ذكريات وتجارب - الحلقة الثامنة والعشرون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
ذكرت في الحلقة السابقة ان المجموعة التي نقلت معها الى رئاسة المباحث - اجيب - لإنهاء اجراءات إطلاق سراحنا صبيحة اليوم
التالي تكونت من سعيد ادريس باري، صالح محمد زبير، حسن ادريس بشير، عثمان رمضان حسين، عثمان محمد شلال ومحمد حمودة (باحبيشي)، وانه بينما كنا في جو احتفالي عفوي حدث موقف ما كنت لأعيره أي اهتمام لولا انني شعرت بانقباض مفاجئ لفت نظري الى واش متلبس اعاد قضيتي الى المربع الاول.
بالفعل كانت لحظة بدأنا نستنشق فيها نسيم الحرية ونرى انفسنا خارج غياهب المعتقلات واغلالها بعد ان سقطت هيبة المكان الذي طالما ارتعشنا كلما استدعينا اليه او اقتربنا منه وحتى اذا سمعنا اسمه الى درجة انني لم الق بالا لمرور الشاويش بيان السيء السمعة امامي متجها الى مكتب اخر الا عندما لحق به محمد باحبيشي وهمس في اذنه ثم تبعه الى مكتبه، مع ان من يعرف حقيقة هذا المجرم يتمنى الا يراه حتى في منام ناهيك ان يتودد اليه واعيا، ومع هذا لم ار في ما حصل اية غضاضة تستحق التوقف ظنا انه لا يعنيني من قريب او من بعيد. وبأمانة، لست ادري حقيقة لماذا ربطت بين ما شعرت به وحركة حمدو حتى اخذت اتحين خروجه، ولا لماذا ناديت على الشاويش بيان اثر خروجه بعده بقليل ’ابوي بيان.. ابوي بيان‘ (عمي بيان عمي بيان!) بل لا اعرف ماذا كنت سأقول له بالضبط.
كانت ردة فعل الشاويش بيان غليظة اذهلت الحضور ’ابوخا ايعبخا‘ بما معناه (ثكلتك امك) ’بينما نحسبك غلاما لم يتجاوز حرقيقو واذا بك قد وصلت الى اغردات!‘. عندها تيقنت ان محمد باحبيشى نقل الى الشاويش بيان وجود معرفة، ان لم تكن علاقة، بيني وبين حسن ابراهيم. ومما عزز لدي هذه القناعة تذكرت انه لم يتعرض لأى تعذيب كما حصل مع سعيد بارى ومعي حيث تم نقله مباشرة الى معتقل كازيرما موسولينى Caserma Mussolini حسب ما ذكر لي بنفسه، واكثر من هذا كان الاخ سليم حسن كردي قد ذكر لي ان المباحث عثرت في منزل حمدو على مسدس حكومي ونصحني بتوخي الحذر في الحديث معه.
في الوقت الذي أعيدت فيه المجموعة الى معتقل سمبل ومن ثم تم اطلاق سراحها كما كان مقررا، تم نقلتني ومعي العم عبد الله محمد صايغ مباشرة الى قسم التعذيب. ظل العم عبد الله محتفظا بتفاؤله واستمر في تشجيعي وتطميني انه لن يتخلى عني ولن يخرج الا وانا معه، ولهذا لم اتجرأ على اخباره طبيعة القسم الذي نحن فيه، وسرعان ما اقتاده الزبانية الى داخل الغرفة. استيعاب الموقف بطبيعة المفاجئة لم يكن بالأمر السهل، وعلى عجل وبدأت في ترتيب افكاري وتحديد اقوالي على اساس ان انكر رؤية حسن ابراهيم من قبل، وان التقرب منه هذا اليوم انما كان بغرض استدراجه بإيعاز من الشاويش بيان، وان زيارتي لاغرادت كانت عابرة لبضعة ساعات ضمن رحلة شملت كرن وتسني وذلك تفاديا لذكر اسم الفندق الذي نزلت فيه بصحبة الزميل رمضان عثمان اولياي، واذا بصرخة قوية من العم عبد الله تبعثر ما كنت احاول تجميعه . ما اشد ايلاما من مشاهدة او سماع انسان يعذب فما بالك اذا كان في مقام وسن العم عبد الله، ولولا انه يعتبر مني مبالغة، لقلت ان وقع الصرخة على نفسي فاق ما شعرت به وانا امر بنفس التجربة.
