ذكريات وتجارب - الحلقة الثامنة
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
بالرغم من استئنافنا الدراسة بموجب الاتفاق الذي تم بين لجنة اولياء الامور والمدير كما ورد في الحلقة السابقة، لم تتحسن العلاقة بين
الفصل والمدير حيث ظلت مشوبة بالحيطة من جانب الطلبة وتربص من جانب المدير الى ان شهدت انفراجا مؤقتا ولبضع ساعات فقط وذلك بمناسبة زيارة مفاجأة قام بها الامبراطور للمدرسة. ورد اشعار الديوان الملكي بالزيارة قبيل نهاية الدوام المسائي. اضطرب المدير وهاج لسوء التوقيت وخشية ان يرفض المسلمون بالذات البقاء بسبب الافطار، ولأول مرة وجد نفسه مستجديا يستعطف تقدير موقفه، وبعد ممانعة مفتعلة قبلنا البقاء على ان يوفر لكل الفصل ما يلزم من انواع الاطعمة اللازمة وسيارات اجرة لمن فاته الباص، ولعل نفس الموقف حصل في الفصول الاخرى، وفعلا اشترى كل ما كان لدى العم محجب اشهر حلواني في عداقة. وبعد ان اطمأن على سير الامور كما يشتهي، علمنا كيف ينبغي ان نسجد للإمبراطور ومتى! اذكر من زملاء الفصل من المسلمين، على سبيل المثال، محمود محمد نجاش، احمد عبد اللطيف هندي، ابوبكر منسعاى عثمان ادريس نائب، احمد دين عثمان، عثمان عمر حمدان.
اما مدرسنا الامريكي لم يعبأ كثيرا بخبر الزيارة ولا بما كان يجري حوله من استعدادات ومتابعات مبالغ فيها لتحركات الامبراطور منذ وصوله الى المدرسة وحتى توجهه الى فصلنا. اثناء توقفه في الممر امام باب الفصل يحادث حاشيته دخلت كلبته المشهورة ومرت بين الصفوف تستشم هنا وهناك ثم خرجت، وبعدها بقليل دخل عدد من جنود الحرس الملكي المدججين بالسلاح وأخذوا مواقعهم في المؤخرة بين الصفوف ثم دخل هو برفقة بعض الوزراء يتقدمهم المدير الذي غمز لنا مذكرا الا ننسى السجود، الا ان الغالبية اكتفت بالوقوف. استقبله المدرس وخطا معه نحو السبورة يشرح له المادة فاذا بالزميل محمود محمد نجاش الذي يشاركني الكنبة يقوم بحركة سريعة وكأنه يخرج شيئا من درجه فانقض عليه حارسان وفتشا درجه ثم درجي بشكل لفت نظر الامبراطور والمدير. في الطابور الصباحي صب المدير جام غضبه على من اسماهم بعديمي التربية والاحترام ولا يعرفون كيف يحيون الملوك، وتوعد كل من لا يلتزم بتعليمات وقيم المدرسة بالطرد الفوري.
في اليوم التالي وجدت الكلبة اللعينة مقتولة خارج سور السراي قيل انها كانت مهشمة الرأس. كانت نحيلة وقبيحة جدا لا يتجاوز حجمها قط كبير، روجت عنها قصص واساطير كثيرة وخصوصا في اديس ابابا حيث اعتبرت جانا او عفريتا في شكل كلبة قادر على اكتشاف ادق الخبايا والمؤامرة تحاك ضد الإمبراطور. وحتى يرسخ هذا الزعم والخزعبلات، كان الامبراطور جعلها تتقدمه الى أي مكان يذهب اليه او يزوره بما في ذلك صعود الطائرة. وكثيرا ما كان يلغي زيارة او يرجع من نصف الطريق او يغير خط سيره حتى يقال انه كان من ايحاءاتها.
في الاجازة النصف سنوية قررت المدرسة قيام فريقها لكرة القدم وفرقة الكشافة برحلة استطلاعية تزور خلالها اسمرا، مندفرا، دقمحري وقندع تجري في غضونها مباريات ودية بعد ان اتفقت مع القوات البحرية لتوفير باص لمدة ثلاثة ومع المعهد المهني (Point Four) في اسمرا على توفير سكن للطلاب لنفس المدة. اعتقد كانت الاعاشة على حساب الطلبة ولهذا اول شىء قمنا به فور وصولنا الى اسمرا اننا اتفقنا جماعيا مع مطعم فتوراري الذي تعاون معنا من حيث قيمة الوجبة، كذلك فعل زملاؤنا المسيحيون مع مطعم اخر.
