ذكريات وتجارب - الحلقة السادسة

سماديت كوم Samadit.com

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

في ظل سيادة الظلم والظلام وانتشار المظالم والتظلمات التي تجاوزت حدود انتهاك حقوق الانسان الى وجود الانسان ذاته، كما نشاهد

يوميا على مستوى العالم، قد لا يستساغ طرح حالات قد تبدو اليوم مجرد دعابة او نكتة باهتة، مع هذا لا أرى بأسا في ايرادها لان التجارب الإنسانية لا تفقد اثرها بالتقادم لكونها امتدادا للواقع وان اختلفت الحيثيات.

مع تراجع اثار الاحداث المتتالية التي عاشتها حرقيقو خلال السنة كما ورد في الحلقة السابقة، كان يحدونا الامل ان يشهد العام الدراسي - 1962 - هدوء واستقرارا نفسيا، الا انه، للأسف لم يكن كذلك، على الأقل، بالنسبة لي اذ حمل معه تحديا شخصيا لم يكن في البال. كنت مستبشرا جدا عندما ذهبت الى المدرسة في يومها الأول وناولت المدرس المسئول قيمة رواية كنت قد استعرتها. نظاما كان يسمح للطالب في نهاية السنة الدراسية استعارة أي كتاب يشاء ثم يعيده في بداية السنة الدراسية الجديدة او يدفع قيمته ولحين يتم هذا تحتفظ المدرسة بالشهادة. ابلغني المسئول ان شهادتي مفقودة وانني رسبت وعلي إعادة الصف السادس، مع انني كنت متأكدا من نجاحي لأنني كنت قد اطلعت على الشهادة قبل تسليمها، وجدت اسمي في لوحة الإعلانات في كشف الصف السادس، عندئذ عرفت ان العملية لا تعدو كونها تصفية حسابات قديمة

بدون الدخول في تفسير وتفصيل الصغائر، اضعت بسبب هذا المدرس في بداية التحاقي بالمدرسة نصف سنة دراسية. ولحسن الحظ، لم يدرسني بعد عودتي الى الدراسة، ولكنني تمكنت بطريقة ما ان ارد له دينه. وها هو اليوم بعد ان تمت ترقيته يحاول ان يرد لي الصاع بصاعين، ولهذا لم اعبأ بالكيفية التي صاغ بها هذه اللعبة الفجة ولا كيف سوقها، كل ما كنت متأكد منه انه يراهن على ان أنفعل واترك الدراسة او ارضخ كما جرت العادة. فكثير من الزملاء الذين تركوا الدراسة او فصلوا لسبب واخر لم تراجع عوائلهم المدرسة سواء للتعرف على الأسباب الموجبة او للاعتراض على ما لحق بأبنائهم من ظلم، وكنت احدهم.

قبل هذا ببضعة سنين، ابلغ احد الزملاء الشيخ انني والزميل عثمان حمد امير لم نذهب الى الخلوة بعد انتهاء دوام المدرسة في الظهرية. وصادف ان قال له احدنا في المدرسة ’يا فتان‘ ولأنها كلمة دارجة بين الطلبة اعتبرنا الامر عادي وكدنا ننساه لولا ان شاهدنا الزميل يخرج من مكتب المدير، فعرفنا انه قدم شكوى. ثم شاهدنا المدير يستدعي مدرسين اثنين يعتبران نفسيهما فتوة، ورأيناهما يتجهان الى منطقة الطاحونة ثم يعودان وفي يد احدهما سير يستعمل لتشغيل مولد كهربائي.

تأكدنا ان في الامر سلخ وليس جلد، وقبل ان نجد لأنفسنا مهربا، دق الجرس ودخلنا الفصل على ان نهرب بعد الحصة الأولى - فسحة صلاة العصر - ولم نعلم انه صدرت تعليمات بحرمان فصلنا من أداء الصلاة وتكليف مدرس للمراقبة. وقبيل انتهاء الحصة الثانية والأخيرة دخلا البطلان مشمرين وطلب احدهما من الزميل احمد محمود فاقر (الدنمارك) التقدم. لم يكن الزميل احمد لا في العير ولا في النفير، كما يقول المثل، وكل ذنبه انه كان معنا عندما تكلمنا مع الزميل. كنا في اصغر فصول المدرسة، فحاول الاختفاء وراء سبورة الا ان احدهما سحبه من رجليه وحمله من كتفيه وظهره مواجه للجلاد، كان احمد ضعيفا نحيلا جدا يمكن حمله بيد واحدة، وبدأ الثاني في الجلد. وأول صرخة اطلقها احمد سقطت في اذني والدته الخالة حليمة لوبينت.، امد الله في عمرها، كان دارهم لا يبعد اكثر من أربعة امتار من المدرسة، فانطلقت الى جهة الصوت وفتحت فرجة في الحوش لترى وحيدها محمولا في الهواء وكأنه قميص يتم نشره فأخذت تصرخ وتولول تشتم تارة وتلعن أخرى ’يا رب اديك تسبر، يا رب اديك تقري‘ ’ يا ربي ماي قبأ‘ وسرعان ما تبعتها شقيقة عثمان الأخت امنة وعشرات النساء من الدار الكبير. وتوقف المارة ليشاهدوا الحفلة حتى اصبحنا فرجة بالمجان.

