد القادر كبيري، وإبراهيم سلطان، وحقوص ابرها، وقد انتهى الاجتماع بتطويق مجموعة مسلحة من حزب الاتحاد الموالي لإثيوبيا ووجهت لهم إنذار بارتكاب مجزرة مالم ينصرفوا دون عرض مقترحاتهم بشأن الاستقلال.

كان حزب الوحدة مع أثيوبيا الذي سبق انشاؤه انشقاق جمعية حب الوطن حيث تعود نشأته إلى 1941/5/5م ولكن اتخذ شكله الرسمي الفعال بعد انضمام بعض قيادات (جمعية حب الوطن) إليه 1946م وكان مقره اسمرا وسكرتيره العام (تدلاباريو) وأهدافه تتلخص في المطالبة بالوحدة مع إثيوبيا وكان يتمتع بالتأييد المادي والمعنوي من الحكومة الإثيوبية والكنيسة القبطية.

حزب الرابطة الإسلامية:

تأسيس هذا الحزب في 1946/12/4م برئاسة السيد بكري الميرغني وأصبح الشيخ إبراهيم سلطان سكرتيرا عاما له واتخذ حزب الرابطة من مدينة كرن مقرا له وكان أهم أهدافه الدعوة إلى وحدة إرتريا واستقلالها الفوري، وإذا تعذر ذلك قبول الوصاية البريطانية لمدة عشر سنوات تمنح إرتريا بعدها الاستقلال ولكن في فترة لاحقة تراجعت الرابطة عن الاقتراح الثاني بعد أن رأت مناورات بريطانيا، واكتفت بالمطالبة بوصاية الأمم المتحدة إذا تعذر الاستقلال الفوري.

كان أعضاء الرابطة من المسلمين في المناطق الإسلامية، غير أن كل من الاستخبارات البريطانية والاثيوبية عملت على اختراق الرابطة الإسلامية من أجل كبح اندفاعها نحو الاستقلال فأنشق عنها عام 1947م على أسس إقليمية تياران، الأول كان يتمثل في الحزب الوطني الإسلامي (مصوع) الذي نادى بالاتحاد فيدراليا مع أثيوبيا، والثاني الحزب الإسلامي للإقليم الغربي في إرتريا الذي كان ينادى بمنح الإقليم الغربي من إرتريا الاستقلال بعد فترة وصاية بريطانية.

• الحزب التقدمي الحر تأسس في فبراير عام 1947م بمدينة (عدي قيح).

• الحزب الموالي لإيطاليا تأسس في سبتمبر عام 1947م في العاصمة (اسمرا).

• رابطة المحاربين القدامى تأسست في ابريل عام 1947م وكان أعضاؤها من المسلمين والمسيحيين من الجنود الإرتريين الذين كانوا يقاتلون في صفوف الجيش الإيطالي.

بجانب هذه القوى السياسية كانت هناك أحزاب فكرية إيطالية معترف بها مثل الحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي والحزب الليبرالي والحزب الجمهوري.

من هذا الوعي السياسي الناضج نبع النضال السياسي في هذه الفترة العسيرة المتعثرة من تأريخ إرتريا وقد بذلت هذه الأحزاب جهدا لا يستهان به.

شهدت السنوات الستة من عام 1946-1952م صراعات سياسية حادة واصدرت الأحزاب السياسية صحفها الخاصة وأهمها صحيفة الاتحاد وجريدة صوت الرابطة، والاتحاد والتقدم، ومجلة المنار الأسبوعية وكلها كانت تصدر بالعربية والتجرينية، فأصبحت منبراً للأقلام الناشئة تتبارى لتأييد وجهة نظر معينة أو معارضتها بأسلوب ما، وانفجر الشعب يعبر عن مشاعره وآرائه بمختلف الوسائل، كالمظاهرات، والمنشورات، والملصقات الاعلانية، والصحف، والندوات، والمحاضرات، وأحيانا بالعنف إذا اقتضت الحاجة، وهي فترة بحق اتسمت بالحيوية والنشاط، ونستطيع أن نلخص من خلال تفحصها ودراستها أهم إنجازات الحركة الوطنية في نضالها السياسي على الآتي:-

1. حافظت على هوية و وحدة الشعب الإرتري أرضاً وشعباً وكانت تنادي في الداخل والخارج بان إرتريا غير قابلة للتجزئة.