كان مدير الفريق مدرس اثيوبي يدعى قرما وكان اقرب الى كونه زميل. اذكر من زملاء الفريق، محمد راقي، علي بنطاز، احمد عبد اللطيف واحمد دين عثمان، ارايا، قبري مسقل، قايم ومبرهتو رؤسوم.
اول نشاط قمنا به كان مساء اليوم الاول حيث زرنا المعهد المعني الذي كانت تموله وتديره الولايات المتحدة حسب ما علمنا واطلعنا على مختلف الاقسام والمعدات والمخارط الحديثة. وفي الساعة التاسعة من صبيحة اليوم الثاني زرنا مصنع الزجاج وبعده مصنع البيرا حيث قضينا في كل منهما نحو ساعة ونصف تقريبا، وفي العصرية لعبنا اولى مباراتنا ضد فريق مدرسة حواريات كسبناها اثنين لصفر. قبيل منتصف الليل تقريبا بعد ان نام البعض والبعض الاخر على وشك، فوجئنا بزيارة المدير طقي مدهن وبمعيته مدير التعليم اسفها كحساي وكلاهما في حالة يرثى لها من السكر. ترجلنا من على اسرتنا المزدوجة ووقفنا صفا، مع انه رافقنا بسيارته طوال اليوم، سأل عما قام به الفريق الكروي خلال اليوم، فأخبرناه الاماكن التي زرناها والفريق الذي لعبنا ضده . ثم سأل عما اذا كسبنا ام خسرنا، اخبرناه اننا كسبنا هدفين لصفر، قهقه وقال ’جوش .. جوش‘ - ممتاز .. ممتاز.
ثم اتجه الى فرقة الكشافة وسألها عن نشاطاتها الكشفية، اخبروه انهم كانوا طوال الوقت اما في زيارة او في مشاهدة مباراة الفريق وانه لم تتح لهم فرصة للقيام باي نشاط، استشاط غضبا وامرهم ان ينزلوا على ركبهم ويرفعوا ايديهم! فقام اليه احد اللاعبين اعتقد انه كان ميكائيلي وكان يتمتع بنوع من الفهلوة ركع امامه قائلا ’سيدي لولا حضوركم الشخصي الكريم وتشجيع فرقة الكشافة لما تمكن فريقنا اليوم من تحقيق هذا الانتصار الكبير على فريق يلعب في عقر داره وبين جماهيره وايده البقية بالتصفيق الحاد فقال ’اونت .. اونت.. تنسوو‘ صحيح.. صحيح .. انهضوا‘ وهكذا تخلصنا منه وعدنا الى مضاجعنا.
وفي صبحة اليوم الثالث زرنا مدينة مندفرا لساعات ومنها اتجهنا رأسا الى مدينة دقمحري حيث تناولنا وجبة غداء واستبدلنا ملابسنا الرياضية استعدادا لمباراة قندع، وفجأة اخبرنا المدير اننا سنتوقف لدقائق في مدينة ماي حبار، وهي عبارة عن ثكنة عسكرية كبيرة. دخل المدير الثكنة لمقابلة من يعرفهم او ليتعرف عليهم ثم خرج يبشرنا اننا سنلعب مباراة ودية مع فريق الجيش. لم يستطع مدير الفريق الاعتراض ولاسيما بعد ان رأى فريق الجيش يتجمع في الميدان في اعلى الجبل ولكنه تمكن من تخفيض الزمن الى ساعة واحدة.
وبصراحة، داخلنا خوف اولا لانهم عمالقة من الوزن الثقيل بالكاد يصل احدنا كتف احدهم يمكنهم قذف الكرة واللاعب معا، اضافة الى هذا كانت ارضية الملعب حجرية سيئة. اشار الينا مدير الفريق بعدم الاحتكاك بهم واللعب بقدر الامكان على تمريرات بينية وتشتيت الكرة الى نهاية المباراة. كان معي في الهجوم الزميلين محمد راقي واحمدين عثمان وكلاهما لاعبين مراوغين ممتازين واتميز انا عنهما بالسرعة. لعبنا طبقا لخطة المدير الى ان توافدت اعداد كبيرة من الاهالي وبدأوا يشجعوننا بحماس كبير، وعندما شعروا اننا غير جادين في اللعب بدأوا يوبخوننا ويصرخون علينا بأسمائنا التي التقطوها منا .. فلان ’تلهي .. فلان يتفرح .. فلان ابشرك.. سعي عريا.. حلفو‘ (العب، لا تخف، ابشر، الحقها.. تجاوزه ..الخ) حتى شعرنا بضغط معنوي وفي هذه الاثناء سنحت لي فرصة افلت فيها من المدافع وسجلت منها الهدف الاول.
