إلي جنات الخلد دكتور محمد عبدالرزاق
بقلم الأستاذ: عثمان محمود جابر - كاتب ارترى
ببالغ الحزن والألم تلقينا صباح يوم السبت الموافق ٢٠٢٣/١٠/٧م نبأ وفاة
أستاذنا ومعلمنا الكبير بمقامه ومكانته العلمية الدكتور محمد عبدالرزاق رحمه الله رحمة واسعة.
وفاة الدكتور محمد المفاجئة آلمتنا وأحزنتنا كثيرا، ولا شك من أن غيابه عن مسرح الحياة خسارة كبيرة لمجتمعنا، ولكنه الموت الذي لا مفر منه ومصير كل إنسان بل وكل مخلوق، الموت هادم اللذات ومفرق الاحباب، (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)، والحمد لله على قضائه وقدره. وأسأل الله العلي العظيم أن يسكن فقيدنا جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وأدعو الله أن يلهم أفراد أسرته الكريمة وجميع أفراد آل عبدالرزاق وطلابه ومحبيه الصبر والسلوان وأن يربط على قلوبهم ويعظم أجرهم في هذا المصاب الجلل والفقد الكبير.
كان الدكتور محمد رحمه الله، الإنسان الخلوق، والرجل المثقف والمعلم المربي الناجح والمبدع في تخصصه، كان كبيرا في مقامه ومكانته العلمية، عاش كبيرا ومات كبيرا، حمل راية العلم والمعرفة في بلدته حرقيقوَ وأبلى فيها بلاء حسنا، وكانت البداية في أوائل السبعينات حين تم تعينه معلما ومديرا تربويا في مدارس حرقيقو الأهلية لمرحلتي المتوسطة والإبتدائية بنين وبنات وذلك إثر عودته إلى البلاد بعد توقف الدراسة الجامعية في أديس أبابا لأسباب أمنية وسياسية آنذك.
في ذلك الزمن كان الدكتور رحمه الله، في بدايات حياته العملية وكان حينها شابا طموحا، ذو همة عالية يدفعه الأمل والحماس والتفاؤل لخدمة بلده ومجتمعه في مجال تخصصه الذي تعلمه وأتقنه، وبتوفيق الله ثم بإصراره وتفانيه حين سنحت له الفرصة في تحمل المسؤولية فكان أهلا لها، وكان موفقا ومبدعا بكل المقاييس في إدارة مدارس حرقيقو العريقة،
• حيث قام بتحديث وتطوير وسائل التدريس والمقررات التربوية وتفعيل النظم الرقابية،
• وقد شهدت تلك المدارس في عهده تطورا ملحوظا من الناحية الأكاديمية وفي أداء المعلمين وجودة التحصيل العلمي للطلاب والطالبات وقد تجلى ذلك في تحقيق مدرستنا لأول مرة المركز الأول على مستوى إقليم البحر الأحمر في نسبة النجاح لعدد الطلاب في اختبارات وزارة المعارف السنوية،
• وكذلك في مجال الأنشطة الرياضية والترفيه أيضا شهدت المدرسة نقلة نوعية وكان هناك إنجازات مقدرة في الأنشطة الرياضية،
• إذ كانت إدارة المدرسة تسير من وقت لآخر رحلات رياضية خارج مصوع يشارك فيها عدد من الطلاب وذلك بهدف إقامة مباريات كرة القدم مع مدارس أخرى في كل من مدينة قندع وأسمرا وكذلك رحلات أخرى لزيارة مهرجانات المعرض الوطني للتراث الثقافي Expo التي كانت تقام سنويا في العاصمة أسمرا،
• ويتم تغطية كافة تكاليف الرحلات من ميزانية المدرسة بند الأنشطة الرياضية والترفيه،
وهذا الإنجاز في مجال التربية والتعليم وفي الأنشطة الرياضية لم يكن ليتحقق لولا توفيق من الله أولا، ثم بجهود مخلصة من إدارة المدرسة بقيادة الدكتور محمد رحمه الله ومساعده الأستاذ المرحوم عثمان إبراهيم بشير، ذلك الرجل النزيه والمخلص في عمله، كان يتولى في تلك المرحلة مسؤولية الشؤون الإدادرية والمالية للمدارس، عرف عن المذكور بتفانيه وإخلاصه من أجل رفعة شأن مدارس حرقيقو الأهلية رحمة الله عليه.
