الإسياسية: من حلم إقامة دولة أكسوم وحكم الدولتين إلي انهيار الخيال وحكم الفرد - الحلقة الثالثة
بقلم الأستاذ: الحسين علي كرار
كيف أقصت الاسياسية قوات التحرير: بعد الانشقاق الذي حصل في القيادة العامة وتكوين قوات التحرير الشعبية عقدت هذه مؤتمرها
بسدحو عيلا في دنكاليا وقد ظهر بداية انشقاق مبكر داخلها ولعدم الاتفاق وتباعد أطرافها قد تم تقسيمها إلي ثلاثة إدارات عسكرية
بالإضافة إلي البعثة الخارجية التي كان يرأسها عثمان صالح سبي ولكن الحرب التي فرضتها عليهم الجبهة أخفي مؤقتا هذا الصراع ثم جاءت الأحداث المتصارعة في أثيوبيا وسقوط الإمبراطور ومجئ منجستو وقتل الجنرال عندوم و لجوء التجرنية الكبيرإلي قوات التحرير الشعبية الذي قلبوا به معادلة التنظيم في مدة وجيزة بعددهم وثقافتهم وخاصة أن هذا التنظيم كان يمثل توجه سبي العربي مقابل التوجه اللينيني النامي داخل الجبهة والذي هرب منه ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فنمت داخل قوات التحرير الإسياسية الجاهزة البرنامج والكادر مع نمو آخر داخل التنظيم هو التوجه الماوي الذي تحالف مع الإسياسية للانقضاض علي مؤسس التنظيم عثمان سبي، فبداية التنظيم أصلا كانت شائكة، وهذا ما سهل للاسياسية الانقضاض علي كامل التنظيم علي مراحل وعندما زار سبي الميدان وجد عجلات السيارة التي هيئها مقلوبة، فرجع ساخطا لأن اريتريا ذو الوجه العربي المتفاهم خصوصية التقرنية والتي كان يعمل من أجلها تحولت إلي ارتريا التجرنية لا غير في تنظيمه، وكل الدعم الذي أرسله لتقوية التنظيم تقوّت به الاسياسية فعمد جاهدا إلي إرسال الطلاب من الخارج للميدان عساه يعيد الخلل في كفة الميزان ولكن التقارب الفكري بين جناح رمضان واسياس استوعب كل الطلبة الذين أرسلهم سبي وبدا ظاهرا استحالة التعامل مع العسكريين وأقروا عزله فعليا و بدؤوا في إعداد هم لمؤتمرهم التنظيمي وانقطعت الصلة الودية بينهم فعمد سبي ومعه مكاتبه الخارجية إلي تأسيس تنظيم جديد ولجأ إلي القيادات التقليدية القديمة أبو طيارة وأبو عجاج وهو ما كان يطلق علية اسم الإدارية رقم 3 بنفس اسم قوات التحرير الشعبية فإذا كان في المرة الأولي أخرج التنظيم بهذا الاسم من الشرق عبر البحر الأحمر فهذه المرة بنفس الاسم أخرجه عبر الغرب بحدود السودان هذا التخبط للأطراف الإسلامية هو الذي أفاد الإسياسية لتبسط قبضتها الكاملة علي قوات التحرير الشعبية ومن ثم إقصاء سبي من المعادلة داخل التنظيم وهو الهدف الأشق والأصعب وبذلك حققت الاسياسية هدفها المعجزة للسيطرة وأصبح اسياس هو الآمر والناهي وبدأ يعدّ برنامجه السياسي ويعقد الاجتماعات الدورية للكوادر المتقدمة في التنظيم مع الزخم النوعي المتدفق ليناقشوا برنامجه ورؤيته وتحليله السياسي ومستقبل الحكم وهذا ما كانت تفتقده بقية الفصائل وأخطر ما كان في تلك الاجتماعات حسب رواية أحد الحضور مبدأ القوميات واللغة الأم وتقسيم الشعب الارتري إلي شعب حضري يستحق السلطة وشعب بدوي لا يستحق السلطة وكان النقاش حاميا حسب الراوي بين اسياس وسليمان هندي في اللغة العربية المرفوضة من إسياس وبقية توجهاته السياسية ولكن مجموعة الجناح الذي كان ينتمي إليه دعمت وأيدت تحليلات