ذكريات وتجارب - الحلقة السادسة والعشرون

Samadit.com سماديت كوم

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

كان معتقل كازيرما موسولينى (Caserma Mussolini) اصغر بكثير من معتقل أجيب، عبارة عن عمارة يشمل حوالي ثماني

غرف تحت الارض، متفاوتة الاحجام، معظمها مظلمة الا من ضوء خافت يتسلل اليها من الممرات يصعب فيه معرفة اذا كان الوقت ليلا ام نهارا مع نظام تهوية ضعيف جدا يحس فيها الانسان بالاختناق وكأنه داخل صندوق كبير. كل المعتقلون الذين سبقوني اليه كانوا ممن انتهى التحقيق معهم ويقضون فترة نقاهة حتى تختفي اثار التعذيب الذي تعرضوا له تمهيدا لإخلاء سبيلهم او تحويلهم الى محكمة. ولكن مع تجاوز اعداد المعتقلين الجدد القدرة الاستيعابية لمركز اجيب بدأ تحويل بعضهم الى هذا المعتقل ليقضوا نهارهم ثم ينقلوا في المساء الى اجيب للتحقيق ويعادون مرة اخرى.

كان مدير المعتقل الكابتن الهادي محمد نور ابو علامة ولكن سرعان ما تم تغييره، اما المشرف على الحركة اليومية فكان عسكري برتبة شاويش يساعده عدد من الحراس. كانت الغرفة التي ادخلت فيها نوعا ما كبيرة ولم يكن فيها سوى الاخ محمد باحبيشي، ذكر انه تم نقله الى هنا فور انتهائه من التحقيق وانه موعود بإطلاق سراحه بكفالة.

كان هذا الشاويش كثير التذمر من النزول والطلوع، لهذا طلب مني في اليوم الثاني مساعدته في اخذ المعتقلين تحت التحقيق الى الحمام واعادتهم، توزيع الطعام الذي يحضره الاهالي من المكتب ثم اعادة الاواني، في الاصل توكل هذه المهمة الى شخص غير متهم في قضية بسياسية واذا لم يتوفر فشخص على وشك اطلاق سراحه مع اخذ عامل السن في الاعتبار. وبطبيعة الحال يتطلب ممن يقوم بهذه المهمة التواجد المستمر بين الغرف وبعبارة اخرى الاحتكاك مع الاخرين. في الحقيقة، كنت اشك في ان المبادرة ذاتية من الشاويش وليست بإيعاز من بلطي لحاجة في نفسه ومع هذا قبلتها.

جاء الاختبار الاول اسرع مما توقعت. وصل شابان في اواسط العشرينيات تم ايداع كل منهما في غرفة بعيدة عن غرفة زميله ونبهني الشاويش الا اتيح لهما فرصة للمقابلة حتى اثناء الذهاب الى الحمام. في اقل من نصف ساعة طلب احدهما الذهاب الى الحمام فأرشدته الى المكان ولاحظت انه كان مهتما بمعرفة مكان زميله اكثر من اهتمامه بمكان الحمام. ولم يتأخر الثاني في القيام بنفس المحاولة الفاشلة. كان هذا كافيا ان ادرك انهما سياسيان فأصبحت في حيرة، هل هما مخبران يمثلان ام سياسيان يحاولان توحيد اقوالهما قبل التحقيق. شعرت انه يتحتم علي مساعدتهما بإخراج احدهما بصرف النظر عما سيترتب على العملية الا انني تراجعت عن الفكرة لمحاذير كثيرة، سلمت على احدهما وعرفته باسمي وانني من حرقيقو اتهموني بالسياسة وسيطلق سراحي بكفالة، فرح الاخ بما سمع وذكر ان اسمه موسى اراحو واسم زميله تكو حدجو وانهما معلمان ورجاني ان انقل اليه ما يقوله. وهكذا بدأت اسعى بين الاثنين، ومع ان الموضوع كان متشعبا والاسماء كثيرة وبعضها يصعب حفظها بذلت ما وسعني من جهد.

