ذكريات وتجارب - الحلقة السابعة

سماديت كوم Samadit.com

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

لولا تصرفات ’تأبط شرا‘ - المدير طقي مدهن الهوجاء لكانت الحياة التعليمية في مدرسة الامير مكنن افضل بكثير بعد اندماجنا مع

البيئة والدراسة. كان شغله اليومي الشاغل ايجاد ما يشغل به نفسه والطلبة. فقد كان جميع مدرسينا، حسب تقديري، اكفاء ومتعاونين وخصوصا الاستاذ محمد طاهر الذي لم يبخل علينا بالنصح والتوجيه. تمثلت معضلة طقي مدهن في اصراره على فرض سلطته ولو بالعصا وكأنه يرعى قطيع من الماشية بينما تتآكل هيبته ستمر بعد ان عرف الطلبة اسلوبه والطريقة المناسبة للتعامل معه.

تذكر في احد الايام ان النشيد الوطني لا يؤدى بالاتساق والاحترام المطلوبين، فقرر ان يؤديه كل فصل على حدة وكانت النتيجة مثيرة للسخرية - شبه لحن بدون كلمات، اما لان الطلبة حتى القدامى منهم لم يحفظوه عن ظهر قلب او انهم تعمدوا نكاية به. ولهذا امر بحفظ النشيد خلال اسبوع مع الانذار ان أي طالب يفشل في ادائه سواء في الطابور او خارجه سيعرض نفسه للعقوبة وخصم من علاماته، وبهذه العنجهية خلق مشكلة جديدة وفي وقت لم تعط فيه عملية قفل البوابات، كما ورد في الحلقة السابقة، النتيجة المرجة حيث ظل بعض الطلبة يتوارون بين الفصول حتى ينفض الطابور. كان بعض المطلبة بمجرد ان يصادفهم المدير او يقترب منهم يرفعون عقيرتهم بالنشيد ’دمو يفسـسى.. لبو ينددى.!‘- (يا من اهرقت دماؤه.. واحترق فؤاده‘)، ولكن بأسلوب يحرق قلبه، ومع انه كان يدرك ان هذا من باب الاستهزاء كان يتجاهلهم ثم تجاهل قراره فلم يعد يهمه الحافظ من غيره ولكن ليقفز الى موضوع اخر.

تراءت له ان ساحة المدرسة بحاجة الى تحسين وتجميل، فوزع على الفصول قطع ارض ملاصقة للسور لزراعتها ورعايتها على ان يمنح الفصل الفائز جائزة تشجيعية. وكان قراره في نظر الطلبة كلمة حق يراد بها الانتقاد والازعاج اليومي. اتقفنا على الا نعطيه ولو فرصة بسيطة لإثارة الموضوع معنا، وبفضل تعاوننا وجودة التربة اينعت المزروعات قبل القطع الاخرى وبدأت في التعرض للسطو ولاسيما ليلا بسبب قربها من الشارع العام. فاقمنا حفلة صغيرة في الفصل دعينا اليها طالبين وطالبتين من كل فصل فضلا عن المدرسين والمدير حظيت بثناء المدعوين وعلى رأسهم المدير، وهذا ما كنا نصبو اليه. وقبل الانفضاض في الساعة السابعة مساء ذكرنا المدرس ابرهام المسئول عن النظافة بتنظيف الفصل جيدا وقفل الشبابيك قبل المغادرة. وعندما عاد ابرهام في وقت متأخر من الليل للتأكد من مدى التزامنا بتعليماته واقفال الباب، وجد الفصل اسوأ بكثير مما تركه.. تفوح منه روائح زيوت ومخللات وسلطات فما كان منه الا ان أقفل الباب بالمفتاح.