أفورقي وقد هدد الأمن لهندي لجراءته ومعارضته للمفكر الحزبي والأب الروحي لهم ولكن الأمور لم تقف عند هذا الحد وإنما قدم اسياس في التحليل السياسي للشعب الارتري بأن سكان المنخفضات الارترية والساحل وسكان دنكاليا ومنطقة الساهو في المرتفعات يعتبر سكان هذه المناطق ارتريون أصليون ولكن حياتهم بدوية ورعاة لا يصلحون في الحكم، وهناك حضر داخل مدينة مصوع هم ارتريون من أصول أجنبية وهم متحضرون وبإمكانهم المشاركة في الحكم وكان يري إن أهل الحكم هم أهل الحضارة التجرنية ومرة أخري جعل هذا التحليل وجها لوجه بينه وبين سليمان هندي في نقاش حاد وانحازت فيه مجموعة رمضان لصالح هذا التحليل أيضا وكان تبريرهم كما قال أنهم كانوا يرون هذا تحليلا علميا وحملوا فيه الخطأ لهندي وبعد هذه المناقشات الحادة شعر سليمان هندي بالكرت الأحمر يلوّح أمامه لتجاوزه المحظورات والخطوط الحمر وكانت الاسياسية قد استوفت شروطها بعد أن أقروا مبدأ القوميات ومبدأ اللغة الأم واعتبروا العربية لغة الرشايدة فقط ومقابلها أوجدوا اللهجات لتطويرها وكتابتها مع العلم أن اللغة العربية هي لغة التفاهم بين المسلمين ولكن الاسياسية أرادت للمسلمين أن تكون لغة التجرنية هي لغة التفاهم بينهم بدل العربية بواقع إثباتها علي الأرض ونال هذا التحليل الموافقة من جناح رمضان لقوات التحرير وبهذا الحسم السياسي داخل التنظيم دفعت الاسياسية كل بنودها السرية إلي العلن وجعلت التنظيم ملكها وانتخبت رمضان محمد نور رئيسا لها في مؤتمرها الأول واختفي أفورقي خلفه ولكن في أول خطوة عندما التقي مع قيادة جبهة التحرير الارترية في دمشق ووقع معها علي بعض الاتفاقيات بدون أن يستأذنها رأت الاسياسية ذلك خطرا وتجاوزا لا يمكن قبوله والسماح به فعزلته دون عناء ولا حساب، لأنها أتت به أصلا للتجميل، واستطاعت بعد تحقيق هدفها تصفية المجموعة المتبقية من جناح رمضان وجردتهم بالتصفية والترهيب والترغيب والتجميد والهروب وحولتهم إلي مجرد أعضاء في التنظيم يتلقون أوامرها وعندما تأكد لسليمان هندي إنه سيقف فوق اللغم المجهول عمد إلي الهرب إلي السودان وهكذا كانت الخاتمة المؤلمة لهذا الجناح الآخر ولم يكلفها تصفية قوات التحرير الشعبية كثيرا لأن أجنحتها كانت متنافرة ومتصارعة فيما بينها وهكذا قضت عليهم فردا فردا بسهولة.
وفي زمن قياسي بني عثمان سبي تنظيمه الجديد قوات التحرير الشعبية وبني جيشا قويا مسلحا بأحدث الأسلحة شاركت هذه القوات في تحرير مدينة أغردات مع جبهة التحرير الارترية وأسقطت طائرة أثيوبية وأسرت قائدها اليمني الجنوبي وحصل الخلاف مرة أخري بين الجبهة والقوات بشأنه وبشان إدارة مدينة أغردات ولكن الجبهة وقعت مع قوات التحرير اتفاقية الخرطوم التي كان الهدف منها توحيد التنظيمين ولكن صقور الجبهة لم يعجبهم ذلك الاتفاق، كذلك أفورقي كان يخشي هذا الاتفاق وشن عليه هجوما شديدا ومد يده لجناح الصقور القوى داخل الجبهة وحصل اللقاء بين توتيل واسياس في منطقة حقات استعرض فيها قوّته علي الجبهة جاءهم بدباباته وأسلحته الثقيلة إما خوفا منهم وإما إعلامهم بأنه هو الأقوى وأن صوته هو الأعلى و سحبت الجبهة من اتفاقية الخرطوم وحصل التقارب مع الاسياسية وشرعت