قوس القزح المفقود - الحلقة الأولى

بقلم الأستاذ: أحمد راجي ترجمة الأستاذ: ياسين محمد عبدالله المصدر: عواتي كوم

كان لدينا في يوم ما قوس قزح. كانت ألوانه نابضة بالحياة وكان يغطي امتداد الأفق كله. وكانت الأمطار، في بلدتنا الصغيرة، تهطل

بغزارة، ثم تتوقف لتعاود الشمس السطوع باستحياء محتجبة جزئياً خلف السحب. وكانت الشمس تغمز لنا نحن الأطفال، ويخيم وشاح من الألوان السحرية على السماء وتغمرنا نشوة كبيرة. كان ذلك منذ زمن بعيد. لقد مضى زمن طويل منذ آخر مرة رأت فيها بلدتنا قوس قزح. فبفضل أفران الطوب واحتراق الغابات وعوادم السيارات القديمة التي غطت مدينتا بضباب من الدخان لم يعد ممكناً للأطفال أن يكون لهم قوس قزح ولا للكبار أن يشاهدوا النجوم.

وقد أمر محافظ بلدتنا، واسع الحيلة دائماً، برسم قوس قزح على لوحة إعلانات ضخمة وتركيبها في الساحة التي كان يقام فيها مهرجان الحصاد السنوي وكان الأطفال منبهرين بها في البداية، ولكن سرعان ما بدأت اللوحة في التصدع وبهتت ألوانها تحت أشعة الشمس المحرقة وحينها أدرك الأطفال أنها لم تكن قوس قزح حقيقياً.

ماذا فعلنا بقوس قزحنا الحقيقي؟ وماذا تتطلب استعادته ؟

القضايا:
هل المسألة التي تواجه الذين يرغبون في التغيير في إريتريا تكمن في مجرد تغيير النظام الدكتاتوري أم إنها تضمن التعاطي مع مشكلات البنية اجتماعية ؟ بمعني أخر هل بامكان الديمقراطية أن تحقق معالجات أساسية وحاسمة للمشكلات الإريترية المعاشة، أم هي ضرورية لإحداث تغييرات تتعلق بعلاقات المكونات الثقافية للمجتمع الإريتري ؟ وهل نظام الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة يمثل فئة معينة في المجتمع الإريتري ؟ هل هو نظام قومية التغرينية أو (سكان المرتفعات) كما يقول علي سالم وآخرون ؟ أم هو دكتاتورية محايدة بلا أية روابط مع عرق بعينه ؟ وهل ينتهج النظام سياسة تهميش (إقصاء) متعمدة لغير الناطقين بالتغرينية من فئات المجتمع الإريتري ؟ وهل هناك لا مساواة جوهرية بين المجموعات الإثنية واللغوية في إريتريا فيما يتعلق بصناعة القرار السياسي والاقتصادي الثقافي؟ بمعنى آخر هل التظلمات التي تعبر عنها فئات ثقافية معينة في مجتمعنا هي تظلمات مبررة ؟ وهل اللامساواة القائمة هي نتيجة سياسات متعمدة للنظام الحالي أم هي نتاج لعوامل بنيوية تاريخية، أم كليهما ؟ وأيما كانت الأسباب هل يتسم الوضع الحالي بكونه مفيداً لفئات معينة ومجحفاً بحق فئات أخرى؟ وما هي تأثيرات التحركات السكانية الجارية (إعادة التوطين) التي تنفذها الحكومة الإريترية على السلام والعدالة والوفاق الوطني؟ وهل صحيح أن الجاليات الإريترية في المهجر تعيش واقع استقطاب ثقافي ؟ إذا كان الأمر كذلك، لماذا ؟

هذه بعض القضايا التي تبرزها مقالات ونقاشات عديدة في مواقع عواتي، أسمرينو، وفي المناقشات الدائرة في عدد من المواقع باللغة العربية للإريتريين في المهجر (عونا، النهضة ...الخ) وكذلك في غرف البالتوك والعديد من المنتديات. وأتمنى أن تستمر هذه الظاهرة الصحية وأن تستوعب عدداً أكبر حجماً وأكثر تنوعاً من الكتاب. كما أتمنى أن يركز المزيد من الطلاب والأكاديميين الإريتريين على هذه القضايا الحيوية في أبحاثهم العلمية. وأي كانت مواقفنا من هذه القضايا أتمنى إن أرى (وأنا أشعر أننا بدأنا نرى) مناقشات جادة ومركزة على البحث عن حلول ولا تتجاهل نصف الكأس الملئ - ما يجمع بيننا كإريتريين، والمشكلات التي تمكنا من التغلب عليها، والأشياء التي أنجزناها في مسيرتنا التاريخية المضطربة.