لعل اهم الدروس المستفادة من هذه الفترة كانت سرعة احتواء الانفعالات العاطفية وتجاوزها الى مواقف او مواضيع معاكسة يمكن ان تخفف عني او تسليني ولو لبرهة، وكان اقربها واغربها ما حصل عندما كنت مع مجموعة مصوع. ساده الغرفة في احد الايام صمت رهيب بدت معه وكأنها خالية من بشر، فحاول الاخ سليم كردي كسر الجمود القاتل من خلال سؤال وجهه الى العم حسين هندي عن سبب التفاته الى الاخ نجاش ابو علامة كلما يدعو ’اللهم اصرفه عنا الى من هو اقدر به منا، حوالينا ولا علينا!‘ فثار نجاش وهاج واتهم العم حسين انه يبغضه ويحسده.... الخ فرد العم حسين ’ يا راجل استهدي بالله نحن اخوة وليس بيننا عداوة ‘ ثم التفت الى سليم قائلا ’ربي هلا ديبك.. ربي هلا ديبك اقل تبائسنا‘ وبالفعل كانت مبادرة موفقة من سليم انعشت الجو وتبعتها مجموعة من الطرائف عن مغامرات البحارة ومخاطر البحر تستحق ان تجمع في كتاب.
عندما خرج احد الزبانية بعد اكثر من ساعة، تهيأ لي انه يناديني، ولكنه مضى في طريقه ثم عاد يتبعه الزملاء: صالح عبد القادر بشير، عبد الله محمد سعيد صايغ، احمد شيخ ابراهيم فرس، محمود صالح سبي، صالح جابر وراك وطه ابراهيم حسين ثم طلب منهم ان يحملوا العم عبد الله الى السيارة. كانوا ينتظرون في قسم التحقيق بعد ان وقعوا على اقوالهم النهائية لتحويل ملفهم الى المحكمة في اليوم التالي. وجدوا العم عبد الله في شبه غيبوبة ممدودا طولا وعرضا كأنه عمود. رفعه من الارض ثم حمله على الاكتاف كانت عملية صعبة جدا بالنظر الى بنيته القوية وطوله الفارع، وفي الاخر حمله اثنان من الكتفين واثنان من الوسط واثنان من الرجلين وبقيت انا في مكاني أهيئ نفسي لما هو قادم الى ان خرج الشاويش بيان وطلب مني سرعة اللحاق بهم، ومع انني لم اصدقه اسرعت الخطى لأجدهم في وضع اسوأ بعد ان اعياهم الحمل فنادى صالح وراك ’يا حجي عبد الله.. يا حجي عبدالله.. اذا ما زال فيك رمق من فضلك أنزل عن اكتافنا لقد هديت حيلنا، واما اذا توفاك الله فلا اله الا الله‘ ثم بدأ الجميع يردد ’لا اله الا الله..لا اله الا الله ‘ ولعل التهليل طرق اذنيه، حرك العم عبد الله رأسه فانزلوه واخذ اثنان يسندانه من الجانبين وهو يسحب رجليه.
وهكذا عدت مع المجموعة الى غرفتهم في معتقل كازيرما موسولينى Caserma Mussolini، حيث وجدت فيها كل من العم هاشم رمضان والاخ عامر طاهر شهابي ومواطن من جنوب السودان يدعى جون كيري. لم يكن مستغربا ان يبادرني العم هاشم بكلام يتسم بالعصبية، وهو محق، وبما انني كنت اعرف طبيعته وطيبته، شرحت له بأسلوب ودي ملابسات القضية وان المباحث كانت مصممة على ابتزازه عن طريقي كان او غيري، وانه ليس في ما قلت ما يحاسب عليه القانون.
