ذكريات وتجارب - الحلقة العاشرة

سماديت كوم Samadit.com

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

ذكرت في الحلقة السابقة تأييد الاستاذ صالح عبد القادر بشير قيام الطلبة بإضراب عام كما اقترح الاستاذ احمد محمود منتاي واستعداده

لتزويدنا بنسخة من تفويض الباشا والوقوف بجانبنا اذا تطلب الامر. نقلت مضمون هذين الرأيين الى مجموعة ترتبط بعلاقة خاصة مكونة من (على سيد عبد الله، حسن حمد امير، محمود عثمان حمد و محمد سعيد برحتو وشخصي) وبعد أيام من المناقشة توصلنا الى تصور مشترك وضعنا على اساسه مسودة نقاط تم اعتمادها فيما بعد من قبل زملاء الفصل في اجتماع عقدناه في حرقيقو بالقرب من السد ليلا من اهمها:

• ان يتولى فصلنا مهمة تنفيذ الاضراب وقيادته باعتباره اول المستفيدين من نجاحه.

• حددنا عدد من البنود كفيلة لإعادة المدرسة الى المسار الذى رسمه لها الباشا، ابتداء من استبدال اللجنة المدرسية التي عينها الشيخ ادريس عمر كيكيا اثر وفاة الباشا بلجنة اهلية منتخبة. ولا يعني هذا اتهامها بالتقصير بقدر ما يعني انها لم تكن ذات صلاحية او مسئولية فعلية. اما مهمة اللجنة المنتخبة المرجوة، تتولى تقويم المركز المالي للمدرسة ودراسة وضعها الاداري منذ وفاة الباشا بحيث تتضح امكاناتها المادية الحقيقية بدلا من الاعتماد على تكهنات وتقديرات شخصية. وفي حالة ثبوت قدرتها، تعمل اللجنة على توفير كافة المستلزمات بشريا كانت ام ماديا لتمكينها من تحسين ورفع مستواها بقسميها بنين وبنات الى مرحلة الثانوية.

• عدم الافصاح عن مطالبنا الا امام مسئولين حكوميين تفاديا الدخول في تجاذبات جانبية تفرغها من مضمونها، وحتى لا تعرف اية جهة تفاوضنا ما نطالب به مسبقا.

• التمسك بالمطالب مجتمعة وعدم التراجع عن أي بند من بنودها، علما انه لم تكن لنا اية فكرة عن ماهية الخطوة التالية اذا تعثر الاضراب لأي سبب كان.

• تم اختياري متحدثا باسم الاضراب.

• حددنا تاريخ الاضراب وساعة التجمع في بستان عد حبيب لقربه من الطريق العام.

وقبل التطرق الى فعاليات اليوم الاول، اود ان اشير الى ان الاجتماعات التي اجريناها في هذا الخصوص كانت بمثابة نقلة نوعية في مناقشاتنا من حيث المضمون والمستوى اذ اصبح لنا هدف نتلمس الطريق لتحقيقه ونتحمل تبعاته بشكل مشترك عوضا من اجترار اخبار واحداث سابقة لقتل الوقت. وبالضرورة لقد ادى هذا التحول الى تعزيز ثقة كل منا في نفسه وفي زملائه في المجموعة واكسبنا ثقة واحترام زملائنا في الفصل. ليس هذا فحسب، فقد حظينا بثقة وتعاطف بعض المدرسين في مقدمتهم الاستاذ ابراهيم جابر حسب الله والاستاذ محمود صالح سبي، وان لم يجاهرا برأيهما بحكم العمل الوظيفي. ولعل اكبر دعم معنوي حصلنا عليه من خارج المدرسة كان من قبل الشيخ صالح ابوبكر بشير العضو المستقيل من اللجنة المدرسية المعينة. الخيط الذي ربطنا بهؤلاء الثلاثة بالذات، تحول تدريجيا الى رابط سياسي ونضالي وطني سيذكر في موضوعه.

بالرغم من هذه العوامل المبشرة فقد كانت لنا عشية يوم الاضراب خشية كبيرة الا تكون استجابة الطلبة بالدرجة التي توقعناها فنبقى في الساحة وحدنا. اذكر ان اول مجموعة حضرت من الفصول الاخرى تكونت من الزملاء حامد عبدالقادر قولاي، اري حسن اري وعامر حسين قولاي، ولا اعرف لماذا تفاءلت بهم كثيرا ولعله بسبب بعد الحي الذي يعيشون فيه.