2ـ واجهت الحركة الوطنية الإرترية كل مؤامرات إثيوبيا وتهديداتها ولم تتردد تلك القيادات في تقديم التضحيات تمسكاً بالمبادئ ولعل استشهاد الزعيم الوطني عبد القادر كبيري على أيدي مجموعات تعمل لحساب إثيوبيا قبل سفره إلى الأمم المتحدة خير دليل على ما كانت تواجهه قيادات الحركة الوطنية من إرهاب.

3. نجحت الحركة الوطنية في إعطاء الصراع الإرتري الإثيوبي طابعا دوليا بالرغم من أن الحركة الوطنية لم تحقق مطلبها الأساسي ”الاستقلال” إلا أنها وبعد تطبيق القرار الفدرالي لم تستسلم وناضلت للحفاظ على حقوق الإرتريين التي أقرها مشروع الاتحاد الفدرالي.
بعد تنفيذ القرار الفدرالي استمرت إثيوبيا في إلغاء الصيغة الفدرالية التي أعلنت بصورة رسمية من جانب واحد ففي 1962/11/14م تم إلغاء الفدرالية بحجة عودة إرتريا إلى أمها (المزعومة) إثيوبيا. وهكذا اعتبرت إرتريا منذ ذلك الوقت محافظة إثيوبية حتى نالت الاستقلال عام 1993م.

ميلاد الثورة الإرترية:

حركة تحرير إرتريا:
وجدت الأحزاب الإرترية متنفسا في ظل الادارة البريطانية، فخاض الشعب الإرتري في فترة تقرير المصير نضالا سياسيا لانتزاع حقوقه من يد المستعمر، إلا أن كارثة الاتحاد الفدرالي التي حلت بإرتريا بمؤامرة من الدول الكبرى (امريكا وبريطانيا) حالت دون الحريات التي كانت متاحة لممارسة النشاط السياسي، بجانب ذلك قامت اثيوبيا بتقويض بنود الاتحاد الفدرالي والتدخل في الشؤون الإرترية الداخلية والشروع في هدم مشروع الاتحاد الفدرالي والغاء مظاهر الدولة الإرترية من لغة وعلم وشارات وغيرها من مظاهر استقلالية الكيان الإرتري وتميزه عن أثيوبيا التي كانت موغلة في التخلف، مما أدى ذلك إلى التفكير في شكل آخر من اشكال النضال، فتأسست حركة تحرير إرتريا في مدينة بورتسودان السودانية بقيادة محمد سعيد ناود الذي كان يعمل موظفا في تلك المدينة في العام 1958م.

قامت الحركة بتنظيم نفسها في داخل إرتريا على شكل خلايا سباعية عرفت فيما بعد بالخلايا السباعية، كانت الحركة تهدف لإحداث ثورة داخلية بقيادة البوليس الإرتري.

الكفاح المسلح - جبهة التحرير الإرترية:
خرجت من إرتريا أهم القيادات السياسية التي كانت تنادي بالاستقلال، بعد أن ضاق بها المقام في إرتريا، حيث خرج الزعماء الوطنيون امثال ادريس محمد آدم رئيس البرلمان الإرتري، وابراهيم سلطان أمين عام حزب الرابطة الإسلامية، حيث استقر المقام بهؤلاء وغيرهم في القاهرة بمصر، واتجه جل تفكير الإرتريين في كل مكان في المواجهة المسلحة مع اثيوبيا التي أكملت اجراءاتها لضم إرتريا إلى اثيوبيا قسرا.

