بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

قد لا يدرك المرء مدى قيمة المواقف الانسانية الا عندما يقع في محنة او يمر بازمة شخصية حيث يتلمس الى ما يشعره بإنسانيته ان لم

نقل بآدميته فيظل يتذكره ويذكره على بساطتها حتى لو صدر من اناس لا تربطه بهم صلة. وكم احسست بالامتنان لممرض السجن هيلي عندما قام في نفس الاسبوع الذي استثنيت فيه من العفو بتسجيل اسمي ضمن المرضى الذين سيعرضون على الدكتور بدون ان اشكو له من أي عارض صحي بالرغم من رمزية المبادرة وهي اقصى ما يستطيع تقدمه، لعله اراد بها اخراجي ولو لساعة من ذلك الحيز الخانق الى ساحة واسعة اقابل فيها من اعرف او اتعرف على من لا اعرفه من زملاء السجن. قضيت نحو ساعة وانا اتابع توافد العشرات من المرضى والمتمارضين من كل الاقسام وفي نفس الوقت اشاهد الحركة بين قسم مساجين والقسم الاداري دخولا وخروجا بدون التحدث او الاقتراب من احده طبقا للنظام المطبق على نزلاء قسم العزل والعقاب الذي كنت في، ولم يمنعني هذا من الاستماع الى يدورهم بينهم من نقاش. ومرت ساعة اخرى الى ان يحين دوري. اذكر من المناضلين الذين رأيتهم ورأيت الظلم متجسدا فيهم، على سبيل المثال : الشهيدين محمد حسن حسنو وعبد الرحيم محمد موسى المحكوم عليهما بالإعدام بتهمة المشاركة في عملية فدائية قامت بها الجبهة في اغردات عام 1962 لم يكن لهما فيها أي دور، كما رأيت الشيخ سعد الدين محمد مدير التعليم في وزارة التربية اعتقل بتهمة لم تكن له بها علاقة وكان شيخا مسنا ومن الشخصيات الاجتماعية المعروفة جدا في كرن.

في الحقيقة، لم يتوقع الدكتور الايطالي ان يدخل عليه معتقل في سني ناهيك ان يكون مقيدا يجر سلسلة، فلم يخف امتعاضه وتأثره حيث ظل يمط شفتيه، وقبل ان ارد على سؤاله واصل لم اعرف ماذا كنت سأقول، اخبره الممرض هيلي انني اعاني من حك شديد في العين، ولم افهم سبب اختياره هذا المرض الا عندما تم تحويلي الى مستشفى العيون في المدينة مع ان التحويل بصفة عامة لا يتم الا بعد عدة مراجعات. في تمام السابعة والنصف من صبيحة اليوم الثالث انطلقت بنا السيارة التي تقوم بتوزيع المرضى على المستشفيات الذي يراجعونها بداية من مستشفى العيون، لهذا وصلت بعد الثامنة بقليل مع ان الكشف لا يبدأ الا في التاسعة. كنت كمن يعيش في صحراء اتمنى ان يدخل شخصا اعرفه، وكلما تزايد العدد واقترب الموعد تضاءل املي حتى دخل يافع طالما رأيته في قندع. بالكاد جلس على كرسي حتى اندفع نحوي ليسلم علي بحرارة بدون الاستئذان من حارسي مع انه لم تكن بيننا اية علاقة، امتقع وجهه عندما مددت اليه يدي المقيدة، عاد الى مكانه واخذ يحملق علي وجهي بحرقة واضحة تشي بما يدور في خاطره. حتى هذه اللحظة لم يشعر من كانوا حولي انني سجين او على الاقل لم يشعروا انني مقيد اليدين والرجلين. بدا لي من طريقة جلوسه انه متوتر اما لعدم معرفته بانني معتقل او للانصراف بعد ان بدأت انظار وهمسات المراجعين تتنقل بيني وبينه حتى اشفقت عليه، ولكنه لم يفعل. وقف امام الحارس وقال له بكل ثبات انني صديقه وانه يريد ان يحضر لي زجاجة حليب، وخلال دقائق عاد حاملا زجاجتين من حليب آتشي الثانية للحارس، بوجه التقريب كانت قيمة الزجاجة الواحدة مع اعادة الزجاجة الفارغة دولار (بر اثيوبي) شربناها فيما بعد. بدون مبالغة، لقد اشعرني موقفه بالاعتزاز والثقة ان وراءنا جيل جدير بمواصلة المسيرة.

لم اعرف اسم هذا اليافع الا بفضل الاخ عبد الله عثمان قلاتي منذ عدة اشهر، انه الأخ العزيز محمد ادريس احمد دين المقيم في جدة، علمت منه انه عرف باعتقالي مع المجموعة عن طريق الاخ والزميل العزيز محمد صالح احمد (لخما) وانه نصحه بضرورة مغادرة البلد ومواصلة تعليمه في الخارج، وسعدت باستعادة بعض الذكريات معه فله خالص الشكر والتقدير على شهامته وموقفه الوطني والانساني في ظرف بالغة الدقة.

عكس مراجعي المستشفيات الاخرى الذين تجمعهم نفس السيارة في المستشفى العام، كان مراجعو مستشفى العيون يقطعون المسافة مشيا على الاقدام نسبة الى قرب المسافة. لحسن حظي كان حارسي من اطيب الحراس فلم يحثني على تسريع الخطى كما يفعل معظم الحراس ولم يتضايق من تجمهر بعض الاطفال والطلبة الصغار حولي ما كان يلفت نظر الكبار من المارة وخصوصا النساء اللواتي كانت دموعهن ابلغ من أي تعبير اخر بينما البعض الاخر منهن يرفعن ايديهن الى السماء، ما اعظم الام الارترية التي لم تميز يوما بين ابنائها.