وسرعان ما اكتملت سعادتنا بتكامل العدد تقريبا في التوقيت المحدد - الثامنة صباحا. فشرعنا في شرح تفاصيل دواعي الاضراب ومسبباته والغاية منه وماهية المطالب التي نتقدم بها والنتائج الايجابية المرجو تحقيقها، وبعض الضوابط النظامية اللازم مراعاتها في الموقع ولاسيما عندما ينضم الينا اخوتنا من المرحلة الابتدائية، وضرورة ايصال المعلومة اليهم حتى يعرفوا حقيقة ما يشاركون فيه، واخيرا طرحت المطالب لإبداء الرأي، وتم اقرارها بالإجماع.

حوالى الساعة التاسعة حضر مدير المدرسة الاستاذ محمد عبدالقادر مصطحبا مدرسين اثنين وحاولوا التعرف على ما نقوم به لعلهم يساعدوننا الا اننا امتنعنا عن الافصاح فعادوا ادراجهم. وبعدهم بقليل وصل اعضاء من اللجنة المدرسية لنفس الغرض مع توجيه عتاب لعدم اشعارهم مسبقا حتى ينظروا في الامر. ثم حضر نائب البلدة (الحاكم) العم حسن محمد نائب وقال كلاما مماثلا الا انه بطريقة غير مباشرة اشار بضرورة توخي الحذر في التعامل مع الحكومة. ثم جاء بعض الوجهاء منهم العم حجي عبد الله عثمان وهو من الشخصيات التي كنا نراهن عليها لمواقف سابقة كما ورد في الحلقة الاولى، ثم جاء معظم اولياء امورنا ولم يتغير شىء في موقفنا. وفى فترة الاستراحة الصباحية الاولى (حصة الفطور) انضم الينا طلبة المرحلة الابتدائية ما رفع معنوياتنا اكثر حتى شعرنا اننا فعلا تجاوزنا الاختبار الاول.

حوالى الساعة الثانية عشرة حمل الينا مدير المدرسة طلبا من الشيخ ادريس عمر كيكيا في اسمرا لرفع الاضراب لحين حضوره في مساء نفس اليوم. وحوالى الواحدة ظهرا وصلت عدة سيارات حكومية تتقدمها سيارة رئيس شرطة اقليم البحر الاحمر اثيوبي برتبة كولونيل، لا اذكر اسمه، يرافقه محافظ الاقليم سيد محمد سيد احمد واخرون من مدنيين وعسكريين.

جميل ان يقوم المرء بمبادرات انسانية تخدم مجتمعه والاجمل ان تلقى هذه المبادرات قبولا، وتكريم اصحابها بترجمتها الى واقع عملي ايضا امر جيد، ولكن احيانا قد يبدو هذا التكريم عقابا اكثر من كونه تكريما وخصوصا اذا كان يؤدي الى مواجهة مع الحكومة. خطرت لي وانا انظر الى السيارات والمسئولين وهم يتقدمون نحونا طرفة يمنية يقال انها وقعت في العهد العثماني. قابل مواطن يمني باشا عثماني يزهو على صهوة جواده يتبعه طفل يترنح من شدة الاعياء فرق له قلبه. فنادى الى الباشا ’ووو امباشا .. ووو امباشا‘ فالتفت اليه الباشا وسأله (وش بك)، فقال له ’ام صغيرون تعبان‘ – الطفل مرهق - فقال له ’شيله‘ – احمله - فما كان امامه مفر من تنفيذ الامر فرفع الطفل على كتفيه وسار خلف جواد الباشا. وبينما هو على هذا الحال قابله شخص يعرفه فسأله مستغربا ’ووو عمي علي .. ووو عمي علي .. وش الحال‘ فرد عليه اليمني بحنق ’اسكت .. اسكت عمك علي بلكاعته – حماقته - عملوه حمال!‘ وها انا اليوم سعيت الى تحقيق مصلحة فالقيت علي عاتقي مسئوليتها ولا بد من تحملها! من المفارقات العجيبة، قبل عام تقريبا انتقلت الى مدرسة الامير مكنن في عداقة لعدم تمتعي بشجاعة ادبية كافية للدفاع عن نفسي امام مجرد مدرس، وها انا في هذه اللحظة مطالب بمواجهة وربما مقارعة مسئول حكومي برتبة كولونيل وعلى رأس شهود حيث لا مجال للمراوغة ناهيك انسحاب. بلا شك كان الموقف رهيبا اهتزت له فرائصي!