في تصفية قوات التحرير الشعبية مرة ثانية علي الرغم أن في مؤتمرها الثاني كانت أعلنت نبذ الحروب الأهلية ولكنها قامت بهجوم مباغت علي معسكرات قوات التحرير الشعبية في منطقة حشنيت راح ضحيته الكثيرين من المناضلين هذه الحروب القذرة كانت ماساتنا الحقيقة وكانت الاسياسية أول المستفيدين من هذه التصفية لأنها كانت معركتها هي مع سبي ولكن تلقتها كهدية مجانية من جانب الجبهة وأعتقد أن الجبهة قامت بذلك الهجوم المباغت لعدة عوامل يمكن إيجازها علي النحو التالي:
أصبحت قوات التحرير الشعبية عامل جذب لجنود قوات جبهة التحرير الارترية المتذمرين من إدارة الجبهة وخاصة الجنود القدماء الذين أغفلتهم وأصبحت تهتم أكثر منهم بكادر الحزب النوعي الرقعة الأرضية التي بسطت فيها قوات التحرير الشعبية وجودها كانت أساسا تحت سيطرة الجبهة و أصبحت القوات تتمدد في أماكن وجود الجبهة مما نتج عنه تقلص الأراضي التي تسيطر عليها الجبهة ورأت أن هذا التمدد للقوات يتم علي حسابها وكانت القوات تتجنب مناطق الالتماس مع الجبهة الشعبية الجناح القوي داخل الجبهة كان يري التقارب الايديولوجي بين الاسياسية الماوية والجبهة اللينينية أقرب لهم من التحالف البعثي الذي يقوده عثمان عجيب والتيار العربي الذي يقوده عثمان سبي داخل قوات التحرير وكانت خشيتهم من أن يتغلب عليهم هذا التيار العربي في المستقبل وخاصة معظم الاتجاه الإسلامي هو ذو ميول عربية من خلال هذه الأحداث نجد أن البيت الإسلامي كان ينهار بأيدي أبنائه بينما كان البيت المسيحي يبني بأيدي أبنائه وإذا كان حزب الإندنت هزم الرابطة الإسلامية وأتي بالوحدة مع أثيوبيا فإن أبناء الإندنت كذلك هزموا أبناء الرابطة الإسلامية الذين كانوا إمتداد لها مرة ثانية، وسلبوهم بيتهم الذي شيدوه بدمائهم، وفي الواقع هذه الحرب أضعفت الجانبين ونشرت التذمر الواسع في القاعدة الإسلامية العريضة حتي داخل الجبهة لما كانوا يرونه من خطورة الأسياسية المتطرفة عليهم وبعد هذه التصفية التي تعرضت لها قوات التحريرأصبح وجود ها في الساحة هامشيا ولكنها مع هذا انشقت إلي فصيلين قوات التحرير الشعبية بقيادة سبي و بقيادة احمد جاسر العسكرية واللجنة الثورية بقيادة عثمان عجيب وبعد اغتياله بقيادة أبو بكر محمد جمع ثم عبد القادر الجيلاني واستمرت الانشقاقات بين هذه الأجنحة حتي وصلت إلي التنظيم الموحد الذي كانت شتلاته من حدائق متعددة وقد وجد هذا التنظيم الدعم الكامل من احدي الدول العربية وقدمت له عتادا وموادا عسكرية من بينها أجهزة اتصال متقدمة محمولة علي عربات مدرعة تغطي معظم الأراضي الارترية وكانت قيادة التنظيم العسكرية تخشي أن تقع هذه العربات بأجهزتها في يد الجبهة الشعبية فتركتها في أماكن نائية بعد أن أفرغتها من الإطارات ولكن ها نحن المسلمون الذين نقتل أنفسنا ثم نبكي اتصل بعض الجنود والحراس الذين أرادوا إثبات البطولة للشعبية وأخبروها بمواقع عربات الاتصال فأحضرت لها الإطارات المناسبة والقيادة العسكرية للتنظيم لا تدري وذهبت عربات الاتصال ووقفت المساعدات من تلك الدولة هذه هي النهايات المؤسفة لواقعنا الإسلامي حتي وصل الأمر ليضرب الشخص تنظيمه الذي بناه وينتمي إليه بهذه الصورة العبثية.