كنت اعتقد ان عامل الزمن هو الذي انقذني من التعذيب في هذه الليلة وانني لا محالة سأمثل امام محقق في اليوم التالي ولم اتوقع ان يكون في الساعة الثامنة صباحا ما اثار في نفسي شكوكا كثيرة خشية ان يكون الموضوع اكبر مما تصورت واستعدت له. عندما جاء الشاويش ليقيدني تمهيدا للذهاب الى اجيب، كان يتوقع شخصا اخرا حيث لم يكن مناوبا عندما جئنا بالليل ففوجئ حتى تعقد لسانه واخذ ينظر الي ويهز رأسه لربما كان يستدرك ما قمت به اثناء مساعدتي له عندما كنت في هذا المعتقل، وفي الاخر قال ’نسخا!‘ - أهذا انت! ’كنت سأفقد بسببك وسام استحقاق ثلاثين سنة خدمة‘ فقلت له مبتسما ’اهو نظير حراستكم لنا‘ فرد بنبرة ونظرة حادة ’وايضا تعرف تتكلم‘!.
لم يكن الاستدعاء الى رئاسة المباحث للتحقيق ولا للتعذيب انما للتوقيع على اقوالي كما هي بعد ان وجدت المباحث نفسها في مأزق قانوني: بداية اعتقلتني بدون استصدار اذن من المحكمة لان كل ما كان لديها شبهة، ولم تستطع بعد انقضاء فترة الاحتجاز المبدئية - ثلاثة ايام - تقديمي الى محكمة طلبا للتمديد، لأنها لو فعلت ذلك لاطلقت المحكمة سراحي لان الاعتقال غير قانوني فضلا عن عدم وجود جريمة يعاقب عليها القانون. لهذا، كان وعد بلطي بإطلاق سراحي جديا ولم يكن خدعة كما اعتقدت. اما الان وبعد ان تلقت معلومة مؤكدة رأت فيها دليلا كافيا على نشاطي السياسي، اضطرت الى تقديمي الى محكمة ولكن تسريب ملفي في ملف الزملاء بالرغم من عدم وجود رابط قانوني بيننا سوى فقرة خرقاء دستها في اقوال احد الزملاء يعترف فيها انه التقى بالجبهة في منزلي. فلو كان هذا الاعتراف صحيحا لاعتبرته المباحث شاهدا ينسف اقوالي نسفا ما يؤكد انها مستحدثة في نفس الليلة.
لا يمكن ان يكون التحويل الى محكمة النهاية المرجوة او المأمولة ولكنها افضل بكثير من الاستمرار تحت التحقيق وخصوصا مع وجود مخاوف من بروز ادلة او شهود يعقدون القضية اكثر. استبشر الزملاء خيرا بعودتي السريعة ولم احب ان اعكر مزاجهم يتناولون الفطار. اصر العم هاشم على مؤاكلته وكان الوحيد من بينهم المسموح له باستلام كل الوجبات من منزله تقديرا لحالته الصحية الدقيقة، وعندما تكررت الدعوة في الغداء انطلقت الالسن بالتعليق والتندر من هنا وهناك. لم يكن لدى المجموعة الا - المصروف الرسمي - عبارة عن رغيف في الفطار لا يسمن ولا يغني من جوع. بعد ان تبرعت بما يأتيها - ان وجد - من فطائر لجون كيري الذي لجأ الى المعتقل لقضاء ليلة واحدة استمر فيه لعدة ايام بسبب عدم تسجيل اسمه وسفر الحارس الذي ادخله في اجازة فأصبح بلا ملف ولا مصاريف يلتهم اية فطيرة تصل بحجة ان نفسه عافت اكل الانجيرا.