تلقف المدير المعلومة التي تلقاها من ابرهام وجعل منها مادة للتهجم على فصلنا امام الطابور الصباحي، متهما اياه بالاستهتار وعدم احترام القانون وعدم الالتزام بتعليمات المدرسين، ثم اصطحب معه بعض المدرسين لمشاهدة الحالة على الطبيعة، ولسوء حظه، كان الفصل نظيفا بل ومعطرا. تمسك ابرهام بروايته وكذلك فعلنا نحن، وفي الاخر لاحظ ابرهام ان احد الشبابيك كان مفتوحا فعرف اننا دخلنا وخرجنا منه في الصباح، اما الشهود لم يروا مبررا للخلاف طالما الفصل فعلا نظيف بصرف النظر عن التوقيت. بدلا من التريث وتقدير الموقف بموضوعية، تمادى المدير في تعنته فعدد مثالب الفصل واثار ما حصل وما لم يحصل وامر الفصل بتنظيف حمامات المدرسة لمدة اسبوع كامل عقابا له، ومن حيث لا يدري وضع نفسه ونحن معه في موقف يصعب عليه التراجع عنه او قبولنا به لتبدأ مواجهة جديدة.

رفض الفصل تنفيذ الامر كما رفض دخول الفصل الا بعد مقابلة مسئول من ادارة التعليم، وقضوا يومهم في الساحة بين غناء ورقص للفت نظر عابري الطريق حتى اصبحوا ظاهرة جديدة لم تألفها المدرسة. وتكرر نفس الموقف في اليوم التالي ووجدنا بعض التعاطف من الفصل السابع (ب) وبعض الاطفال من المرحلة الابتدائية انتقاما من المدير الذي دأب على مطاردتهم كلما حاولوا اللعب في المدرسة التي تعتبر المكان الوحيد المظلل الذي يمكنهم اللعب فيه بعد الدوام او قبله بحجة ازعاجه وحرمانه من القيلولة والصحيح حتى لا يشاهدوه مع خليلاته دخولا وخروجا و ’من عادى الاطفال ما نام!‘.

مع ان اتخاذ قرار الاضراب كان جماعيا لم يعترض عليه احد على الاطلاق، زعم بعض الزملاء في اليوم الثاني انهم لم يكونوا موافقين واتهموا الاخرين بعدم الجدية في التعليم، واشاعوا ان المدير سحب قراره وحاولوا التأثير على البعض لاستئناف الدراسة وعندما فشلوا حاولوا نقل خطاباته الى اولياء امور من يتهمهم بالشغب وقيادة الاضراب منهم والدي. تصدى لهم البعض وتمكنوا من انتزاع الخطابات منهم التي من خلالها عرفنا شعر بالمأزق الذي وقع فيه وان يريد عودة الطلبة الى الفصل ليصفي معهم حسابه فيما بعد اولهم انا بحجة انني من اصحاب السوابق، وبالتالي، اخرج من المدرسة كما دخلتها بدون شهادة. فلأول مرة تصدرت الموقف من خلال طرح مبادرة استباقية من خلال تقديم اقتراح شكوى جماعية الى ادارة التعليم وبسرعة. خرجنا في صباح اليوم الثالث من البوابة الشرقية مرورا بمركز الشرطة مخترقين السوق بدون هتافات او شعارات الا في حالات فردية، وزاد عددنا عندما اختلط بنا بعض المارة وبعض العاطلين عن العمل بقصد التسلية، وتعمدنا السير وسط كبري سقالت قطان الذي يربط عداقة بطوالوت حتى توقفت الحركة الى ان وصلنا الى ادارة التعليم. وتوخيا للحذر، رفضنا تشكيل وفد لمقابلة المسئولين فتحدث الينا المفتش الاستاذ جابر سعد من شرفة مكتبه، وبعد ان انتقدنا بشدة، بدون الاستماع الى شكوانا، طالبنا بالتفرق فورا والعودة الى المدرسة والدراسة، الا انه تراجع امام اصرارنا فسمع منا واتصل بالمدير واتفق معه على التهدئة واشراك اولياء الامور وتسوية المشكلة وديا وبسرعة ثم نصحنا مجددا التفرق والعودة، الا اننا عدنا بنفس الطريق والطريقة.

