ذكريات وتجارب - الحلقة التاسعة

سماديت كوم Samadit.com

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

بعد ان مضى عامي الاول في مدرسة الامير مكنن بما له وما عليه، وحل عام جديد حاملا تباشير الفرح، ولكن فرحة لم تكتمل. كان

مصدر فرحي وسعادتي التحاق زملائي في حرقيقو بمدرسة الامير مكنن لدخول الصف الثامن، اذكر منهم، على سبيل المثال، حسن حمد امير، محمود عثمان حمد، محمد سعيد محمد عمر برحتو، ادريس ابراهيم عباق، رمضان سيد عمر، ابراهيم احمد سبي، عثمان حمد جابر. استقبلتهم بحفاوة ونصبت من نفسي مرشدا ادلهم الى مرافق المدرسة وتعريفهم ببعض الطلبة والمدرسين الى ان دق الجرس وانتظم الطابور الصباحي وعرف كل منهم مقره ومستقره.. ووجدت نفسي مرة اخرى غريبا بلا عنوان ولا مكان! ابلغني منسق شئون الطلاب انه لم يتم قبولي بسبب عدم وجود مكان شاغر، ويمكنني التظلم لدى المدير، فيا بئس الخصم وبئس الحكم.

لم اشك في كون القرار صادرا عن المدير، ولدرجة ما كانت تخامرني مثل هذه الشكوك، فبدأت اتساءل عما اذا كان قراره نهائيا بالفصل ام تحجيما واذلالا، فأية خطوة نحوه لابد ان تبدأ بالسجود ثم الاستماع الى اشد تقريع وربما بعد كل هذا الطرد كالكلب الجربان. لم اكن مستعدا لإعطائه هذه الفرصة أيا كانت النتيجة ’بيدي لا بيدك يا عمرو‘ كما قالت زباء وما اسهل الكلام. كنت اقول هذا وانا شبه متأكد انه لن يكون في ادارة التعليم من هو قادر على انصافي من هذا الطاغية. قابلت في طريقي الزميل ابراهيم سيد محمد (امريكا) مرتبكا بعد ان تم رفضه لنفس الحجة وكان قدم من كرن. في الحقيقة، لم اعول عليه كثيرا لان والده موظف حكومي كبير يمكنه حل مشكلته بسهولة، ومع هذا اطلعته على ما حصل معي وما قررت القيام به وانطلقنا معا الى طوالوت.

التقينا بمسؤول يدعى محمد، اوضحت له ان سبب رفضي، لا علاقة له بعدم توفر مقعد بقدر ما هو عقاب فردي بأثر رجعي لأحداث سابقة، بدليل قبول طلبة قادمين من مناطق بعيدة، ويفترض ان تعطى الاولوية لطلبة المدرسة ثم ان هناك مقاعد شاغرة. اتصل محمد بالمدير ودخل معه في جدال طويل لم نسمع فحواه جيدا، وفي الاخير اخذنا بسيارته الى المدرسة. دخل هو الى مكتب المدير بينما ننتظر خارجه واستأنف معه الجدال لنحو ساعة ثم طلب منا الدخول. ولم نكد نتجاوز عتبة الباب حتى قال المدير غاضبا ’الا ترى يا سيد محمد انهما غير مؤدبين، الا ينبغي ان يسجدا عند مقابلة مسئولين!‘، ما اغبى طقي مدهن، لست ادرى كيف توقع ان اسجد له وهو يعلم انني ممن لم يسجدوا للإمبراطور بعظمته والعظمة لله وحده، كما ورد في الحلقة السابقة. رد عليه محمد بهدوء ’سيد طقي، انهما طالبان وليسا شحاتين‘. وبعد جهد جهيد تم قبولنا على مضض.