حوالي الساعة الرابعة وبالكاد انتهيا من تقاسم الادوار، تم اقتيادهما الى مركز اجيب ولم يعادا الا بعد منتصف الليل يترنحان كالمخمور ولكن في معنويات عالية. تسللت من غرفتي بعد ان صعد الحارس الى مكتبه واعطيت كل منهما قطعة من دهان من المفترض ان يعطيه الحراس كل من انتهى التحقيق معه فور وصوله لمحته بالصدفة في المكتب عندما صعدت لإيصال بعض الاواني فسألت الشاويش ان كان يحق لي اخذ بعضا منه فسمح لي. عندما قام الشاويش بتقييدهما في مساء اليوم التالي لنقلهما الى مركز اجيب لاحظ الدهان على ايديهما، لم يقل لي شيئا ولكن نظرته كانت ذات مغذى.

صبيحة احد الايام اخبراني انه لربما يطلق سراحهما ويؤتى بزميل لهما يدعى عامر(مشلخ) وطلبا مني ابلاغه كل ما عرفته وسمعته منهما. لم يكن زميلهما المرتقب سوى الشهيد عامر طاهر شهابي وهو ايضا كان معلما. لم تكن بيننا معرفة شخصية الا إنني قابلت شقيقه الاخ ادالا - عضو لجنة - في اغردات عندما ذهبنا في مهمة كما ورد سابقا، وبالتالي كان التعامل بيننا بدون تحفظ. لم يكن عامر احسن حظا من زميليه من حيث التعذيب كما لم يكن اقل منهما جلادة وتم اطلاق سراحه. علمت فيما بعد ان هؤلاء الثلاثة كانوا من انشط العناصر الوطنية ومن القيادات البارزة في الميدان. للأسف استشهد عامر طاهر شهابي في الحرب الاهلية، واختفى تكو حدجو في نفس الفترة تقريبا بين مدينة طوكر في السودان والميدان اما موسى اراحو سمعت انه في القضارف في السودان.
اختفى بلطي لعدة ايام لم يكن له فيها حس ولا خبر، كما يقول المثل، حتي تزايدت بل تضاعفت ظنوني السيئة، ولم اهدأ الا عندما قابلت والدى في الشارع بعيدا عن المعتقل حيث تحدثنا لأكثر من ساعة بدون حراسة، على الاقل، ظاهريا. اخبرني انه تلقى اشعارا من المباحث تطلب فيه ايجاد كفيل لإطلاق سراحي وانه اتفق في هذا الخصوص مع العم بدير حمد بدير باعتباره من الشخصيات الاجتماعية المعروفة في اسمرا ويمتلك محل صياغة ذهب في شارع السلام في اسمرا. وبعد تردد، ابلغني تحيات شخصين وقال انهما يحيياني على ثباتي .. الخ (...). كلاما صادما وغير مسئول من اناس لم تكن لي بهما اية علاقة او صلة حتى يعرفا ما فعلت وما لم افعل، وحتى لو احسنا الظن فلم المجاهرة بمديح لا يقل عن تجريم في وقت اسعى فيه لإثبات براءتي.

الزميل الفدائي محمد عثمان ابراهيم طمبار اعتقل في مدينة كرن مع زميليه الفدائيين محمد احمد عوض وادم ادريس شكر بعد ان ارتابت في امرهم امرأة بدون تهمة محددة. عندما تبلغ والده في اغردات الخبر حضر وقابله في المعتقل، وقبل ان يعود اسر الى صديق له سبب مجيئه الى كرن. وفي اليوم التالي قرر الصديق القيام بالواجب فذهب الى المعتقل، وعندما قيل له انه لا يوجد شخص بالاسم الذي قدمه، اصر وتعصب الى درجة استدعاه الضابط ليفهمه انه فعلا ليس لديهم معتقل بهذا الاسم، ولكن عندما ذكر الصديق انه فعلا موجود بدليل ان والده زاره في اليوم السابق هنا ارتاب الضابط في الامر وسأله ان كان يعرفه شخصيا فلما اقر اوقف كل المعتقلين صفا امامه وسأله ايهم صاحبه، فأشار اليه وكأنه يثبت كذبتهم. ما لم يعرفه هذا الصديق الوفي والساذج في نفس الوقت ان محمد عثمان الغى الكناية ’طمبار‘ من اسمه واكتفى بمحمد عثمان ابراهيم لان الحكومة كانت تطارده باسم محمد عثمان طمبار بتهمة اغتيال ضابط برتبة كولونيل في اغردات. حكم على الثلاثة بالإعدام والمؤبد.

