ذكريات وتجارب - الحلقة السابعة والثلاثون

Samadit.com سماديت كوم

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

لقد كرت ايام الاسبوعين الباقيين اسرع من حبات سبحة، واخر زيارة للأهالي قبل موعد الحكم بيومين كانت عبارة عن تظاهرة حقيقية

كما ونوعا، جاء البعض لأداء الواجب قبل فوات الاوان والبعض الاخر بقصد الزيارة وحضور جلسة الحكم ثم العودة مع الموكب الميمون. ولربما كان هذا التفاؤل المفرط مستمدا من الروح المعنوية العالية التي تحلت بها المجموعة وبثتها في الاسر كجرعة معنوية وعاطفية بغرض التخفيف من وطأة معاناتها بعد ان تركتها ترزح تحت مسئولية اعالة اطفال ولد بعضهم وهم في السجن فضلا عن مشقة تربية الكبار منهم بدون عائل او معين.

عندما طلب الاخ الاستاذ محمد سعيد بشير شقيقه صالح منفردا، كما جرت العادة في بعض الامور المهمة، عصر يوم الاثنين قبل يوم واحد من الموعد رأينا فيه حدثا مهما اشرأبت له الاعناق وشنفت الاذان ولم تهدأ النفوس الا بعد عودته هادئا مبتسما كعادته ولكننا شعرنا انه مطمئن مع ان صالح من الصنف الذي لا يمكن ان تقرأ في وجهه شيئا عما يدور في داخله. ناول ترمس شاهي احضرها معه الى احد الزملاء واخبره انها من الشيخ (...) لم يسمح له بالمقابلة فطلب من محمد سعيد تسليمها له مع التوصية ان تشربها المجموعة كلها وهي ساخنة. تلقفها الزميل فرحا وصب لكل شخص ما تيسر، وبصرف النظر عمن احضرها فان احتساء كوب شاهي ساخن في ساعة العصرية نوع من الحلم في السجن وكان الزميل اكثرنا سعادة بالشاهي وبما فيه!

مع تصاعد الازمات والاعتقالات تبين ان الدجالين والمدعين لم يكونوا اقل استغلالا وابتزازا لضحاياهم من الاهالي السذج، ولم يكن خافيا على احد منا، مدى علاقة وتواصل الطرفين المستمر وثقة الزميل المطلقة في قدرات الشيخ الخارقة اكثر من ثقته في المساعي التي كان يبذلها المحامي والاخ محمد سعيد. فلو صبر الشيخ ليوم واحد ريثما تتضح له الصورة جلية لوفر على نفسه مؤونة السفر واحباط المعتقدين به، ولكن بما ان مهنة الجدل اقتضت منه سرعة الحركة فما ان نما الى علمه وتأكد من بعض الاشخاص الذين زارونا يوم السبت ان اطلاق سراحنا بات في حكم المؤكد شد رحاله الى اسمرا مدركا انه لن تسمح زيار شخصية، فأمضى امام السجن ساعات لعله يجد من يحترم سنه او مكانته او يجد وسيلة تمكنه من ايصال ترمسه وكان له ما اراد بوصول الاخ محمد سعيد، والغرض من وراء كل هذا العناء ليزعم لاحقا انه تمكن بقدرته الخارقة انتزاع المجموعة من فك الاسد.

فما لم يعرفه هذا الشيخ الذي ذاع صيته وانتشرت سيرته ان رئيس المحكمة ابلغ الاخ محمد سعيد صباح نفس اليوم انه تلقى تعليمات مكتوبة من ممثل الامبراطور حدد فيها مدد الاحكام التي ينبغي عليه اصدارها بحق كل فرد من المجموعة طبقا للمواد التي تقدم بها المدعى العام في بادئ الامر، وبالتالي، اعتذاره عن عدم الوفاء بما التزم به. كانت المدد على النحو التالي: عبد الله محمد سعيد صايغ، صالح عبد القادر بشير محمود صالح سبي، احمد شيخ ابراهيم فرس، صالح جابر وراك ’عشرون عاما‘، وكل من عثمان بدوي عمريت وعثمان رمضان حسين ’خمسة عشر عاما‘، وعبد الله محمد صايغ وطه ابراهيم حسين ’عامان‘.

احسن الاستاذ محمد سعيد صنعا عندما اطلعنا على المعلومة مسبقا والا لكان اثر الصدمة كبيرا ولما تم امتصاصه بالسرعة المطلوبة. فتعاهدنا على الا نبدى أي انزعاج او تـأثر اثناء النطق بالحكم حتى لا نؤثر على معنويات الأهالي والشعب ولاسيما ان جموعا غفيرة قد تحضر الجلسة.