بدأت شرارة حركة الثورة المسلحة تثور في ثلاث دول أساسية هي إرتريا، والسودان، ومصر، ففي إرتريا كانت بعض الخلايا السباعية في السجون تحت التعذيب بعد ما انكشف امرها والكل في ضيق فكانت المبادرات الثورية في إرتريا مستمرة ومتجهة نحو اقليم القاش حيث كان يقيم مفجر الثورة الإرترية الشيخ حامد ادريس عواتي الذي كان تحت مراقبة البوليس لمواقفه الوطنية.

كانت القاهرة في ذلك الوقت الشعاع الثوري حيث الطلاب الإرتريون الذين كانوا أكثر حرية ونشاطا ووعيا بما يجرى في بلدهم بجانب الزعماء الوطنيين، فقام الطلاب الإرتريون بتكوين جبهة التحرير الإرترية بقيادة الزعيم ادريس محمد آدم. أما الإرتريون في السودان فكانوا المحطة الوسطى بين المحطتين وكانوا أكثر نضجا وأكثر تأهيلا لقيادة العمل الثوري المسلح حيث كانت المجموعة الإرترية في الجيش السوداني قررت خوض الكفاح المسلح في إرتريا وكانت بانتظار احالة آخر افرادها للمعاش.

بدأت المحطتان الخارجيتان القاهرة والسودان في التواصل للترتيب للقيام بالعمل الثوري المسلح، وبينما القاهرة وكسلا السودانية في طور الترتيب، بادرت دائرة العمل الأساسية بقيادة الثورة المسلحة، وقبل قائد الثورة قيادة الفوج الأول من الثورة، فخرج مع مجموعة من زملائه بلغوا حوالي عشرين فردا وعدد قليل من البنادق العتيقة، وفي يوم 1961/9/1م وقعت أول مواجهة مع العدو الإثيوبي ليخلد ذلك التأريخ اعلان الثورة الإرترية.

تلقى الثوار أول دفعة من الذخائر من دائرة السودان كانت عبارة عن 75 طلقة دفع ثمنها الإرتريون في الجيش السوداني، بجانب 7 بنادق قديمة من دائرة العمل الأولى إرتريا، كما التحق بالمجموعة الأولى عدد من المقاتلين الذين عملوا في الجيش السوداني، هكذا بدأت أولى شرارة الثورة الإرترية وانطلقت متحدية كل الصعاب.

كانت للثورة الإرترية حاضنتين من الإرتريين المقيمين بالخارج ساهمتا في تطوير العمل الثوري المسلح هما: السودان الذي خرجت منه فكرة حركة تحرير ارتريا، ثم شكل الإرتريون في الجيش السوداني سندا أساسيا للثورة المسلحة حيث الدعم اللوجستي والخبرة القيادية للجيش، كما أن الإرترين بالقاهرة كانوا العقل السياسي المدبر لشؤون الثورة والاعلام بها والدعاية لها وتسويقها وسط الإرتريين والمتعاطفين معهم على المستويين الرسمي والشعبي.

استقبلت الجماهير العربية الثورة الإرترية واحتضنتها فقد سبقت كل من جمهورية مصر والمملكة العربية السعودية شقيقاتهما من بقية الدول العربية بأن قدمتا برامج إذاعية موجهة ومختصة تعرف بإرتريا وقضية الشعب الإرتري الذي ألحق ظلما ودون إرادته بأثيوبيا، وكانت كل من مصر والسعودية قد دافعتا بشدة عن مطالب الشعب الارتري عندما كانت أمام الأمم المتحدة أُسوة بما قاما به تجاه كل من الصومال وليبيا وعندما تآمرت الدول الكبرى على الحق الارتري آثرت الدولتان مساندة الشعب الارتري من أجل تقرير مصيره سياسيا وإعلاميا وماليا، حيث منحت مصر ركنا إذاعيا للسيد ولدآب ولد ماريام من القاهرة، بينما خصصت المملكة العربية السعودية برنامجا اذاعيا في إذاعة نداء الإسلام موجه للشعب الارتري، كانت مصر والسعودية أول بلدين يمنحان الإرتريين ركنا إذاعيا واستمرت السعودية على دعمها للثورة الإرترية والشعب الإرتري بينما كان يغلب على الدعم المصري المصلحة المصرية التي كانت تتحكم على الدعم المصري وعلى رأسها العلاقة مع أثيوبيا، لكن مع ذلك ظلت مصر وما تزال قبلة الطلاب الإرتريين.