وقع اختيار الطلبة على خمسة من اولياء الامور قيل انهم متحدثون لبقون يجيدون اللغة الامحرية واقنعناهم بصحة موقفنا ووجاهة مطالبنا، وفي اجتماع حضرته مع نفر الزملاء وبعد مناقشة حادة جدا تمخض عن اربع نقاط: الغاء المدير قراره، عدم توجيه اية رسالة الى اولياء الامور، عدم معاقبة أي طالب بأثر رجعي جراء هذا الموضوع، استئناف الدراسة صبيحة اليوم التالي والتزامهم الكامل بالنظام. كثير من الناس تنقصهم الشجاعة الادبية فيقولون ’نعم‘ وهو يقصدون ’لا‘ فيحرجون انفسهم ويضعون زملاءهم في مواقف صعبة.

في تجربة مماثلة، طلبت شركة حرقيقو للمواصلات من الطلبة عدم استعمال بطاقاتهم الشهرية في ايام الاحد باعتبارها عطلة والغرض من التخفيض الدراسة، رفضنا القرار من حيث المبدأ لان بطاقة شهرية تعني كافة ايام الشهر، واتفقنا على الا ندفع الرسوم الا بعد ختم البطاقة بدون اضافة أي شرط. وعندما عدنا في الموعد لاستلام البطاقات ودفع الرسوم وجدناها غير مختومة لعدم الدفع مقدما، وبالصدفة اكتشفنا ان بطاقات بعض الزملاء تم ختمها لانهم وضعوا الرسوم داخل البطاقة عندما سلموها! وسرعان ما الغي القرار بعد ان كان قد اتخذ فرديا ولأسباب شخصية.

كان معظم مدرسي اللغة الانجليزية من بعثة السلام الامريكية وهم متطوعون مهمتهم نشر اللغة الانجليزية والثقافة الامريكية وايضا جمع معلومات تخدم حكومتهم. وبالتالي كانت معظم المواضيع والامثلة والتجارب التي يستخدمها مدرسنا او يتحدث عنها مدرسنا ذات علاقة بالتقاليد والعادات والحياة الامريكية وخصوصا مسقط رأسه كاليفورنيا. من ضمن مقارناته المستفزة جدا لمشاعر الطلبة الانسانية والوطنية، استغل الانتخابات التي كانت تجري في امريكا لا اذكر رئاسية كانت ام على مستوى المجلس التشريعي (غونغرس) وطلب من الفصل اعداد تقرير عن كل ما رافق هذه الانتخابات من مجريات، وتمت مناقشة ما جمع في الحصة الثانية تحدث فيها باستفاضة عن مفهوم الديمقراطية واهمية النظام الديمقراطي لتطور الشعوب وكرامتها بدون الاشارة الى تجارة الرقيق وحياة الزنوج الى نهاية الحصة.

وقبيل خروجه من الفصل استوقفه احد الطلبة ليقول ’نأمل ان نكون مثلكم دولة ديمقراطية‘. فكان رده ’ان اثيوبيا دولة عريقة وعظيمة ومن اكبر الدول الافريقية، يحكمها بحكمة ملك من اعظم ملوك العالم واحكمهم، وانها لا تحتاج الى استبدال نظامها الملكي طالما انه يلبى احتياجات المواطن كافة ويرضى به الشعب. وبشكل عفوي وجدتني اقول له ’انما نعني ارتريا‘ ارتبك المدرس ولم يعرف كيف او بماذا يرد فقال وهو يهز رأسه ’I see!‘ - فهمت. وارتبك الطالب المتحدث بعد ان حرفت مقصده وكنت انا اكثرهم ارتباكا وكأنني كسرت شيئا ثمينا او سقط من يدي شيء، ولم تخل نظرة البقية ممن كانوا معنا من الاستغراب.

كانت هذه المرة الاولى التي احدد فيها هويتي الوطنية، ولم اكن بعدها الشخص الذي كنته. واول شيء خطر ببالي هوية من حولي ابتداء من الخمسة الذين اخترناهم لتمثيل اولياء الامور. ففي الوقت الذي كنت منبهرا بأدائهم لتخليصنا من ذلك الوضع، كنت اتساءل في قرارة نفسي انى لهؤلاء كل هذه الجرأة والثقة لمقارعة مدير يعمل له الف حساب، وفي الاخر، اكتشفت ان اربعة منهم اثيوبيون من قومية تقراي والخامس ارتري وكلهم كانو من عتاة حزب الاتحاد الذي كان مواليا لإثيوبيا في فترة تقرير المصير.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click