للأسف، كثير منا اذا اخطأ او قصر احد في حقنا نلوك سمعته لأجيال، اما اذا احسن فقلما نحفظ له فضلا ناهيك ان نذكره، بل نعتبر ما قام به مجرد اداء واجب او وظيفة. لهذا تناسيت في نشوة الانتصار محمدا ومجهوده الكبير الذي لولاه، بعد توفيق من الله، لاستحالت عودتي الى هذه المدرسة. ولما بدأت بعد عدة سنين استعادة بعض الذكريات، استدركت عدة ملاحظات حول هذا الموقف: اولا، استقباله لنا وكأننا من معارفه، ثانيا، استماعه الى شكوانا باهتمام بالغ، ثالثا، تفاعله مع الموضوع وكأن الظلم وقع عليه شخصيا، رابعا، تجاوز حدته اثناء حديثه مع المدير، حسب ما بدا لي، الحدود المتعارف عليها، خامسا، اخذه لنا في سيارته وكان بإمكانه ان يطلب منا ان نلتقيه في المدرسة، سادسا، دخوله مرة اخرى في ما يشبه مشادة قوية مع المدير الى ان رضخ. حتى في حينه تكون لدي ازاء هذه النقاط شعور بان وراء موقف محمد وجرأته سبب اخر بل دافع اكبر من موضوعنا ولكنني لم اجهد نفسي لمعرفته، وعند البحث عنه، لم اكن احفظ الا اسمه الاول، وكل المحاولات التي بذلتها لما يقارب خمسين سنة باءت بالفشل الى ان اثرت الموضوع في العام الماضي (2015) وبشكل عفوي مع الاخ العزيز المناضل احمد اسماعيل حاج. فاخبرني ان الشخص المشار اليه انما هو شقيقه الاصغر محمد وكان مفتش التعليم، عاش مع عمه عمر في اسمرا وكان برتبة كولونيل في الشرطة معروف بلقب (باستاي)، ووقتها كان محمد من اكثر العناصر الوطنية نشاطا واقداما منذا انخراطه في السياسة ابتداء من حركة التحرير الى جبهة التحرير. وصدق حدسي، بمساندتنا كان محمد يؤدي واجبا وطنيا نضاليا بدون أية اعتبارات او خشية مما قد يتعرض له، وهو من عائلة وطنية مناضلة، فشقيقه المناضل المعروف محمود اسماعيل حاج من ابرز قيادات الحركة ثم الجبهة وافته المنية قبل بضعة اشهر في لندن.

والموقف الوطني الثاني الذي ارتبط في ذهني بهذا الموضوع، زارتني في الايام الاولى من اعتقالي في السجن المركزي في اسمرا سيدة ذكرت انها والدة الزميل ابراهيم سيد محمد، استعملت كلمة ’والدة‘ للتعريف والحقيقة هي زوجة ابيه الاخت الفاضلة خديجة شيخ محمد شيخ الامين (ام طارق). كنت لحظتها اتحدث مع والدتي فعرفتهما على بعض فعزمت خديجة عليها الا تتجشم مشاق المجيئ من مصوع، وانها ستقوم مقامها في كل شيء احتاجه انا، وقالت حرفيا ’عثمان طعم ابراهيم تو‘ عثمان مني في مقام ابراهيم - ولا تقول الامهات هذه العبارة الا للتعبير عن عاطفة حقيقية وليس من باب المجاملة. كنت اعرف انها سيدة متعلمة وواعية وان لم التق بها شخصيا، وبالتالي كنت واثقا من انها تعي تماما ما تقول في ظرف دقيق كان فيه معظم الاقارب والمعارف يتفادون ذكر اسماء معتقليهم ناهيك زيارتهم. وبرت بوعدها اذ لم تنقطع عن زيارتي الا فترة حزنها على والدها الشيخ محمد شيخ الامين الذي اعدمته الجبهة، تمنيت يومها الا تزورني بعدها، لأنني لم اعرف كيف سأعزيها او ماذا سأقول لها.