ما قاله الشخصان وما قرأته في محي والدي من القلق الكبير ولاسيما انه من الاشخاص الذين لا يستطيعون اخفاء ما في داخلهم , اوصل روحي الى الحضيض وتمنيت ان اكون مخطئا في تقدير الامور. وهروبا من هذه الاجواء الكئيبة، بدأت اختلاق مشاعر ومناظر خيالية رأيت فيها نفسي اتفسح مع أصدقائي في السوق واذهب الى المدرسة واروي ما كان وما لم يكن من اخبار العالم الاخر، واستعدت الكثير من ذكريات شقاوة الطفولة في المناسبات والزيجات ومواسم الحصاد الى درجة انني كنت اضحك لأول مرة .. ولم تدم هذه الحالة طويلا حيث اطلت صدمة جديدة برأسها قلبتها الى كوابيس حقيقية.

كانت حوالي الثامنة مساء وبينما استعد للنوم والحلم، دخل الى الغرفة الأخ عبد الله محمد سعيد صايغ - عضو اللجنة، بالفعل لم اصدق عيني، والاسوأ انه سلم بلا مبالاة وكأنه يراني لأول مرة وجلس بعيدا في احدى الزوايا ثم اخرج مصحفا وبدا يقرأ وكأنه دخل جامعا. في البداية استحسنت تصرفه واعتبرته حركة ذكية لدواعي امنية ولكن مع مرور الوقت لم استطع تمالك اعصابي فاقتربت منه وسألته عن سبب اعتقاله، وجدته هادئا جدا واثقا الى درجة انه لم يسألني عما حدث معي ولا اذا ذكرت اسمه في التحقيق اسوة بما يفعله أي معتقل جديد مع زميل سبقه. كل ما قاله لي ان الملازم بلطى التقى به في مصوع قبل ثلاثة ايام وطلب منه الحضور الى رئاسة المباحث في اسمرا ولهذا قضى يومه معهم ثم احضروه الى هنا للمبيت وسيغادر في الغد. ثم سألني عن المواعيد التي يأتي فيها بلطي في العادة. استغربت في هدوئه و اهتمامه بحضور بلطى وعدت بخاطري الى ما لاحظته في وجه الوالد.

قضى عبد الله جل ليلته يقرأ الى لحظة استدعائه حوالى العاشرة صباحا بينما انا قضيت ليلتي بكاملها ثم ويومي مشتت الذهن لم استطع الاستقرار على رأي عما اذا كان احضاره الى نفس الغرفة التي انا فيها دليل على انهم لا يربطون بيننا ام هي عملية مقصودة، وما هو المقصود اذا كانت كذلك، عشت في بحر من الاهوال اتخبط يمينا وشمالا، اترقب عودته بفارغ الصبر. وعندما حل الظلام تنفست الصعداء ونمت مطمئنا مقنعا نفسي انه تم اطلاق سراحه كما كان يتوقع وانتهى الامر. لست ادري لماذا لم افترض انه لربما نقل الى معتقل اخر. الإنسان في مثل هذه الحالة يغلب رغباته على حقائق ماثلة امامه، نسيت امره وتشاغلت مع معتقلين جدد.