الغريبة، كلما تعالى صراخ النساء وعويلهن ازداد نشاط الجلاد وكأنهن يزغردن له، ولم يتوقفا الا بعد ان خارت قواهما وشفيا غليلهما. كانت هذه اول مرة يستعمل فيها ’السلاح النووي‘ في عقاب طلبة لا حول لهم ولا قوة وبدون سؤال او على الأقل تحديد الحكم الصادر. خرجنا من الفصل مسنودين. في اليوم التالي عاد احمد الى اسمرا ولم نلتق منذئذ وخرج عثمان ولم يعد، وقضيت انا أسبوعا اتحامل على نفسي لا اقوى على المشي ناهيك جلب الماء الا بمساعدة ابني عمي وبعض الزملاء الذين كانوا يوصلون جردليّ حتى باب الدار لأدخلها حتى لا تشعر العائلة بما تعرضت له.

كنت واقفا امام اللوحة مستغرقا في هذه الذكريات المؤلمة وفي نفس الوقت افكر في كيفية مواجهة المشكلة الحالية الى درجة لم اشعر بوجود الزميل محمد سعيد محمد عمر برحتو بالقرب مني. هو أيضا كان محتارا، مع انه ناجح حسب الشهادة لم يجد اسمه في أي من الكشوفات، لأنه ببساطة لم يتم قبوله لخلاف سابق مع احد المدرسين. علما انه كان من خيرة الطلبة الذين عرفتهم ادبا واخلاقا وتعاملا. قضينا وقتا طويلا نقلب المواجع والبدائل وأخيرا اتفقنا على ان يلتحق هو فورا بمدرسة شيخ الأمين او مدرسة الأمير مكنن في عداقة وابحث انا عن وساطة، وكانت هذه المناسبة بداية الصداقة بيننا.

خيار الانتقال الى مدرسة أخرى كان لتفادي بيئة قد لا تخلو من حساسيات وربما مشاكل بشكل واخر من ناحية، ومن ناحية أخرى بناء على قرار تخفيض مستوى المدرسة الى الصف السادس اعتبارا من السنة القادمة وتحويل طلبة الفصل السابع الى مدرسة الأمير مكنن. والاهم بالنسبة لي، الا يعرف والدي الا في حالة فشل كل المساعي التي ابذلها لأنه، بالرغم من طبيعته الهادئة في حياته الخاصة والعامة، كان من الصنف الذي لا يعرف المجاملة والمداهنة اذا تعلق الامر بخطأ او ظلم وبالتالي سيحاول ان يعرف ما حصل ولماذا حصل قديمه وحديثه.

التقينا بمدير مدرسة الشيخ الأمين في طوالوت الأستاذ محمد سيد باعلوي، وشرح له العم عبد القادر الواقع ولحسن الحظ كان تعاطفه اكبر مما توقعنا، الا انه ذكر ان مستوى مدرسته لا يتجاوز الصف السادس ومن ثم يحول الطلبة الى مدرسة الأمير مكنن وانهم فعلا سيغادرون خلال ساعة وان بإمكانه، اذا رغبت، إضافة اسمي الى الكشف وارفاق خطاب توضيحي. اذكر من الزملاء انتقلوا عثمان عمر حمدان، عثمان ادريس نائب، ابوبكر منسعاي، احمد عبد اللطيف هندي، محمود محمد نجاش، محمود احمد صايغ.