تطورات جبهة التحرير في عقدها الأول:

شكل العقد الأول من عمرها الانطلاقة ومرحلة التحدي الكبرى، وانصب جل اهتمام الثوار في الداخل الإرتري بإدارة المعارك بكادر بشري قليل وامكانيات عسكرية محدودة، لكن الرواد الأوائل كانوا على حجم المسؤولية التي تحملوها والدور المنوط بهم فتصدوا للعدو بإمكاناتهم المحدودةوبإدارة صحيحة لمواردهم البشرية والمادية، فخاضت الثورة معاركها الأولى وحققت الانتصارات التي أهلتها لنيل ثقة الشعب الإرتري فتدافع الشباب للالتحاق بالثورة، كما بدأت مساعدات المتعاطفين مع الثورة تصل إلى الثوار من العتاد والتدريب العسكري، فتلقت مجموعة من كوادر الجبهة التدريب العسكري المتقدم في عدد من الدول العربية وكانت سوريا السباقة، حيث ثم تدريب أول دفعة ضمت 21 ضباطاً وذلك في عام 1963م، بجانب السلاح الذي أصبح يأتي من مصادر مختلفة.

وجدت الثورة في فترة وجيزة عدداً كبيراً من الكادر البشري المقاتل، وقررت الانتشار في كل المناطق التي تستطيع الوصول إليها وقسمت إرتريا إلى مناطق عسكرية. في نهاية شهر مايو من عام 1965 تأسيا بالنظم العسكرية التي عادة ما تقسم المهام العملياتية إلى مناطق عسكرية منعا للتصادم بين الوحدات القتالية وتحديد المسؤوليات بين الوحدات العسكرية المتجاورة وكانت فكرة المناطق العسكرية في الأساس قد طرحت للمجلس الأعلى من قبل الجنود اللذين التحقوا بالثورة الارترية من الجيش السوداني وجلهم من ضبط صف وعلى راسهم المناضل محمد ادريس حجاج أول قائد عام لجيش التحرير بعد استشهاد القائد البطل حامد ادريس عواتي، والمنضال عمر حامد ازاز قائد المنطقة الثانية، والمناضل طاهر سالم، و المناضل محمد عمر عبد الله (ابو طيارة)، قائد فصيلتي المساعدة (الاحتياط والاسناد والدعم)، والمناضل عثمان محمد ادريس (ابو شنب) والمناضل محمد إبراهيم بهدوراي، والمناضل عمر محمد علي دامر، قائد أول هيئة تدريب في جيش التحرير، والمناضل آدم محمد حامد قندفل، مما يدل على أن هذه المجموعة من ضباط صف من الرعيل الأول كانت مؤهلة لتطوير الفعل الثوري.

ومع ذلك لا يمكن أن ننفي بأن المجلس الأعلى الذي كان يقود الثورة الارترية حاول نقل تجربة الثورة الجزائرية التحررية بحكم وجوده في القاهرة. قسمت إرتريا إلى مناطق عسكرية لكن عدم ادارة المناطق العسكرية بالشكل الصحيح أدى إلى بروز بعض التناقضات أدت إلى فشل التجربة، الأمر الذي ساق إلى بروز الرواسب السيئة للتجربة مما انعكس بأثر رجعي سلبا على العقد الثاني للثورة.

العقد الثاني من عمر جبهة التحرير:

يعتبر العقد الثاني للثورة الإرترية عهد الانتصارات وتحرير المدن، وتطورامكانيات الثورة بشريا وماديا، ففي فترة السبعينات وصلت الثورة الإرترية إلى كل العالم خارجيا وحققت الانتشار السريع داخليا وتوجت ذلك بتحرير حوالي 95% من مساحة إرتريا بما فيها أهم المدن الكبيرة ولم يتبق إلا القليل لإعلان تحرير كامل التراب الإرتري، إلا أن الأيام كانت تخبئ في طياتها ليالي حالكات.