وحسب ما تكشف فيما بعد، قابلت المباحث قبل بضعة ايام من الموعد ممثل الامبراطور واعترفت امامه بكافة الاخطاء الاجرائية التي ارتكبتها وانه ما لم يتم تدارك الموقف بسرعة قد تبرأ ساحة المجموعة من حيازة الاسلحة وتلقائيا افلاتها من العقوبة المستحقة، وان خسارة قضية بهذه الاهمية سترسل اشارة تشجع على ارتكاب جرائم مماثلة تهدد الامن الوطني بأسره. واستشهدت في سياق تأكيد اتهامها للسبعة الاول من المجموعة انهم ينحدرون من قرية واحدة ويرتبطون بصلة قربى وثيقة مع العديد من القيادات السياسية والعسكرية البارزة في الجبهة.

قضينا نحو ساعة في غرفة انتظار ملاصقة لقاعة المحكمة حيث احضر لنا الاخ عثمان اسماعيل سبي الذي تم اطلاق سراحه بعد قضاء اكثر من سنة في السجن. عندما افتتح القاضي الجلسة كانت قاعة المحكمة والساحة الامامية مزدحمة بشكل يوحي مدى الاهتمام العام بالقضية، وبعد ان ذكر في بضعة جمل اننا بصدد النطق بالحكم سأل ان كان لأي منا استرحام يتقدم به الى المحكمة لتنظر اليه قبل اصدار حكمهما وعندم لم يجد من يرد عليه رفع الجلسة لبضعة دقائق. وعندما استأنف الجلسة تحدث بإيجاز عن حيثيات القضية وكانت الاحكام التي اصدرها مطابقة لما كنا نعرفه: عبد الله محمد سعيد صايغ، صالح عبد القادر بشير، محمود صالح سبي، احمد شيخ ابراهيم فرس، صالح جابر وراك عشرون عاما سجن مع الأشغال الشاقة. وعلى كل من عثمان رمضان حسين وعثمان بدوى عمريت خمسة عشر عاما سجن مع الاشغال الشاقة، وعلى كل من عبد الله محمد صايغ وطه ابراهيم عامين سجن. وامام ذهول الأهالي الذين كانوا يتوقعون غير هذه النتيجة، غادرنا القاعة وانتهت الجلسة. الا ان البعض ممن لم يتابعوا الجلسات بدقة استنتجوا من إشارة النصر التي حيينا بها الحضور انه تم اطلاق سراحنا فبادروا بنقل البشرى الى مصوع ما ادى الى انتشار واستمرار خبر الافراج عنا لعدة ايام.

لم تكن العودة الى السجن هذه المرة كسابقاتها عندما كانت تراودنا احلام الفكاك منه قريبا، اما الان العودة بقصد الاقامة الى ما شاء الله. فور وصولنا ازيلت القيود من ارجلنا واستبدلت ملابسنا الخاصة بملابس السجن وتم تحويلنا الى قسم المحكوم عليهم حيث ادخل السبعة الاول في عنبر خاص بالأحكام الكبيرة - من مؤبد الى خمس عشر عاما بينما ادخل الاثنان الى عنبر خاص بالأحكام المخففة في نفس القسم.
وخلال ساعة ادركتنا الاسر الى السجن حيث سمح لنا بصفة خاصة مقابلة جميعها فكان منظرنا مؤثرا جدا انها لحظة مواجهة الحقيقة المرة حين تتلجلج الالسن ولا من يعبر عنها الا دمعات متحجرة وصمت لا يخلو من التفكر عما يخبأه الزمن. قال لي والدي بصوت متهدج ’الان عليك ان تثبت انك فعلا رجلا‘ محاولا تذكيري انه ينبغي علي تحمل مغبة عملي واخفاء نشاطي السياسي عنه وتسليم نفسي الى المباحث بغباء واضح. كنت اشعر انه يتحامل على نفسه حيث كنت الابن الذي كان يعول عليه بعد اغتراب شقيقي ودخوله المعاش. ولعل تناوب الصديقين على سيد عبد الله وحسن حمد امير على العائلة حتى لحظة التحاقهما بالميدان خفف عن العائلة اشياء كثيرة.

في تمام الساعة الثانية والنصف فتحت ابواب العنابر فتدافع المساجين الى الساحة وكانت هذه المرة الاولى التي نلتقي فيها بالكثيرين منهم. وبادر احدهم بالغناء والدق على صحون وسرعان ما اكتملت حلقت رقصة مرقدي‘ الشعبية فانخرطنا فيها بشكل حقيقي وليس للتمثيل ونسى الجميع مؤقتا موضوع الاحكام وتبعاتها على الاقل ظاهريا. حيث بدأنا منذ اليوم التالي التفكير في الجولة الثانية من الصراع القانوني.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click