هاج فريق الجيش ليس بسبب الهدف فقط بل وبسبب وقوف هذه الجماهير التي تساكنهم المدينة مع فريق غريب، وفي نظرهم هم الاولى بتشجيعهم. اضافة الى هذا تعرض المدافع لتقريع شديد من زملائه اللاعبين والمشاهدين منهم ’ديدب.. يازو .. يازو‘ يا مقفل امسكه .. امسكه فأتجه نحوي يهددني باصابعه ولسانه ’قوووي .. قوووي‘ أي ’يا ويلك مني‘ وفعلا بدأت اشتت الكرة كيفا كان الى ان قدر الله ان تسنح لي فرصة يعتبر اهدارها فضيحة بجلاجل، ونتيجة ترددي لثواني ادركني المدافع وانا اسدد فأصاب قدمي من الخلف ارتفعت على اثرها ونزلت على كتفي الايمن، وخرجت من الملعب بإصابة بالغة في الكتف الايمن وشرخ في مقدمة القدم الايمن، واحتسب الخطأ ضربة جزاء جاء منها هدف ثاني.
تخاشن الزميل علي بنطاز مع المدافع الذي اصابني محاولا الثأر منه، احتسبها الحكم ضربة مباشرة علينا بينما طالب فريق الجيش بضربة جزاء ووقعت بينهم مشادة قوية، وبعد بدقائق صفر معلنا نهاية المباراة رافضا مطالبتهم بنصف ساعة اضافية واخيرا تعرض له احدهم وتحولت المشادات الى عراك، نجونا خلاله بجلدنا وركبنا الباص. وصلنا قندع في الواحدة والنصف وفي الثانية لعب الفريقان مبارة فعلا ودية لان مظم لاعبي قندع زملاء واصدقاء، اذكر منهم محمود ادريس اسناي، ابراهيم حجي، عثمان محمد محمود، عمر عثمان قلاتي، ابراهيم حمد درير، محمود جعفر حجي حمد محمد نور احمد ريحاني واظن عثمان عامر نوراي. وانتهت المباراة بالتعادل.
في اليوم الثاني نشرت جريدة الوحدة بالتجرنية تفاصيل رحلة الفريق بدون الاشارة الى المباراة ضد فريق الجيش وما رافقتها من تطورات، وفي نظرنا هي اهم انجاز الفريق حيث وكأننا هزمنا الجيش في معركة! اعتقد انا والاخ احمد عبد اللطيف التقينا بالأخ ابراهيم حبونة من حطملو وكان يعمل مراسلا لجريدة الوحدة القسم العربي، وشرحنا له تفاصيل مجريات المباراة ودور الجماهير فيها وايضا هو تحمس للموضوع ونمقه بما يكفي. استفسر المدير عمن ادلى بهذه المعلومات، وكلنا انكرنا علمنا بما تم نشره، ومن المؤكد انه خمن.
كان مدير الفريق فخورا بأداء اللاعبين الى درجة اتفق مع فريق القوات البحرية على توأمة الفريقين بل ليكون رديفا له سواء للعب معه كفريق او كأفراد على ان تعطى للاعبين بطاقة عضوية تسمح لهم دخول القاعدة البحرية والاستفادة من كافة مرافقها من ضمنها الخدمات الصحية ووسائل مواصلاتها حتى اديس ابابا، حضور المناسبات والحفلات التي تقيمها. اعتذرت له على اساس انني كنت قد بدأت العب فئة (ب) لفريق الهلال تحت قيادة اللاعب المخضرم الاخ كريم وفعلا هو الذي اعطاني الحذاء الذي كنت العب به خلال الرحلة. واعتقد بقية الزملاء تلقوا نفس العرض، وكن هناك من قبل وانضم الى فريق البحرية معظمهم اتضح انهم اما من قومية تقراي او امحرا واصبحوا لاعبين اساسيين في الفريق منهم الحارس أرآيا وقبري مسق. لكن عندما طلبت مني الجبهة في وقت لاحق محاولة التعرف على مداخل القاعدة البحرية ومخارجها لدواعي عسكرية تذكر في موضوعها، كدت اقبل قدمي المدير حتى يضمني الى فريق البحرية الا انه رفض بغطرسة، الفرص لا تتكرر فلابد للمرء من التريث قبل ان يقول ’لا!‘.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.