ذكريات وتجارب - الحلقة السابعة والعشرون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
صحيح ان ’مصائب قوم عند قوم فوائد‘ كما يقول المثل، وصحيح ايضا ’عند قوم مصائب‘. كانت المجموعة الاخيرة التي نقلت الى
معتقل كازيرما موسولينى (Caserma Mussolini) اثناء تواجدي كانت من مصوع مكونة من سليم حسن كردى، محمد سيد باز، نجاش ابو علامة، سيد جعفر سيد باز وحسين احمد هندي وذلك لقضاء فترة النقاهة حيث كانت ايدي بعضهم شبه مشلولة ولاسيما سليم، وهو الوحيد الذي كانت لي معه علاقة شخصية، وعدد مماثل منها بقى في معتقل اجيب.
حسب ما اتضح من سياق الاحداث ان قائمة الاسماء التي سألني عنها بلطي في اليوم الاول من التحقيق من ضمنها هذه المجموعة، اعدتها المباحث بغرض البحث عن الاشخاص الذين يمكن ان تكون لديهم ميول سياسية وقدرة مادية لدفع اشتراكات شهرية للجبهة. ولكن بعد ان سقطت بعض الاسلحة في يدها عنه طريق عبد الله صايغ وبشكل لم تتوقعه، تفتحت شهيتها فنست موضوع الاشتراكات واصبح التحقيق والتعذيب على امتلاك اسلحة، وبينما تجد في هذا الاتجاه سقطت في يدها كمية ذهب كبيرة فاختلطت عليها الحسابات والاولويات!
اعترف احد المعتقلين تحت التعذيب انه فعلا كانت معه اسلحة ولكنه سلمها لشخص اخر، واعترف الاخر انه سلمها لأخر والاخر لآخر وتواصلت السلسلة الى ان قطعها الاستاذ بدري محمد علي. اقر بدري ان الاسلحة ما زالت بحوزته وانه على استعداد لتسليمها واخذهم الى مكان نائي خارج المدينة حيث بدأت المباحث في الحفر ثم الحفر ثم الحفر الى ان بلغ طول الحفرة قامة رجل وعندئذ قفز اليها بدري قائلا ’الان أهيلوا على التراب وادفنوني حيا.. انتم ترتاحون وانا ارتاح.. من اين آتي لكم بشيء لا اعرف عنه شيئا!‘. استشهد الاستاذ بدره في مذبحة حرقيقو الاولى عام 1975.
اما الملف الثاني الذي فتح عفويا وتعسر اقفاله فكان خاصا بالذهب. من مساوئ الصدف، اثناء تفتيشها منزل سيد جعفر بحثا عن سلاح مزعوم عثرت المباحث على كمية كبيرة جدا من جنيهات استرليني ما انساها الاشتراكات والسلاح فاصبح كل همها وتطاحنها حول كيفية اخفائها عن الحكومة وطريقة تقاسمه فيما بينها، ولكن بعد ابتزاز ومساومة صاحبها على إطلاق سراحه بدون كفيل مقابل عدم الاشارة اليها في اقواله حتى لا تطالب بها المحكمة ما لم يقبله سيد جعفر الى ان اذعن في الاخير للأمر الواقع وتم اطلاق سراحه مع اعطائه دراهم معدودة . اغترب سيد جعفر في المملكة العربية السعودية لفترة طويلة مارس خلالها انشطة تجارية وبعيد عودته الى ارض الوطن افتتح محلا كبيرا للقماش والملابس الفاخرة في مصوع وفي غضون اشهر تم اعتقاله.
فيما يتعلق بنجاش ابو علامة، فقد تعرض في الباخرة التجارية الاثيوبية التي كان يعمل عليها لاستفزازات سياسية متعمدة ومستمرة من قبل احد البحارة الاثيوبيين. وفي احدى المرات قام هذا بنفس العملية ولكن امام شهود سمع ردا مناسبا فاقسم على نجاش (زبان هيلي سلاسي) أي ’بحرمة هيلي سلاسي ‘ كما كان يفعل الاثيوبيون وبعض الارتريين فرد عليه نجاش ’انت وهيلي سلاسي تحت حذائي‘ ثم صعد الى سطح السفينة. وعندما لحق به وتلاسن معه، حسب ما قيل، قذف به جمال في عرض البحر ليختفي خلال ثوان، مع العلم ان نجاش كان ذا بنية جسمية قوية جدا ومعروفا بالمشاكسة وحدة الطبع. لم يكتشف غياب البحار الا في اليوم التالي ولم يعرف احد مصيره الا ان البعض ذكر انهم رأوه يصعد الى السطح بعد صعود نجاش بفترة بينما نفى نجاش ان يكون قد رآه البتة وتمسك بنفيه، فحكم عليه بسنتين نظير اهانة الامبراطور.