عقدت جبهة التحرير الإرترية في الفترة من 1970م–1975م مؤتمرين وطنيين إلا أن المؤتمرات لم تعالج مشكلة الثورة وما افرزته من توجهات طائفية وجهوية، فانشقت الثورة على نفسها، وخرج منها تنظيم قوات التحرير الشعبية، ثم انشقت قوات التحرير الشعبية وخرجت منها الجبهة الشعبية.

اشتعلت الحرب الأهلية بين الثوار واكلت الثورة بنيها، وبنهاية حقبة السبعينات كانت جبهة التحرير الإرترية الأم قد وصلت إلى مرحلة الشيخوخة بسيطرة حزب العمل الشيوعي الذي عمل على تطهير الثورة من كل الوطنيين من المؤسسين ممن لايعتنقون الفكر الماركسي تحت ذرائع وحجج تطهير الثورة من الرجعيين على حسب زعمه فشن حربا بلاهوادة على المجموعات المتدينة والعروبية داخل الثورة، ورفع شعارات معادية لكثير من الدول العربية الداعمة للشعب الارتري كما سيتضح لنا لاحقا، وهكذا انهارت جبهة التحرير الإرترية على يد الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا بالتحالف مع الجبهة الشعبية لتحرير تجراي الإثيوبية.

العقد الثالث من عمر الثورة الارترية:

بنهاية السبعينات كان قد تقرر من جهات داخلية وإقليمية ودولية التخلص من جبهة التحرير الإرترية واقصائها من ميدان الفعل في الساحة الإرترية عسكريا وذلك بحجة تنكرها للدعم العربي واعتناقها للفكر الماركسي اللينيني الذي كانت تحاربه دول الإقليم وعلى راسها السودان الذي كان يخوض صراعا داميا مع الحزب الشيوعي السوداني، وكذلك مصر،والعراق، وجميعها كانت في صراع مفتوح مع الحزب الشيوعي في بلدانها، وفي صراع خفي مع الاتحاد السوفييتي الذي كان يسعي للتمدد في الإقليم لمجابهة النفوذ الأمريكي في المنطقة.

عملت أمريكا على استعادة نفوذها في اثيوبيا من خلال جبهة التحرير من أجل تنظيم صفوف بقايا النظام الملكي، غير أن تشنج حزب العمل ومحدودية افقه الاستراتيجي دفعه لرفض أي تعاون مع هذا الطرح، بل كانت الطامة الكبرى في خطاب عبد الله سليمان مسؤول العلاقات الخارجية في جبهة التحرير الارترية في تأبين كمال جمبلاط حين قال: بإمكانية حل القضية الارترية بالتفاهم مع النظام الشيوعي الذي وصل إلى سدة الحكم في أثيوبيا، مما دفع كثير من الأنظمة العربية لتحجيم دعمها عن حزب العمل بل أوقفت وحجمت الغطاء السياسي الذي كانت توفره للثورة الارترية.