ولكن فعلتها، استأنفت زياراتها حتى تاريخ انتقالي الى سجن عدي خوالا. لم تتأثر بما تعرض له والدها حقا كان ام ظلما، لأنها في المقام الاول كانت وطنية تؤدي دورا وطنيا وليس مجرد زيارة معتقل، والا لما تحملت مشقة الحضور والانتظار في طابور طويل تحت حرارة الشمس وهطول المطر لساعات واحيانا بلا مقابلة، بل كان من السهولة بمكان ارسال ما تحضره من طعام مع خادمة كما يفعل الكثيرون بدلا من تعريض نفسها لشبهة او اتهام سياسي ولاسيما انها زوجة مسئول حكومي كبير، وعلاوة على كل هذا، لم يكن هناك اصلا ما يضطرها الى الزيارة حيث لم تكن بيننا لا صلة قرابة او علاقة شخصية. كانت تدرك ان ما بيننا اكبر من هذا – قضية، وان الوقوف والتواجد في طابور امام بوابة السجن لأطول مدة ممكنة بمثابة المشاركة في مظاهرة او وقفة سياسية تلفت الرأي العام من المارة مواطنين كانوا او اجانب الى ان هناك معتقلين وبالتالي هناك قضية، وانه لا يمكن تحقيق هذه الغاية فيما لو اقتصرت الزيارة على ذوي المعتقلين فقط. مضى نحو عامين قبل ان يدرك الكثير من الاهالي اهمية هذه الوسيلة فبدأت كل اسرة زائرة في اصطحاب مرافقين اسرا كانت او افرادا ولمجرد الوقوف معها، ومما يؤكد فاعلية هذه الوسيلة، سرعة تحديد الحكومة عدد الزائرين، ثم الوقوف بعيدا عن السجن واخيرا عدم التجمهر في المناطق القريبة كما سيرد في موضوعه. هكذا كانت العناصر الوطنية رجالا ونساء تبرز وتتميز بمبادراتها الفعلية.

بعد مضي اكثر من عشرين سنة تحديدا عام 1986 زرتها في جدة صحبة الاخ احمد صالح حسن نائب، بالطبع ليس بقصد الشكر والعرفان انما تقديرا لدورها الرائد واستعادة ما امكن من ذكريات، ولكنني قرأت في محياها خيبة امل كبيرة في ما حل بالساحة ولسان حالها يقول بالتقري ’يتبلني وي ابل لك‘ ’لا داع لتقليب المواجع‘. فلها كل شكر وتقدير وما هذا الا اقل الواجبات.

يمكن القول ان الدراسة في مدرسة الامير مكنن حسب تقدير معظم الزملاء كانت جيدة، ولا يعني هذا انه لم تكن لنا معاناة كثيرة ومتعددة. فعلى سبيل المثال، كان احدنا يتناول فطوره على الاقل في السابعة صباحا وفي الغالب يقضي يومه بلا غداء حتى السابعة والنصف ليلا، واحيانا نأكل في مطعم شعبي يبيع ما يسميه ’كمونيا‘ سعر الطلب المكون من ملاح ورغيفين خمسة وعشرين سنتا. فيشترك اثنان في طلب واحد ثم يطلبان رغيفين اضافيين و’دمعة‘ (أي زيادة ملاح مجاني) يصبح السعر خمسة وثلاثين سنتا ولا يمكن تعميم هذا على الجميع فقد كان هناك من ظروف افضل من غيره. وتتمثل المعاناة الثانية في عدم توفر مقر نستريح او نذاكر فيه ما بين نهاية دوام الظهيرة وبدايته عصرا، فنهدر طاقتنا في تجوال بلا هدف او الجلوس في قهوة لا ترحب بنا. ثم نستمر في نفس المنوال بعد نهاية الدوام المسائي حتى السادسة والنصف مساء موعد اول باص يعيدنا الى حرقيقو حيث لا يصل معظمنا منزله قبل الساعة السابعة والنصف ليلا، وهذا في احسن الاحوال، وكان منا من تنتظره التزامات منزلية لابد من تأديتها.