لهذا، قال لهم طاهر شهابي ’ دعونا نوفر الفطيرة للفطار اما هو فعندما يضطره الجوع سيأكل الانجيرا ‘ وضرب مثلا انه كلما قرر الشيخ مصطفى زيارة القرى المحيطة في منطقة بركة كان يسبقه حواريوه اليها لإشعار الاهالي بقدومه والاستعداد لاستقباله بما يلزم من ذبائح واطعمة، ولاحظ احد حواري ذات مرة عدم وجود اية حركة في احدى البيوت ومرأة تطحن فسألها عما ستقدمه للشيخ فردت عليه قائلة ’ها انا اطحنه ‘ فقال لها مستغربا ’وهل تعتقدين ان الشيخ يأكل ذرة مهروسة‘ فردت عليه ’ لشيخك من جوع تكنروب بلع‘ بمعنى لو جاع شيخك هذا لأكل - التكنروب - ثمار برية تأكله الاغنام. وفعلا طبقوا الحكمة وبدأ جون يأكل الانجيرا ’زي العجب‘ كما يقول السودانيون حتى هذه اللحظة ظل الزملاء مستبشرين بعودتي السريعة وان اموري تسير على ما يرام حتى اطلعتهم على تفاصيل قضيتي منذ اليوم الاول وكيف انهارت في اللحظة الاخيرة وبالتالي انني اصبحت عضوا اصيلا في المجموعة، وبالفعل كان خبرا صادما تسبب في صدمة كبيرة للجميع، وتدريجيا تركز الحديث الى موعد المثول امام المحكمة وماهية اسئلتها والردود الواجبة ازائها.
وبهذا نسينا امر المباحث معتقدين انها ستتركنا وشأننا طالما خرجنا من نطاق سلطتها ومسئوليتها المباشرة، ولكنها لم تفعل.
ففي ظهيرة نفس اليوم ولأول مرة وقف بلطي في الساحة بين الغرف ومباشرة امام غرفتنا وامامه شخص ملقى على الارض بالكاد يستطيع الكلام ونادى الزميل صالح بشير. وعندما وقف صالح امامه سأل بلطي الشخص الملقي عن طريق مترجم ان كان هذا الشخص الذي اعطاه السلاح مشيرا الى صالح، فرد الرجل بصوت متهدج بالكاد يسمع ’نعم، هو ذاته وصفاته!‘. فصرخ صالح في وجهه وقال له ’يا كذاب هل انا اعرفك اصلا حتى اعطيتك سلاح‘. عندئذ ضرب بلطي صالح ضربة جودو على رقبته القت به على الارض، وطلب من بعض الزبانية اخذه الى احدى غرف المعتقل.
اصيب بلطي بالإحباط والحقد نتيجة فشله في توريط صالح في موضوع الاسلحة بالرغم من كل المحاولات التي قام بها وبشتى الوسائل. ففي الوقت الذي كان يوقع فيه صالح على اقواله في الليلة السابقة، ذهب بلطي الى حرقيقو واعتقل شخصا عفريا يدعى صالح بشير من سكان - فرارا - ضواحي حرقيقو يشتغل ببعير له في نقل البضائع وعذبه حتى اعترف انه سلم نقل اسلحة الى منزل صالح بشير وحدد المكان الذي دفنها فيها داخل دار عد بشير وقاموا بحفر عدد كبير من الحفر بدون جدوى فما كان منهم الا حملوا صالح بشير لمواجهة صالح بشير!
عندما عاد صالح الى الغرفة كان في حالة سيئة جدا بعد ان قاموا بتعذيبه حتى يشفوا غليلهم، وبينما هو في هذه الحالة التي لا يدرك حقيقتها الا من خبرها، أقترب منه العم هاشم مستفسرا اذا سألوه عنه، وكرر سؤاله وكان قلقا جدا، واخيرا قال له ’سألوني عن رئيس طريقة الختمية في حرقيقو فقلت لهم انه هاشم رمضان‘، انفعل العم هاشم وقال ’من قال لك هذا، انت غلطان.. كيف تقول هذا.. رئيسها خليفة محمد‘ وايد بقية الزملاء كلام صالح بقصد الاثارة وقالوا للعم هاشم،’ما نعرفه انت الرئيس!‘. خلال يومين او ثلاث تم اطلاق العم هاشم والاخ طاهر شهابي وتم تقديمنا الى محكمة.
هذه النماذج من الاحداث غيض من فيض اقصد منها بها كشف وتعرية ممارسات العدو وبشاعة اساليبه، وليس لتمجيد شخص بعينه لان ما كابده الشعب من الوحشية والبطولات التي سطرها ابناؤه اكثر بكثير مما قدم في هذا السرد.
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.