سعت كل من أمريكا وحلفائها في إرتريا وبقايا النظام الامبراطوري في أثيوبيا حتي لا يكون لها ـ أي جبهة التحرير ـ أي دور سياسي في إرتريا وقد تم تنفيذ هذا العمل بنهاية 1980م، وبداية 1981م، حيث تم اجلاء جبهة التحرير من الساحة الإرترية بكل عدتها وعتادها في فترة وجيزة، اخلى خلالها حوالي 20 الف مقاتل ساحة القتال في إرتريا ودخلوا الأراضي السودانية بكامل عتادهم، بجانب الآلاف من المليشيات الشعبية الذين تفرقت بهم السبل داخل إرتريا والتحق غالبيتهم بالجبهة الشعبية لتحرير إرتريا التنظيم الذي انفرد بالساحة في إرتريا، وفي ذلك يقول صلاح الدين حافظ في كتابه صراع القوى العظمى حول القرن الافريقي (أن جبهة التحرير كانت تملك في مطلع عام 1978 عدد 20 ألف مقاتل بينما لم يتجاوز عدد مقاتلي الجبهة الشعبية عن 10 آلاف عنصر). أغلبهم من المسيحيين الذين وفدوا إلى الثورة بعد عام 1975 وكثير من التحليلات تقدر عدد جيش التحريرعند بلوغه الحدود السودانية متقهقرا أمام تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا وجبهة تحرير شعب تجراي الإثيوبية كان في حدود 45 ألف جندي فقد ذكر قادة جيش التحرير في ذلك الوقت أن الجيش الذي دخل الأراضي السودانية كان في حدود 18 الف جندي، بينما بعض المجموعات من المغاوير وغيرها لم تبارح مواقعها داخل إرتريا بجانب 25 ألف جندي من المليشيات الشعبية الأكثر تمرسا في حرب العصابات لكون أغلب قادة المجاميع والفصائل والسرايا فيها هم من الرعيل الأول الذي فجر الثورة وخاض معها مرحلة حرب العصابات باقتدار وكانوا يعرفون (بالعرمم) لكون الواحد منهم يشكل بمفرده مفرزة قتالية يقوم بتنفيذ المهام القتالية التي تكون في الغالب من مهام المفارز في وحدات الفدائيين، وقد صمدت هذه المليشيات أمام تحالف تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا وجبهة تحرير تجراي الأثيوبية ولم تضطر للانسحاب إلى الحدود السودانية ولم تلق سلاحها.

قامت الحكومة السودانية بعد دخول جيش التحرير الإرتري إلى الأراضي السودانية بمحاصرة الجيش ومصادرة ما يزن حوالي 100ألف طن من الأسلحة المختلفة جمعها جيش التحرير الإرتري من العدو الأثيوبي خلال 20 عاما من حرب التحرير التي بدأها بعدد محدود من البنادق العتيقة أقل من أصابع اليدين، ومما لاشك فيه أن وزر هذا الانهيار تتحمله قيادة المجلس الثوري من كوادر حزب العمل التي كانت منشغلة بتناقضاتها الثانوية ولم تكن بمستوى إنجازات جيش التحرير الذي كان قاب قوسين من إنجاز تحرير كامل التراب الإرتري في عام 1977م وقد فقد جيش التحرير هذا العتاد خلال يومين مما يؤكد كبر حجم المؤامرة وقوة عقدتها.

بعد دخول جبهة التحرير الإرترية الأراضي السودانية تفرقت أيدى سبأ واصبحت مجموعات وشراذم لا تقوى على المواجهة، وتحول أصدقاء الثورة الإرترية من الدعم والتعضيد للتوفيق بين الإخوة الأعداء، فعقدت العديد من الجلسات والمباحثات والمشاورات للتقريب بين الأخوة الأعداء، فضيعت الثورة الكثير من المكاسب، لكن في نفس الوقت انفردت الجبهة الشعبية بالساحة الإرترية وكسبت ثقة الشباب الإرتري الذي كان همه مقارعة الاستعمار فكان لها شرف تحقيق تحرير كامل التراب الإرتري والمصادقة على الاستقلال، إلا أن الشعب الإرتري حصد الشوك من هذا الانفراد، فقد انفردت الجبهة الشعبية بالدولة بعد الاستقلال وانعكس ذلك على عدم عودة اللاجئين ودخول البلد في صراعات مع الجوار حولها إلى وطن طارد وسجن كبير يحاول الكل الفرار منه.

هكذا بدأ الشعب الإرتري كفاحا مسلحا دام لثلاثة عقود حيث انتهي بتحرير كامل للتراب الإرتري وسقوط نظام الدرق الذي كان حاكما في إثيوبيا في 1991/5/25م.

وقد مر الكفاح المسلح الإرتري بمنعطفات وعقبات خلال تلك الفترة، لكن ذلك ليس مجال بحثنا هذا لذا نكتفي بهذه الإشارة إلى الكفاح المسلح الذي خاضه الشعب الإرتري.

نواصل بإذن المولى... في الجزء القادم

Top
X

Right Click

No Right Click