اعتقد كانت هذه المجموعة من كرن تم توزيعها على ثلاث غرف. كالعادة نبهني الشاويش الا اسمح لهم الاتصال ببعضهم. كان من بين المجموعة شخص صاحب تجارب في المعتقلات حسب ما بدا لي او جرئ جدا، بالكاد دخلوا الغرفة حتى طلب الذهاب الى حمام واثناء عودته تباطأ وبدون ان يلتفت اعطى بصوت خافت ولكنه مسموع وبسرعة بضع توجيهات لمن يعنيه الامر. ولاحظت ان الامر يستدعي اكثر من هذا، اللاشعوريا طلعت الى الشاويش واخبرته ان المجموعة الجديدة تريد ان تصلى فقال ’دعها تصلى‘ فانتهزت الفرصة وفتحت لهم ابواب الغرف واصطفوا وسط الردهة، كانوا على ما اذكر ستة، وبدون وضوء او تحديد القبلة ودخول الوقت أمهم نفس الشخص وبدأ يحدثهم باللغة العربية - وكأنه يقرأ القرءان جهرا - بما ينبغي ان يقوله كل منهم والتمسك به، ثم خلفه في الامامة اخر حسب الاهمية، وبينما الثالث يتحدث ’يقرأ‘ سمعنا وقع صوت حذاء الشاويش حيث كانت احذية العساكر في هذا الوقت من جلد تحدث صوتا كما تفعل حوافر الفرس على الاسفلت‘ فعرفنا انه نازل فخرت المجموعة راكعة ثم ساجدة تتمتم. وجدني واقفا امامهم ’امنعهم من الكلام!‘ عنفني بشدة وقال انه وافق على ان يصلى كل واحد في غرفته، ثم كرر وأكد علي تعليماته على عدم تمكينهم من الحديث ومر الى بقية الغرف، وبقى الرابع وكان دوره حاسما وخشينا ان يرجع الشاويش سريعا وربما انتظر حتى ينهوا صلاتهم ويدخلهم غرفهم. فكان لابد من مغامرة . توقف الشاويش اثناء عودته امام الامام - الشخص الرابع - شك في كونه نفس الشخص الذى رآه ساجدا عندما مر ام غيره ولكنه لم يتكلم ومضى في طريقه. ومرت المغامرة بسلام.

اعتقد انني عندما قمت بهذه المغامرة كنت يائسا من اطلاق سراحي بعد التطورات الاخيرة، والا فلم كل هذه المجازفة التي علم بها بلطي لتوقف عليها طويلا ولربما ترتب عليها اجراء لا يعلم مداه الا الله. اقتيدت المجموعة في المساء ولم التق بأحد منها بعد.
كنت اسير في احدى الليالي الى حمام عندما سمعت صوتا ضخما يناديني باسمي فألتفت ولم ار شيئا والجميع نيام، قلت في نفسي لربما انها اشباح او ارواح من قضوا في التعذيب كما تقول بعض الاساطير، وتكرر نفس الصوت اثناء عودتي وعرفت انه يصدر من شباك غرفة داخلية مظلمة لا يدخلها الضوء الا من ممر جانبي وكان شباكها اعلى من قامتي بكثير. فتراجعت الى الوراء فاذا بي اسمع صوتا يقول ’الا تراني .. انا احمد شيخ‘ سألته من احمد شيخ فرد بصوت عال جدا وانفعال شديد مع انني كنت قريبا منه وكأنه يوبخني على عدم تمييز صوته قائلا ’اناتو احمد شيخ ابراهيم فرس!‘ مع اني اعرفه وتعاملت معه الا انني لم اعرف ان صوته بهذه الضخامة ومما ساعد في هذا الصدى الصادر من غرفة وموقع مكتومين . فهمت منه وياليتني لم افهم. فهمت ان الاخ عبد الله محمد سعيد اعترف وسلم الاسلحة وتم القاء القبض على كل الزملاء. لم تسمح لي حالتي ان أسأله متى وكيف ومن اذ بدأت رجلاي تخوران والمكان يدور حولي، فاكتفيت بإخباره بصوت خافت انني لم اذكره في التحقيق وتمنيت ان يعمل كذلك، وذهبت الى غرفتي في اسوأ حالة مررت بها منذ اعتقالي. وعندما استيقظت في الصباح لم يكن احمد شيخ في غرفته.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click