تقريبا في نفس اليوم الذي تم فيه اطلاق المجموعة، تم نقلي ومعي محمد باحبيشى الى معتقل سمبل تمهيدا لإطلاق سراحنا. كان هذا المعتقل عبارة عن غرفة متوسطة الحجم حتى بدون شبابيك حيث يتسلل اليها الهواء من اسفل الباب. سبقني اليها كل من سعيد ادريس باري، صالح احمد زبير، حسن ادريس بشير، عثمان رمضان حسين وعثمان محمد شلال. كان المصروف اليومي عبارة عن رغيف وكوب شاهي في الصباح وفى الغداء رغيفين وصحن شبه شيرو ومثله في المساء. وكل من عافت نفسه الاكل رمى بالرغيف في سلة، وكل من عصره الجوع عاد اليه. اما الحمام فكان مرة واحدة في اليوم في ساعة العصرية في ارض الله الواسعة وتحت تحت فوهة بندقية الحرس، فكانت تعود الغالبية كما ذهبت بسبب الخجل او لان معدتها خاوية تماما.
لربما كان في عصرية نفس اليوم الذي نقلت فيه الى هذا الموقع او عصرية اليوم التالي جيء بالأستاذ محمود صالح سبى في حالة مزرية بعد ان تم تعذيبه على قارعة الطريق على مرأى من اهالي حرقيقو. ذهب الى هناك لاستخراج اسلحة ذكر احد الزملاء انه اعطاها اياه، وبعد عناء شديد وحفر متواصل عادت المباحث بخفي حنين. الاستاذ محمود اول زميل التقي به واتحدث معه بأريحية، شرحت له وضعي بالتفصيل، وعرفت منه تفاصيل التداعيات التي حصلت والاسلحة التي ضبطت والزملاء الذين تم اعتقالهم. اعتبرنا احضاره الى المكان الذي اتواجد فيه ان المباحث لم تكتشف بعد مدى ارتباطي بالمجموعة، علما اننا كنا نشكل ثنائي من ناحية دفن الاسلحة فالمستودع الاول الذي سلمه في المرة الاولى والثاني الذي لم يتم العثور عليه كنا دفناه معا، ولو كشف هذا المستودع لعقد الامور حيث كانت فيه اسلحة لم يرد ذكرها. وفي الحقيقة لم اسأله السبب في عدم اخلائه المستودعين كما فعل بقية الزملاء، الشيخ سليمان شيخ حامد، الاستاذ ابراهيم جابر حسب الله، علي سيد عبد الله، حسن حمد امير، عثمان عبد المنان نائب ورمضان اولياي. عندما ذهبت الى المكان بعد الاستقلال لم اجد له اثرا بعد ان جرفت السيول المنطقة.
اقتادوا الاستاذ محمود في وقت مبكر من الصباح، وفي عصرية نفس اليوم جيء بالشيخ عبد الله محمد صايغ احد الشخصيات الاجتماعية المعروفة في مصوع. كان رجلا اجتماعيا من الطراز الاول بشوشا يضحك من كل قلبه يتعامل مع الجميع وكأنه يعرفهم من فترة طويلة. بعد ان عرف نفسه من باب المجاملة سأل من لم يعرفهم عن اسمائهم. قهقه عندما له ذكرت له اسمي وقال انه كان زميلا وصديقا لعمى احمد عمريت وانهما عملا معا لفترة طويلة في شركة ملاحة بحرية اسمها شركة لوي تليستينو قبل ان يحال الى المعاش وينشئ معمل للحلويات والعصائر في عداقة مع بعض الذكريات اللطيفة. خلال دقائق اصبح العم عبد الله نجم الغرفة واضفى اليها جوا من روح التفاؤل والمداعبة.
وفجأة قطع كلامه والتفت الي ليسألني اذا كنت اعرفه، اخبرته انني فعلا اعرفه. مع ابتسامة عريضة تنم عن الاعتزاز بالنفس قال ’ايوه.. ايوه طبعا.. طبعا‘ ثم واصل حديثه، ولكنه عاد الي وكأنه تذكر شيئا وسألني اين عرفته. أخبرته انه جاء اواخر شعبان الى حرقيقو لتوزيع الشربات، واني كنت احد الاشخاص الثلاث الذين نقلهم معه الى عداقة. ضحك مجددا وقال ’حقا كنت احدهم‘ وانتقل الى موضوع غيره ثم عاد يسألني عن هوية الشخصين اللذين كانا معى فأخبرته انهما زميلان في الدراسة. كانت هذه الحادثة (قبل نحو شهرين) في اليوم الذي ذهبنا فيه الى مصوع لإبلاغ زميلنا عثمان عبد المنان بخصوص الغاء العملية الفدائية التي كان مكلفا بتنفيذها خلال احتفال عيد ميلاد الامبراطور كما ذكر فيما سبق.