في تلك المرحلة، زملائي وأنا كان لنا الشرف بأن كنا أول دفعة من الطلاب الذين تتلمذوا على يد الأستاذ محمد رحمه الله، وعلى ما أذكر كنا في الصف السادس ابتدائي، وبالطبع كان قد مر علينا عدد من الأساتذة من أبناء حرقيقو وغيرهم خلال المرحلة التي سبقت قدوم استاذنا الراحل، وجميع هؤلاء كانوا حقا من خيرة المعلمين كفاءة وإخلاصا في أداء مهامهم ومعظمهم من الطلبة الذين درسوا في المدرسة نفسها، ولكن الدكتور محمد كان أكثرهم إبداعا وبراعة في أدائه كمعلم في نقل المعلومة للطالب بأسلوب مبسط وسهل، وانا مازلت احتفظ له في ذاكرتي بالكثير من النصوص عن الأمثلة الشعبية والحكم والمقولات باللغة الإنجليزية التي تعلمتها في الفصل الدراسي من أستاذنا الفاضل محمد عبدالرزاق وسأظل مدين له وبعض الديون يستحيل قضاؤها لكن سادعوله بالرحمة والمغفرة أبدا ما حييت، وكنت كلما أتحدث معه عبر الهاتف من وقت لآخر أذكره بها وكان يرتاح لذلك.
وهكذا استمر الأستاذ محمد في إنجازاته وعطائه المتميز في خدمة العلم والمعرفة لمجتمعه إلى أن غادر البلاد بعد أن تدهورت الأحوال الأمنية إثر المجازر المروعة التي ارتكبها الجيش الإثيوبي في بلدة حرقيقو بحق المدنيين العزل في السادس من شهر إبريل لعام ١٩٧٥م، واستقر به المقام في جدة بالمملكة العربية ثم غادرها بعد فترة من الزمن وحط رحاله في لندن عاصمة بريطانيا وخلال تلك المدة طموحات الأستاذ محمد في تحصيل المزيد من العلم والمعرفة لم تتراجع بل واصل مسيرته العلمية في الدراسات العليا وفي تخصصه المفضل بهمة وعزيمة إلى أن نال درجة الماجستير ثم الدكتوراة في الآداب والتربية وعلم النفس.
الدكتور محمد رحمه الله بالرغم من حياة الهجرة والشتات التي كان يعيشها كغيره من أفراد مجتمعنا إلا أنه ظل متصلا ومتواصلا مع أهله ودمجتمعه في السراء والضراء فكان يزور جدة بشكل دوري في الإجازات الصيفية سنويا وكنا نسعد بلقائه في منزل شقيقه الأخ فؤاد وكان لنا معه جلسات سهر وسمر نتفاكر فيها عن همومنا المشتركة ونستعيد شيء من ذكرياتنا الجميلة في المدرسة في أيام الصبا ولما نناديه أحيانا بلقب الدكتور كان يقول لنا انا مازلت احب لقب الأستاذ لأنها تذكرني بطلابي في مدارس حرقيقو.
وفي مجال العمل الاجتماعي أيضا كان للدكتور دورا متميزا، وكان حريصا في حضور اللقاءات الافتراضية معنا التي تقام من وقت لآخر، واستفدنا كثيرا من مشاركاته ومداخلات القيمة. علما أن الدكتور كان ايضا ينشط كثيرا بعد تقاعده في محاضرات تربوية يقيمها عن بعد وله رواد كثر معظمهم بريطانيون من أصول عربية وحضرت له بعضا منها.
وختاما، اقول رحل الدكتور محمد عن دنيانا الفانية كما يرحل كل إنسان ولكن يبقى أثره وبصماته وإنجازاته العلمية والتربوية في طلابه يتوارثه الأبناء والأحفاد جيل بعد جيل. رحم الله استاذنا الدكتور محمد، اللهم اغفر له وارحمه وأكرم نزله ووسع مدخله وابدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله ونقه اللهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم بارك في أبنائه وبناته واجعلهم خير خلف لخير سلف، اللهم ارحم امواتنا وأموات المسلمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.