ذكريات وتجارب - الحلقة الثالثة

سماديت كوم Samadit.com

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

استيلاء مجموعة من شرطة مصوع بقيادة الشهيد محمد سعيد شمسي على بعض الاسلحة من مركز شرطة مصوع ولجوئها الى الجبال

القريبة من حرقيقو وبالتالي قلبها استراتيجية محاصرة الجبهة في المنطقة الغربية راسا على عقب، كان اول مشهد سياسي عايشته منذ اضراب الطلبة.

كانت صدمة الحكومة كبيرة اذ رأت في العملية اجماعا وطنيا غربا وشرقا على خيار الكفاح المسلح لتحقيق الاستقلال، وخطرا مباشرا على الممر الدولي - البحر الاحمر - الذي تعهدت للغرب بحمايته.

بعد ارتباك وتخبط واضح لأكثر من يوم، دفعت الحكومة بقوافل عسكرية متتالية من البوليس، الجيش ومن مشاة البحرية توجه بعضها الى منطقة زولا، حداس، وصولا الى ريعوت، مع تعزيزات متتالية في سباق محموم مع الزمن، ولا احد يعرف حقيقة ما يجري الا تخمينا حيث لم تعد السيارات تتوقف في البلدة حتى لا يتسرب خبر او معلومة.

لربما كان بعد اسبوع من بداية الحملة عندما سمع ليلا ازيز سيارات عائدة اشيع على اثرها انها تحمل جثث قتلى الحكومة ليتضح فيما بعد انها كانت في عملية التفاف عن طريق منطقة دماس اثر ورود معلومات ان المجموعة تحاول الانتقال الى المنطقة الغربية او التسلل الى منطقة عدي قيح.

وبعدها ببضعة ايام مرت قوة كبيرة قيل انها في طريقها الى دنكاليا منطقة طيعو بمساعدة سفن وبوارج لمراقبة السواحل وذلك بعد ان اشارت معلومات أخرى ان عددا من المجموعة يحاول الانتقال الى اليمن.

واخيرا ’تمخض الجبل فولد فأرا‘ لم يتجاوز حصاد الحملة قتل احد افراد من اسمتهم ب ’الشفتا‘ او قطاع الطرق وسلمت عائلته الجثمان.

اما من ناحية البلدة، فقد تدرجت المتابعة من حالة ترقب في بداية الامر الى تعاطف مشوب بحذر وخصوصا بعد ان اشيع ان من بين صفوفها عدد من ابناء البلدة.

هذا انطباع شخصي لا يمكن تعميمه وان تشابهت المشاعر التي لم تخل من المبالغة حول عدد افراد المجموعة واسلحتها لرفع الروح المعنويات.

كنا في المدرسة عندما وصل خبر وصول جثمان الشهيد قمحط ادريس وانه سيصلى عليه عقب صلاة الظهر. لا اذكر عما اذا الغيت فترة الاستراحة الصباحية لانهاء الدوام مبكرا لحضور صلاة الجنازة ام تم الغاء الحصة الاخيرة، ولكني اذكر تماما ان معظم الطلبة وكل المدرسين شاركوا في الصلاة التي اقيمت في العراء في منطقة بادمور قبيل المقبرة في يوم شتوي رائع حضرها جمع غفير.

وفي المساء خصص الشيخ محمد ادم حصة الدين للحديث عن فضل الشهيد في الاسلام ووجوب مقاومة الاحتلال شرعا. ما سمعته من أمور سياسية مباشرة او التقطتها اذناي بشكل عابر خلال هذه الفترة كثير، اما ما ترسخ في ذهني ولم يستسغه عقلي جملة وتفصيلا ان يكون قمحط ادريس ذلك الشاب المهذب الانيق المستقيم من ’الشفتا‘ او قاطع طريق! عرفته لكونه صديق وزميل ابني عمي عثمان محمد عمريت في البوليس.

واتضح لاحقا ان العم عندا ادريس هو من نقل المجموعة بالتاكسي من مصوع عبر حرقيقو، وان احد افراد المجموعة الذي هرب منها في اليوم التالي هو من كشف كيفية خروجها ووجهتها، وان تشتتها على مستوى افراد كان العامل الاساسي في افلاتها من كماشة الحملة، وان معلومات الحكومة حول تحركات المجموعة كانت صحيحة حيث عبر بعضها عن طريق جبال عدي قيح والبعض الاخر عبر البحر منهم قائد المجموعة!

استمر تداول اخبار العملية وتحليلاتها الى ان غطى عليها حدث اكبر واهم.

كان المشهد الثاني الاجتماع الذي دعا اليه محافظ اقليم البحر الاحمر في محاولة منه لإقناع الاهالي بضرورة تعديل موقفهم الرافض للمشاركة في الانتخابات البرلمانية الاثيوبية. لعلها كانت المرة الاولى التي تشعل فيها المدرسة انوارها وتشهد حشدا جماهيرا بهذا القدر منذ وفاة الباشا. حدة النقاش وشدته وتطوره الى درجة التعرض لاحد المسئولين عكست مدى اتساع الفجوة بين الطرفين وان لم استوعب الا ما ظهر.

المشهد الثالث، مقارنة بين زيارتين، رأيت الامبراطور هيلي سلاسي للمرة الاولى عندما جاء لافتتاح السد لربما كان عام 1959م. كنت في خلوة الشيخ ادريس شيخ حامد عندما سمعنا بتوجهه الى منطقة السد وانه ينثر ذهبا على مستقبليه، سمح الشيخ ادريس لمن يرغب منا بالإسراع. ادركنا الموكب وهو على وشك العودة فتابعناه، وكلما نثر شيئا تنازعناه مع من سبقنا حتى وصلنا محطة الباصات في السوق. واصل هو طريقه الى المدرسة ودخلنا نحن الخلوة في منتهى السعادة لرؤية صاحب الجلالة، كما كان يلقب، وفي نفس الوقت لجمع كمية من الحراكم (يساوي الحركام ربع بر اثيوبي). كانت العملة من نحاس جديدة شديدة اللمعان حتي خيل للكثيرين انها فعلا قطع من ذهب.