لم تفلح الجهود الجبارة بذلتها الحكومة لتسويق ما اسمته العفو على انه عفو عام شمل كافة السجناء السياسيين بلا تمييز بين وانه بمثابة نهاية سلمية ونهائية لكل الارهاصات السياسية التي كانت قائمة، ولكن ما اقصر من حبل الكذب. كانت صدمتها كبيرة وكبيرة جدا عندما تجاوز عدد من عتقلوا او اعيد اعتقالهم خلال فترة مدة لا تتجاوز الشهرين اضعاف عدد المفرج عنهم. وهكذا سقطت الجزرة لترتفع على رؤوس الدميع عصا غليظة تقمع الانسان الارتري مسلما كان او مسيحيا، عسكريا كان او مدنيا، طليقا كان او اسيرا.
كان البند الاول في السياس الجديدة بث الرعب في المجتمع من خلال اعدام فوري لكافة المحكوم عليهم ومن سيحكم عليهم، بالطبع لم يكن القرار مفاجئا ولكنه جاء بأسرع من المتوقع. تم الاعلان عن حالة الطوارئ في كل الاقسام واخليت الغرف الصغيرة التي من نزلائها لمبيت من سيتم اعدامهم ليلتهم، ولهذا نقل الحاج محمد ايرا إلى زنزانة مقابلة لنا مباشرة. وبسبب تعارض مواعيد دخوله وخروجه مع مواعيدنا لم نقابله مع ان الممر الفاصل بيننا لا يتعدى عرضه نصف متر. كانت فترة حزينة وكئيبة جدا نتوقع فيها كل صباح خبر اعدام أحد الزملاء الذين ينتظرون دورهم وكأنهم خراف في حظيرة المواشي ليلة عيد الأضحى. كان الشهيد سعيد بشير او الشهداء حيث تم شنقه في سوق عداقة حموس في اسمرا، ثم تلاه الشهيدان محمد حسن حسنو وعبدالرحيم محمد موسى، ثم المناضل الشهيد امبايي حدرو واستمرت العملية وهكذا في كل يمر كان يقترب حبل المشنقة من رقبة الحاج محمد ايرا. مع انه لم يكن بمقدورنا عمل شىء، كان بعضنا يقضى ليلته يترقب سماع اية حركة أمام زنزانته وبدوره كان يدرك مدى قلقنا عليه فكان يتعمد إسماعنا تكبيراته اثناء التنفل ليلا.

بمناسبة تزامن عيد الفصح المسيحي مع عيد الأضحى المبارك في يوم واحد سمحت ادارة السجن باستقبال ما يحضره الاهالي من الاطعمة وكان الحراس قد اعتادوا استغلال الفترة ما بين دخول المساجين وخروجهم لتناول وجبة الغداء واحتساء الخمرة معا ولم يتسن للحارس في قسمنا مشاركة زملائه بسبب خروج الحاج محمد بعيد دخولنا ولهذا كان أمامه خياران: اما أن يحرم الحاج محمد من الفسحة أو أن يخرجه ويتركه في الساحة وحده، وللحالتين عواقب وخيمة، فاقترحنا عليه مع تقديم بعض الفواكه ان يترك الحاج محمد ايرا معنا في الزنزانة ريثما يعود، فكان اللقاء الأول والأخير معه. كان معي في نفس الزنزانة الزملاء صالح عبد القادر بشير، محمود صالح سبى، عثمان سيد رمضان حسين وانضم إلينا من الزنزانة الاخرى العم عبد الله محمد صايغ، صالح جابر وراك، احمد شيخ إبراهيم فرس، عبد الله محمد سعيد صايغ وطه إبراهيم حسين. كتب موضوعا مستقلا عن الحاج محمد ايرا وعن النقاش الذي دار معه خلال هذه الساعة تم نشره ولمن يريد قراءته يجده في موقعي. الحاج محمد ايرا اول اسير من الجبهة بعد ان اصيب وهو يقاتل العدو بسيفه اسمه سولاب.

في يوم الخميس من ذات الأسبوع وبعد صلاة المغرب، أعدنا اليه السيرة النبوية التي كنا نستعيرها منه كل اسبوع، استولى علينا سلطان النوم ونحن مطمئنين نسمع تكبيراته، وفي الصباح شعرنا ان يد العدو قد طالته وانه في جوار ربه في العليين ان شاء الله، رحم الله الحاج محمد ايرا وجميع الشهداء الابرار.

ابلغ القاضي قبل اسبوعين من موعد جلسة النطق بالحكم الاخ محمد سعيد بشير توصل المحكمة وبناء على الادلة والحيثيات والتهم الموجهة الى المجموعة الى تحديد المواد القانونية التي سيتم اعتمادها في اصدار الحكم، وانه بموجبها سيتم تبرئة ساحة اربعة من المجموعة وهم: عبد الله محمد صايغ، طه ابراهيم، عثمان رمضان وعثمان بدوي عمريت من اية تهمة، تبرئة صالح عبد القادر بشير من تهمة حيازة اية علاقة بالسلاح مع الحكم عليه بالمدة التي قضاها في السجن او اكثر بقليل، الحكم على كل من: صالح حابر وراك واحمد شيخ ابراهيم فرس بما يتراوح بين اربع وخمس سنوات، وعلى كل من عبد الله محمد سعيد صايغ ومحمود صالح سبى بأحكام مخففة لا تتجاوز سبع سنوات. حفاظة على السرية لم تذكر هذه التفاصيل حيث تم الاكتفاء بالاشارة الى نجاح المساعي وان النتيجة مبشرة، وكل منا فسر ما سمع حسب هواه وتقديراته الشخصية.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

• السابق
• التالي