كنا مجموعة من الزملاء تربطنا علاقة خاصة او صداقة – علي سيد عبد الله، حسن حمد أمير، محمود عثمان حمد، محمد سعيد برحتو وشخصي - تارة كنا نتحسر على حالنا وتارة اخرى على ما سيلاقيه زملاؤنا القادمون بعدنا ولاسيما ان الصف السابع الحالي سيكون الاخير في مدرسة حرقيقو حيث يتم تخفيض مستواها الى الاعدادية، وشهادة الاعدادية لن تكفي لحصول من لم يستطع مواصلة الدراسة على اية وظيفة او عمل. فنعاود الحلم ونطمئن انفسنا بإمكانية استعادة المدرسة مكانتها الرائدة واكثر، ولعلنا نعود اليها ونتعلم في عقر دارانا بلا متاعب. وحتى هذه الاحلام لم تدم طويلا. سمعنا ان بعض الزملاء من الفصل العاشر دعوا مدرسا لهم امريكي الجنسية يدعى Mr. K. لزيارة بلدتهم والمدرسة التي تعلموا فيها وانه خرج منها معجبا بحجم المكتبة والمختبر وانه نقل انطباعاته الى المدير. وقيل انه اقترح عليه محاولة الاستفادة من المكتبة والمختبر في مدرسة الامير مكنن باعتبارها مدرسة ثانوية بينما مدرسة حرقيقو تكاد تتحول الى مدرسة اعدادية. وسمعنا في نفس الاسبوع قيام المدير طقي مدهن بزيارة مدرسة حرقيقو وانه التقى بالأستاذ عبد الرحمن سعيد، اثيوبي الجنسية، المسئول عن المكتبة والمختبر وانه اطلع على المكتبة والمختبر، ما اكد لنا جدية المحاولة. من الناحية الموضوعية، مدرسة الامير مكنن اولى بالمختبر والمكتبة وهي مفتوحة للجميع، وخصوص نسبة الاستفادة منهما في مدرسة حرقيقو كانت شبه معدومة بعد تراجع مستواها. كانت مشكلتنا اننا اعتبرنا انفسنا اكثر حرصا وغيرة على مصلحة المدرسة من غيرنا وحلمنا بأشياء بعيدة المنال.

صادف ان جلست في نفس الاسبوع في باص الساعة السابعة والنصف المتجه الى مصوع بجانب الاستاذ احمد محمود منتاى احد ابناء البلدة واحد افراد الدفعة الاولى التي تعلمت وعلمت في المدرسة قبل انتقاله الى مدارس حكومية. وكان شخصا متواضعا مع الجميع يهتم كثيرا بشئون التعليم وصاحب مبادرات كثيرة حتى بعد اللجوء، فسألني عن اوضاعنا العليمية والمعيشية في مدرسة الامير مكنن، فاغتنمت الفرصة وفضفضت له بكل ما كان يضيق به صدري، ذكرت له رغبة المدير طقى مدهن في نقل المكتبة والمختبر الى مدرسته الامر الذى سيقضي على امكانية نهوضها مرة اخرى. اقترح علي ان يقوم التلاميذ بإضراب يطالبون فيه بتطوير المدرسة ورفع مستواها الى المرحلة الثانوية اعتمادا على الامكانات المادية الكافية التي تملكها..الخ.

استسغت الاقتراح ثم عرضته على الزميلين علي سيد عبد الله وعثمان محمد شلال اللذين ابديا تأييدهما مع استبعاد مشاركة الصف العاشر لأسباب موضوعية. وفي فترة الاستراحة طرحته على كافة الزملاء في الصف الثامن وكلهم ايدوا الفكرة. ومصادفة ثانية في نفس اليوم، قابلت الاستاذ صالح عبد القادر بشير الذي اكن له تقديرا خاصا منذ الاضراب الاول السابق الذكر في الحلقة الاولى، وشرحت له مضمون ما دار بيني وبين الاستاذ احمد منتاى. هو ايضا رحب بالاقتراح بل ذكر ان لديه تفويض عام من الباشا صالح احمد كيكيا خول بموجبه ابناء البلدة الدفاع عن مصلحة المدرسة اذا ما اعتراها أي خلل مالي او ادارى، وانه مستعد لتزويدنا بنسخة منه تعزز موقفنا، وفي حالة اعتبرتنا الحكومة غير مؤهلين سنا حسب النص القانوني للتفويض، فانه مستعد للوقوف بجانبنا.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click