ومما يجدر الاشارة اليه، انه لم يكن في استقباله الا عدد من الاعيان وفي موقع السد، وكان هناك من يشاهد عن بعد سواء في الطريق او من امام منزله اما البقية فكنا صـــغارا في اعمار مختلفة. ولعل ما استغرب له الامبراطور انه رأى رجلا وامرأة يقفان على عدة امتار من طريقه، ولا اذكر اذا حيياه ام توقف من تلقاء نفسه. كان الرجل جارنا العم محمد على موسى وكان كفيفا والمرأة شقيقته الخالة حليمة. اخبره العم محمد علي بلغة امهرية فصيحة انه كان في الجيش الايطالي عندما غزا اثيوبيا ثم تخلى عنه للجرائم التي كان يرتكبها ضد الابرياء، وانه عاش في اثيوبيا الى وقت قريب ثم عاد الى بلدته بعد فقدان بصره، كما اخبره ان شقيقته ارملة تعيل اطفالا. استدعاه الى مصوع واعطاه مبلغا مجزيا وخصص له راتب شهر مدى الحياة مكنه من الزواج. العم محمد على خال الشهيد صالح ابراهيم الذي استشهد في مذبحة حرقيقو.

اما الرؤية الثانية فكانت عقب المشاهد والارهاصات السالفة الذكر، كنا منهمكين في اداء بعض التمارين الكشفية في ساحة المدرسة عصرا عندما وقف الامبراطور على بعد عدة امتار منا محاطا بحاشية وحراس مدججين بالسلاح في زيارة لم يعلن عنها. توقف من كان على الارض وترجل المتسلق على الحبال، وتنحينا جانبا بدون رهبة او انبهار كما يتوقع في مثل هذه المفاجآت. بعد ان تجول في المدرسة وحول مكتب الباشا طلب منا اعادة الانشطة التي كنا نؤديها وفعلا بذلنا ما امكن لإظهار ما لدينا، وبعد انتهاء العرض ناولنا مبلغا يسلم الى مدير المدرسة وانصرف. وسرعان ما نسينا الزائر والزيارة عكس ما فعلنا في الزيارة السابقة حيث قضينا زمنا نعيد ونكرر مغامراتنا في البحث عن ذهب.

انطلاق برنامج صوت ارتريا الذي بدأت جبهة التحرير الارترية اذاعته من المملكة العربية السعودية وبصفة خاصة المقابلات التي كان يجريها مع الاخ عثمان صالح سبي،كان له اثر كبير في اثارة اهتمام الاهالي بأخبار الثورة الارترية بصفة خاصة والعالمية بصفة عامة. كان يفتتح البرنامج بالآية الكريمة ’ان الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا اعزة اهلها اذلة وكذلك يفعلون‘، وعلى ما اذكر، كان المسئول عن البرنامج والمذيع فيه باللغة العربية والتقري والتجرينية المناضل رمضان عثمان قبر.

قهوة الاخ عمر جابر طرم كانت الاولى في ادخال المذياع حيث بدأ التسابق اليها لحجز مقاعد، ثم تبعتها قهوة الاخ سعيد ادريس باري، اما في حينا - منطقة بادمور - فقد كان اول من اقتني المذياع الاخ عبد الله علي سراج، وسرعان ما انطلق برنامج اذاعي مماثل - صوت ارتريا - من اذاعة دمشق في سوريا وان لم يكن موجها وبالكاد يلتقط، ومع هذا كانت تنسب اليه اخبار ومعلومات لا حصر لها. ولقد لعب العم عمر شيخ سالم دورا كبيرا في نشر الوعى والمعلومة سواء مما تتناقله الاذاعات او الصحف حيث كان مطلعا قلما يشاهد بدون جريدة او مجلة في يده يعيرها لمن يقرأ ويقرأها لمن لا يحسن القراءة اوتنقصه اللغة.

وفي زمن وجيزة اصبح اقتناء المذياع نوعا وحجما مجالا للتنافس والمباهاة وخصوصا في منطقة الوسط - ممن يعملون في شركة دنداي، وتدريجيا اصبحت المواعيد تحدد بنشرة اخبار، برنامج اذاعي - لمختلف الاذاعات لندن، صوت العرب، القاهرة، واخيرا بدأ الأهالي تذوق الغناء المصري وخصوصا كوكب الشرق ام كلثوم. وبفضل الاستماع الى الاذاعات العالمية وما تنشره من مواضيع وتحليلات ازداد الوعي بدليل اختلاف المواقف من احدث اقليمية ودولية.

ولهذا بدأت المقارنة بين ما تقوله الجبهة من خلال برامجها الاذاعية وبين ما يعانيه المواطن من ضغوطات اقتصادية متعمدة لتفريغ الوطن من ابنائه. فعلى سبيل المثال قديما كانت السفن القادمة عن طريق باب المندب ترسو قبالة ساحل حرقيقو انتظارا لدورها لدخول الميناء وتبدو بالنهار كأنها جزيرة وبالليل مدينة عامرة من شدة الانوار، وتدريجيا تقلص العدد الى سفينة او سفينتين في اليوم ثم في الاسبوع حتى اصيب الميناء والحياة بشلل شبه كامل ما ادى الى تزايد اعداد المهاجرين من الطلبة والعمال بعضهم لتحسين ظروفه الخاصة والبعض الاخر لأهداف كبرى.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click