كان العم العبد الله من الشخصيات الوطنية التي دأبت الحكومة على اعتقالها كلما قام الامبراطور هيلي سلاسي بزيارة مصوع. وبما انه اعتقل مرات عديدة، كان متفائلا جدا الا تختلف ظروف ومدة اعتقاله هذه المرة عن سابقاتها، فقال لنا ممازحا ’اسمعوا انا جئت لإخرجكم وانه سوف يضع كل منا في جيب من جيوب سترته الطويلة وحدد لكل واحد جيب وعندما جاء دوري قال ’انت يكفيك جيب الساعة!‘ وضحكنا طويلا ولربما لأول مرة، وبالفعل استطاع ان ينسى المجموعة حالها، فقلت له ’يا عم عبد الله الظروف هذه المرة تختلف كثيرا‘. قال ’لا.. ولا يهمك.. سترى كيف اخرجكم!‘. امتدت علاقتي الوثيقة جدا بالعم عبد الله من هذه اللحظة الى يوم وفاته بعد اكثر من عشرين عاما حيث سكنا معا في جدة لسنوات وكونا علاقات اسرية قوية.
وفى صبيحة اليوم التالي ادخل الينا الشاويش بيان شخصا وفي نفس الوقت استدعاني الى خارج الغرفة ليخبرني ان الشخص الذي دخل اسمه حسن وطلب مني التقرب اليه والحصول منه على معلومات خاصة بنشاطه السياسي. ابديت له استعدادي ووعدته ببذل المستطاع. كان هذا الشخص المناضل حسن ابراهيم عيسى عضو لجنة اغردات احضرته المباحث الينا ظنا منها اننا لا نعرفه. عندما رآني حسن لحظة دخوله اصيب بنوع من الارتباك والقلق وجلس بعيدا في زاوية متظاهرا انه لم يراني او لا يعرفني. وبعد مضي حوالي ساعة اقتربت منه وسلمت عليه واخبرته بظروف اعتقالي وتطوراتها حتى اطمأن ثم اخبرته ما طلبه مني الشاويش بيان بخصوصه، ومن باب المداعبة، طلبت منه ان يزودني بمعلومات دسمة تفيدني في باكورة عملي، وضحكنا. ومن باب الاحتياط ذكرت له انني علمت ان احد الزملاء ذكر ضمن اعترافه ان صالح بشير ارسل آلة ناسخة (رونيو) الى اغردات ولكن صالح انكر التهمة وانه ليس هناك من بتفاصيل العملية. الاسلت هذه الناسخة الى اسمرا واستلمها الأستاذ الامين كرار وهو بدوره سلمها للأستاذ محمود محمد صالح رئيس لجنة اغردات. بالمناسبة تعرفت على الاخ حسن ابراهيم في منزل الاخ ادالا شهابي عندما ذهبت الى اغردات مع بعض الزملاء في مهمة سياسية كما ورد سابقا. وخلال بضعة ساعات نقلوه الى معتقل اخر، وكل ما قاله لي عن نفسه ان المباحث اقتادته في صبيحة نفس اليوم من مكان عمله في المحكمة بدون ابداء أي سبب.
عصرية نفس اليوم استلم بعضنا ممن لهم اقارب في اسمرا غيار ملابس وصابون وامواس حلاقة استعدادا لإطلاق سراحنا في صبيحة اليوم التالي. وبعدها بساعة تم نقلنا الى مركز عجيب للتوقيع على بعض الاوراق. بينما كلنا جلوس في جو احتفالي عفوي نتبادل التهاني والقبلات مع من انهوا الاجراءات كما يفعل الطلبة يوم تخرجهم حدث موقف ما كنت لأعيره أي اهتمامه لولا شعوري بانقباض مفاجئ فتنبهت وشاهدت بأم عيني واشيا متلبسا اعاد قضيتي الى المربع الاول. تجمدت في مكاني، لا اذكر انني ودعت احدا او احد منهم افتقدني، ولعلهم لا يعرفون حتى هذا اليوم ماذا حصل في تلك اللحظة من ذلك اليوم.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.