ولكن هنا أريد أن أتوقف علي شخصية عثمان صالح سبي فهو كان شخصية غير عادية شخصية كاريزمية ديناميكية جريئة وهو من القادة الفعليين للثورة الارترية وإن تجاهلته الإسياسية فبأفعاله أنه في الظلام جبل فوق رأسه نار ولكن سبي مع هذه الشخصية القوية كانت له أخطاء كبيرة أضرت بالساحة الارترية وبالمسلمين خاصة ضررا كبيرا فأول انشقاق قاده ضد القيادة العامة لم يكن موفقا فيه وربما كان فيه الشئ الكثير من التهور فما أثبتته الأحداث داخل قوات التحرير فإن هذا الانفصال كان الدعامة الأساسية لبناء الإسياسية المتطرفة ولم يحقق من وراءه شيئ ذو معني فالصراع مع الجبهة التي هرب منها ربما كان أقل تكلفة وكان بالإمكان مصارعته داخل التنظيم الواحد لأن سبي تحالف في وقت لاحق مع قوات عوبل التي انشقت عن القيادة العامة ثم تحالف مع الجبهة ذاتها مقابل الجبهة الشعبية وكان هذا الانشقاق مدخل البوابة الأولي للانشقاقات المتتالية فأجبرته الأحداث بعد ذلك بالانشقاق عن الجبهة الشعبية ثم اللجنة الثورية، وبهذه الانشقاقات الكثيرة أضعف الساحة الإسلامية وهذا ما كان يقوله كثير من المسلمين، وترجع أسباب الانشقاقات في معظمها إلي شعور القيادات المنشقة عنه وهي عسكرية بأنه يتصرف فرديا في أمور التنظيم وهذه الفردية عنده كانت له أسبابها فسبي كان مرتبطا بمكاتبه الخارجية التي تعتبر الداعم الأساسي له ولكن ممثلين هذه المكاتب خلقوا لأنفسهم مراكز نفوذ في الدول التي يقومون بالتمثيل فيها فكانت لهم السلطة المطلقة في المكان والزمان كأنها حقوق ثابتة لهم فسلطتهم التي فرضوها عليه كانت لا تقبل النقل ولا تقبل التنازل ولا تقبل الإنابة وللأسف كان خاضعا لنفوذهم ولهذا لم يستقر علي تنظيم واحد ومن سلبياته أيضا كما يقول الكثيرون من كوادره أن الذين كانوا يحاربونه كانوا يتخندقون وراء أحزاب فهو لم يفكر بإنشاء حزب تصطف حوله كوادره بأسس وبرامج عمل واضحة لأن المنشقين عنه كانوا منظمين في أحزاب سياسية يعملون وفقها مهما كان لونها، كان ليبراليا وكان بمقدوره أن يجمع المجتمع الارتري قاطبة لاعتداله وكان الرجل الذي يقبل به الآخرون ولكنه لم يفكر في ذلك ومع هذا للرجل إيجابيات كبيرة في الساحة الارترية لا يستطيع حتي المكابرون أن ينفوها، فعند تأسيس جبهة التحرير الارترية كان بين أعضاء المجلس الأعلي الشعلة الوهاج للنضال كان له الدور الكبير في تأمين وفتح منافذ التسليح والإمداد والتدريب وهو كان صوت الثورة الارترية في الخارج والناطق باسمها كان يقارع النفوذ الأثيوبي علي الساحة الدولية و العربية و الأفريقية هو الذي قرع أبواب بيروت التي كانت مركز الشرق الأوسط الإعلامي حينها، فتح الإعلام اللبناني الحر الذي تناول القضية الحبيسة في الإعلام الدولي بإسهاب، ثم قام بأكبر أعمال لترجمة الكتب التي تتناول التاريخ الارتري عبر العصور وكذلك ألف كتابا موثقا عن التاريخ الارتري وأوجد المنح الدراسية لمئات الطلاب المحرومين عن التعليم بسبب الحرب وبسبب الرفض لسياسة التمهير التي اتبعتها أثيوبية وأنشأ اقوي جهاز تعليم للاجئين الارتريين الموجودين في السودان الذي دمرته الإسياسية الرافضة للغة العربية بعد الاستقلال وكانت من الأسباب الرئيسية لعدائها له وبهذا تركت شخصية سبي بصماتها علي الساحة الارترية مهما قيل عنها فإن أحدا لا يستطيع نكرانها.
وبعد وفاته إنتهي التنظيم الموحد وسلم للاسياسية بعد الإستقلال طائعا رافعا رايته البيضاء دون شروط لتنتهي بذلك صفحة قوات التحرير الشعبية بموت التنظيم ويقدّر له أن يستلم شهادة وفاته من الإسياسية في العاصمة الارترية أسمرا.