قليل من الملاحظات، أمنيات:

علق صديق لي أن المسرح السياسي (في معسكر المعارضة) يتجه نحو مزيد من الاستقطاب على أسس دينية وثقافية وأننا أصبحنا وسط أرضية متقلصة.
أنا لست منزعجاً من بناء تحالفات قائمة على قضايا أو هموم مشتركة بين التنظيمات السياسية (والتي قد تعبر أحياناً عن هوية ثقافية مشتركة)، أو آخرين يصنعون أرضية مشتركة للتعبير عن تظلمات لديهم ويقاتلون في سبيل ما يرونها حقوق مشتركة لهم. ليس هناك ما يدعو للانزعاج من مواقف الذين (أفراداً أو مجموعات) يطالبون بحقوقهم. هذا فضلاً عن أن من شأن مثل هذه الاصطفافات أن تساعد على توضيح وبلورة القضايا المعنية وتسهل التصدي لها. بالإضافة إلى ذلك نحن بحاجة إلى مؤسسات تعكس تعدد ثقافاتنا بما في ذلك منظمات سياسية ومنظمات مجتمع مدني تتسم بالتنوع. ولكوني ميالاً للعمل في بيئة متنوعة ثقافياً فإنني أفضل التمسك بما يعرف بالاتجاه العام، المساحة المشتركة التي تجمعنا والتي اعتقد أنها كافية. إنني اتفق تماماً مع دعوة أمانئيل إلى التفاؤل.

هذا النقاش ليس لإثارة شعور جماعي بالذنب (ولا ينبغي أن يكون كذلك) أو التماس الأعذار بل هو (ينبغي أن يكون) من أجل البحث عن الحقيقة. ومعرفة نقاط ضعفنا والاستماع إلى أولئك الذين يريدون التعبير عن تظلماتهم ومد يد العون لهم حينما يطالبون بحقوقهم.
من الطبيعي أن تكون النقاشات والحوارات المتعلقة بالشؤون الإريترية مشتركة في مختلف منتديات الإنترنت. وبينما تتسع مواقع إلكترونية قليلة، في الغالب تنشر كتابات باللغة الإنجليزية أو باللغات الثلاث (الإنجليزية، العربية والتغرينية) لكتاب إريتريين متنوعين يقدمون كتاباتهم لقراء غير متجانسين، نجد العديد من المواقع (ربما أغلبها) يقدمون كتاباتهم حصرياً لجمهور محدد. والكتابات التي تنشر في النوع الأخير من حين لآخر تبدو كأنها مناجاة للذات وتكاد لاتصل إلى الذين من المفترض أنها تتوجه إليهم- مناقشات تبقى في عوالم إريترية متشابهة. هذا نقاش ليوم آخر ولكني أتمنى أن أرى إنه قد فتحت قنوات بين مختلف المحافل ، على سبيل المثال منتديات متكاملة باللغات الثلاث (الإنجليزية - التغرينية - العربية) بالتعاون بين عدد قليل من المواقع الإلكترونية حيث يتم تجميع و أو ترجمة المناقشات الأساسية.

والآن لنعود إلي القضية التي بين أيدينا، هنا وفي ما سنشر لاحقاً سوف أحاول معالجة المسائل التالية:

• ما هي حقيقة التصدع أو الانشقاق الثقافي- الاجتماعي في مجتمعنا، مع إشارة خاصة إلى إريتريي المهجر؟

• هل هناك تفاوت كبير بين الناطقين بالتغرينية وغيرهم من الفئات في المجتمع الإريتري فيما يتعلق بالفرص الاقتصادية والسياسية والثقافية ؟ وهل هناك من يعاني من الإقصاء من المكونات العرقية واللغوية والدينية للمجتمع الإريتري ؟ وما هو تأثير قضية اللغة، إذا كان موجوداً (في السياسة والتطبيق) على مثل هذا الحراك ؟

• هل هناك عدم تكافؤ بين أهل المرتفعات وأهل المنخفضات فيما يتعلق بحقوق الملكية والحصول على الأرض ؟

التصدع:

ما حقيقة التصدع الاجتماعي الثقافي في مجتمعنا ؟

الاستقطاب في مجتمعنا وباستعارة تعبير محمد أحمد "التصدع القبيح"، هو عدم التسليم بالواقع. وهذه حقيقة ظللنا نتجنبها لأمد طويل جداً. عندما سألت سيدة إريترية أسياس أفورقي في اجتماع عقده بواشنطن (1993/1992) عن سبب الغياب اللافت للنظر للمسلمين في الاجتماعات التي تنظمها الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا والحكومة الإريترية، ألقى أفورقي خطبة عصماء مسيئة ثم غادر في نهايتها الاجتماع بشكل مفاجئ (راجع فيديو أسمر ينو). كم هو كبير وقبيح حجم هذا التصدع الذي يشق المشهد السياسي والثقافي - الاجتماعي في إريتريا، على أي حال ؟ في مقاله المشار إليه أعلاه وصف محمد احمد بصورة بليغة الحقيقة المؤسفة لمجتمع منقسم. ولا يسعني إلا أن أشير إلى مقاله (التصدع الكبير القبيح).

الدكتور قايم كبرآب وهو أحد الإريتريين القلائل الذين درسوا واقع المجتمعات الإريترية في كل من إريتريا والخارج. بعد اقتباس ملاحظة من تخلي ولدي ميكائل، أحد سكان مقاطعة أورانج في ولاية كاليفورنيا، عن هيمنة المسيحيين الناطقين بالتغرينية على نشاطات الجالية الإريترية في المقاطعة، يعلق دكتور قيم كبري آب قائلاً:

"هذا التعليق يستند إلى ملاحظات في مقاطعة محددة في كاليفورنيا. إن ملاحظة تخلي وواقع معظم الجاليات الإريترية في مختلف أنحاء العالم متطابق بشكل كبير ومثير للدهشة. الحقائق التي عشتها بشكل مباشر تمثل صورة مطابقة للواقع في مقاطعة أورانج، وهو واقع سائد في السويد ، المملكة المتحدة، ألمانيا، سويسرا، هولندا واستراليا. وعلى الرغم من إنه ليست لدي تجربة شخصية مباشرة في دول أخرى إلا أنني علمت أنها متشابهة في كل مكان، باستثناء السودان. كان المشاركون في الاجتماع الكبير الذي نظمته الجالية الإريترية في ملبورن، استراليا ، في نوفمبر 1997م والذي حضرته، كانوا حصرياً تقريباً من غير الناطقين بالتغرينية (مسلمون). بعد حضور ذلك الاجتماع من حق أي مراقب أجنبي أن يعتقد أن إريتريا يقطنها مسلمون فقط. وفي الحقيقة توجد في ملبورن جاليتان إريتريتان، ومع استثناءات قليلة فان كل الاجتماعات التي ينظمها الحزب الحاكم(الجبهة الشعبية للعدالة والديمقراطية) يشارك فيها حصرياً المسيحيون من المرتفعات، ولا ينكر هذه الحقيقة إلا الواهمون. [1]

التعليق أعلاه من كتاب دكتور قايم (الانعكاسات الخطيرة لحرب التحرير الإريترية) الذي نشر عام 2008م، والذي اعتقد إنه واحد من أكثر الكتابات صراحة ودقة التي قرأت عن إريتريا. واعتقد إن هذا الكتاب يمكن يسهم مساهمة كبيرة في نقاشاتنا الوطنية وأتمنى أن يترجم إلى العربية والتغرينية لتعميم الفائدة.

وكذلك كتبت تريشيا ريدكر هيبر بعد متابعة قصص متفرقة عن الجاليات الإريترية في المهجر التعليق التالي:

بالإضافة إلى عزلتهم المتبادلة، تسكن المجموعتين الدينيتين الأساسيتين في إريتريا في دول مهجر مختلفة وهم يطورون أفكار متباينة عن مستقبل الدولة الإريترية وهويتها.

إذن فان التصدع حقيقة، وعلينا أن نناقش الأمر بشكل علني بدلاً من إخفائه تحت السجاد. وكل ما أسرعنا بذلك كل ما كان ذلك أفضل. إن الحديث عن الخلافات القائمة لا يعني بذر بذور الفرقة، كما أن حواراتنا حول مشاكلنا لا تعني التحريض على الكراهية. إن النقاش الأمين للتحديات التي تواجه مجتمعنا هو الخطوة الأولى لبناء المستقبل الذي نتطلع إليه، الخطوة الأولى لاسترداد قوس قزحنا الحقيقي.

Gaim Kibreab. (2008). Critical Reflections on the Eritrean War of Independence:
Social capital, associational life, religion, ethnicity and sowing seeds of dictatorship. Red Sea Press. (p. 401-402)

Top
X

Right Click

No Right Click