في اليوم التالي، ناقشني منسق شئون الطلاب بخصوص الخطاب الوارد بشأني، ثم اخبرني انني سأخضع لنفس الامتحان الذي خضع له طلبة الصف السادس في العام الماضي، ولحين يتم ذلك الاستمرار في الصف السابع. وخلال يومين تم الاختبار وكانت النتيجة إيجابية. اما الزميل محمد سعيد فقد اقنعه والده بمساعدته في إدارة عقاراته في مصوع ومساعدة شقيقه في إدارة متجره في حرقيقو. ولكنه، عندما أعلنت الإدارة بعد مضي أسبوع انها لم تكن على علم بما حصل لنا وان بإمكاننا العودة، عاد الى المدرسة.

كان مدير مدرسة الأمير مكنن اثيوبي من قومية الامحرا يدعى طقي مدهن، سمعت انه وصل الى هذا المنصب بدعم من اندلجاشو ماساي الذي عمل ممثلا للإمبراطور في ارتريا ابان الحكم الفيدرالي لدواعي استخباراتية بعد ان كان مجرد مدير مدرسة ابتدائية. وفعلا كان على علاقة وثيقة مع المخابرات البحرية التي كان يتبادل معها الزيارة تقريبا بشكل تقريبا بشكل يومي. ويذكر ان المدرسة كانت تدار مباشرة من اديس ابابا وكل مدرسيها يأتون من هناك ويعودون اليها. ضخم الجسم، اجش الصوت، ارتجالي يفتقر الى التركيز والقدرة على تمييز الطلبة، عنيفا لا تخلو يده من عصا، عربيدا لا يتحرج من جلب غواني الى سكنه في الدور العلوي من المدرسة حتى اثناء الدوام، يقضي جل وقته يتجول بين الفصول او في زيارات خارج المدرسة.

كانت تحوى المدرسة المراحل الثلاث (الابتدائي، الوسطى والثانوي) ويبلغ عدد طلابها تقديريا نحو الف ومائتين، وجهاز تعليمي مكون من ارتريين، واثيوبيين، امريكان من (بعثة السلام الامريكـية - Peace Corps) وبضعة فرنسيين لتعليم اللغة الفرنسية. فيما يتعلق بالاختلافات بينها وبين مدرسة حرقيقو يمكن القول انها كانت أربعة: أولا، التعليم هنا مختلط بين الجنسين وهناك منفصل، ثانيا، الاجازة الأسبوعية في حرقيقو الخميس والجمعة وهنا السبت والأحد ولكن مع مراعاة أداء صلاة الجمعة، وحتى صلاة العصر لولا سوء استغلالها من قبل البعض، ثالثا، تعتبر اللغة العربية في حرقيقو لغة وطنية واللغة الامهرية ثانوية تدرس كمادة، وهنا الامحرية لغة وطنية ولا وجود للغة العربية. رابعا، رفع العلم في مدرسة حرقيقو من مهمة الفراشين، اما هنا يرفع وينزل بطابور ونشيد وطني.

كان البعض من الطلبة الجدد يحضرون الطابور ويؤدون النشيد الوطني كأمر واقع، بينما كان هناك من يتهرب ولا يدخل المدرسة الا بعد انتهاء الطابور، وكان معظمنا يعزو السبب الى تأخر الباص واعتقدنا ان عذرنا بات مقبولا الى ان صدرت تعليمات بإغلاق البوابتين في تمام الساعة الثامنة وعدم السماح لأى متأخر بدخول الفصل الا بتصريح من المسئول عن النظام والانضباط مع اعتبار تكرار التأخير لأكثر من ثلاث مرات غيابا يؤدي الى الفصل. عرفنا فيما بعض ان المسئول عن الانضباط راقب المحطة وعرف ساعة وصول الباصات ورأى بعض الطلبة يجدون في السير نحو المدرسة بينما يتلكأ اخرون لحين انتهاء الطابور.

لا اعرف لماذا كان اصرارنا على الاستمرار في المخالفة ولاسيما بعد التعليمات الصريحة. كان سور المدرسة من الجهة الغربية منخفضا جدا نتيجة ردم ترابي أقامه الطلبة الساكنين في هذه الجهة للتسلق بسهولة لاختصار المسافة، ومع مرور الوقت أصبحت بوابة رسمية للمتسللين الى المدرسة والمنسلين منها. سألني المدير في احد الأيام اثناء الفسحة عما اذا حضرت الطابور، وفورا اكدت له حضوري فسأل عمن رآني من الطلبة وهذا ما لم اعمل له حسابه، وبالصدفة سمعه بعض الزملاء فظنوا انه يسألني عن حضوري الحصة فشهدوا انهم رأوني، ولولا هذه المصادفة لوجدت نفس في وضع صعب، ومنذ ذلك اليوم دخلت المدرسة من ابوابها.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click