جال الكولونيل ببصره على الموقع متأملا وكأنه يستكشف امرا ثم تأمل الحضور يمينا وشمالا حيث لم يغادر احد ممن حضروا - الناظر، اعضاء اللجنة المدرسية، النائب، الاعيان واولياء الامور وبعض المدرسين. كلهم ينتظرون ان يعرفوا النتيجة. واخيرا تحدث وكان حديثه عبارة عن الديباجة التي تقال في مثل هذه المناسبة - عدم قانونية القيام بإضراب بدون اشعار الجهات الحكومية والحصول على اذن مسبق، وان مثل هذه التصرفات تمثل تهديدا لأمن وسلامة البلد، انها تعرض القائمين بها الى مساءلة قانونية الخ. وبعد ان انتهى من كلمته صمت لبعض الوقت حتى ظننا ان الامر انتهى الى هنا ما اثار اهتمامنا بل مخاوفنا، ثم عاد فطلب اختيار من يتحدث عنا. قام بعض الزملاء من هنا وهناك بمناورة توحي اجراء مشاروات ثم نادوا باسمي. اعاد الكرة وركز على وجهى كنوع من الارهاب او ممارسة ضغوط نفسية وفعلا شعرت بنوع من الاضطراب، كان هادىء الصوت ووجهه خال من اية انفعالات كما هي طبيعة قومية الامحرا بصفة خاصة. سألني عن اسمى والصف الذي ادرس فيه ثم سألني اذا كنت قائد الاضراب، نفيت ان اكون كذلك وانهم اختاروني للحديث عنهم. واخيرا سألني عن الاسباب التي دعتنا الى هذا التصرف الغير قانوني والغاية منه. اخرجت الورقة من جيبي عندئذ كاد ان يبتسم لان وجود الورقة معي دليل على انني قائد الاضراب وان العملية التي قمنا بها امامه لاختيار متحدث مجرد تمثيلية، وكان هذا خطأ فادحا. على كل حال، شرعت اقرأ واشرح معاناتنا بداية بالأعباء المادية والمجهودات الجسدية والنفسية والمعنوية التي يتعرض لها الطلبة والزمن المهدر بسبب انتقالهم الى مدرسة الامير مكنن في وقت تستطيع فيه مدرستهم تعليمهم حتى المرحلة الثانوية، ثم تطرقت الى مطالبنا بندا بندا. واخيرا ركزت على عدم قيامنا بالإضراب جزافا انما بناء على تفويض قانوني لا يؤهلنا للدفاع عن المدرسة فحسب بل ويحضنا عليه. في الحقيقة، كان يستمع الى كل ما كنت اقول بشكل عادي وربما كان يتوقعه الا انه اندهش كثيرا عندما اثرت وجود تفويض قانوني يخول ابناء البلدة بالدفاع عن مصالح المدرسة اذا ما تعرضت لاختلالات مادية او ادارية فالتفت الى المحافظ وسأله اذا كان ما زعمته صحيحا فاكد له صحته. ثم سلمته نسخة من التفويض ومن المطالب.

حاول في البداية التقليل من اهمية التفويض وعاد الى الحديث عن عدم شرعية ما قمنا به ايا كانت المبررات وضرورة استئناف الدراسة فورا. فأوضحت له اننا لن نتراجع عن مطالبنا لانه ليس لنا مكان ندرس فيه غير هذه المدرسة والبديل التسكع في الشوارع. تنحى قليلا من المكان للحديث مع المحافظ، ثم دعا اليه المدير وطلب منه ابلاغ الشيخ ادريس عمر كيكيا هاتفيا بفتح الصف الثامن فورا، ثم ابلغنا انه اصدر تعليمات بفتح الصف الثامن وانه سيستكمل معنا الحديث داخل الفصل خلال ساعتين.

وفي اقل من ساعتين كنا في فصلنا حيث تحدث الينا الكولونيل عن حاجة الدولة الى شباب متعلم واع منضبط وانه شخصيا سوف يتابع تنفيذ ما تبقى من مطالبنا. وفي اليوم التالي حدثنا مدير المدرسة عن الخطوات الجارية لتفعيل المطالب من اهمها البحث واستقطاب مدرسين مؤهلين وتوفير بعض الكتب الاساسية وكخطوة اولى تم تعيين الاخ الاستاذ حسين محمد باقر مدرسا وكان يدرسنا مادة العلوم.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click