ذكريات وتجارب - الحلقة التاسعة والعشرون

Samadit.com سماديت كوم

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

كانت المحكمة العليا التي مثلنا امامها برئاسة قاض اثيوبي من قومية الامحرا. بعد التأكد من وجودنا، طلب من المدعي العام وهو

ارتري الجنسية، تلاوة التهم الموجهة الى كل منا، وعقب انتهائه سألنا القاضي ان كنا نقر بما نسب الينا فكان ردنا اننا ابرياء، فسألنا ان كنا نطلب من المحكمة ان تعين لنا محاميا على حساب الحكومة ام بمقدورنا ان نوكل من يدافع عنا، طبقا للقانون اذا كانت التهمة كبيرة لابد للمتهم من توكيل محامي واذا لم يستطع فيكون على حساب الحكومة. اربع من المواد الخمس التي طالب المدعي العام تطبيقها تراوحت احكامها بين الاعدام، الاشغال الشاقة المؤبدة وعشرين سنة ومادة واحدة من خمس سنوات الى سنة. فطلبنا تأجيل الرد لحين التشاور مع ذوينا. وعليه تم تحويلنا الى مصلحة السجون وتحديدا السجن ومنذئذ اصبحنا تحت مسئولية المحكمة وعهدة لدى مصلحة السجون ما يعني انه لم تعد للمباحث اية علاقة بنا. وحسب التهم الى كل شخص كان ترتيبنا على النحو التالي:-

1. صالح عبد القادر بشير.
2. عبد الله محمد سعيد صايغ
3. محمود صالح سبىي.
4. احمد شيخ إبراهيم فرس
5. صالح جابر وراك.
6. عثمان بدوي عمريت
7. عبد الله محمد صايغ
8. طه ابراهيم حسين
9. عثمان رمضان حسين – المتهم التاسع (اضيف الى المجموعة بعد انتقالنا الى السجن العام).

وصلنا الى السجن المركزي في اسمرا وقت الغروب في سيارة مغطاة تحرسها سيارات المباحث، كان هذا بوجه التقريب في منتصف شهر يناير من عام 1966م أي بعد ان قضى بعضنا اكثر من شهر ونصف في المعتقل. وبالكاد نزلنا من السيارة حتى تسابق إلينا الحراس وكأنهم كواسر جائعة لمحت فريستها بشكل يستدل منه انهم كانوا محفزين على اننا اناس خطرين يتوجب التعامل معهم بشدة. اول ما قاموا به كان تفتيشنا جسديا وكأننا قدمنا من سياحة خارجية، ثم كبلوا ارجلنا بأصفاد فرديا زنتها ست كلغ، مع ان الوزن من الناحية القانوني يحدده طبيب وفقا للوزن والحالة الصحية، ثم فكوا القيود التي أوصلت يد أولنا بآخرنا ودفعوا بنا صفا تحت السور ريثما تتم بعض الإجراءات الإدارية. كان المنظر العام نوعا ما غريبا ومهيبا ايضا، فعندما نظرت الى فوق بدا لي السور أعلى بكثير مما عهدته عندما كنت احوم حوله مع بعض الزملاء، والحارس كأنه شبح معلق في السماء. كان هذا في الجزء الاداري من السجن المكون من مستودع اسلحة بين البوابة الاولى والثانية ثم مكتب المدير برتبة ميجر، مكتب نائب المدير برتبة ملازم اول، ومكتب لملازم ثاني عدد من المكاتب الادارية، غرفتين لاستراحة الضابط والشاويش المناوبين ليلا وغرفة كبيرة لاستراحة العساكر الاحتياطيين.

بعد انتظار دام نحو ساعة، القى علينا الضابط المناوب قوانين السجن ولائحة العقوبات مشددا على انها تطبق حرفيا بصرامة لا هوادة فيها، ثم قادنا الى مخزن خاص بمتعلقات المساجين خلف المكاتب حيث سلم كل منا ما لديه من مقتنيات: ساعة، نقود، حزام، خاتم ملابس زائدة عن غيار واحد، وفي نفس الوقت صرف لكل منا صحن وكوب لشرب ماء وشاهي مصنوعين من نيكل وبطانيتين مستعملتين من وبر بعضها بالية ان لم تكن مهلهلة. ثم عبرنا البوابة المؤدية الى الجزء الخاص بعنابر المساجين. كانت طريقة سيرنا اشبه بقطيع في المدينة يحيط بنا طابور من الحراس يلوحون بعصيهم المطاطية يساعدون كل تعثر بسبب حواف القيود الحادة بالدفع والسخرية، نفس الاساليب التي يمارسها الزبانية في قسم التحقيق والتعذيب. كانت العنابر كلها مغلقة، اضواؤها خافتة وهادئة جدا سوى همهمات اقرب إلى همسات، وامام كل قسم حارس متخفي تحت سترة عسكرية طويلة داكنة يحتمي من البرد بالباب، تحس وكأنك تتحرك وسط مقبرة ليلا حيث تنتاب الانسان تخيلات انس محسوس أو جان مدسوس.

ادخلنا في قسم كتب على بابه ’العزل والعقاب‘ مكون من ست غرف موزعة على صفين يفصل بينهما ممر عرضه اقل من متر ونصف، طول كل غرفة متران وعرضها ثلاثة امتار مخصصة لخمسة نزلاء أي بمعدل ستين سنتمتر لكل نزيل، بلا تهوية إلا ما يتسـرب من فراغات تحت الباب، وإضاءة ضيفة ترهق العين وتؤثر على البصر، وحمام وحيد في المؤخرة ويستعمل ايضا للاستحمام وغسل الملابس، اما الحمام الليلي حيث لا يفتح الباب الا في السابعة والنصف صباحا حتى لو حصلت وفاة ناهيك لقضاء حاجة فهو عبارة عن مبولة كبيرة. لهذا، نقل المبولة الى الحمام وتنظيفيها اول مهمة يقوم بها النزلاء فور فتح الباب. علما ان هذا القسم في الاصل خاص بمن يرتكبون المخالفات والجرائم داخل السجن وليس خارجه. على كل حال، أودع الزملاء: صالح جابر وراك، احمد شيخ ابراهيم فرس، عبد الله محمد سعيد، عبد الله محمد صايغ وطه ابراهيم في زنزانة، والبقية دخلنا في زنزانة اخرى فيها سجين يدعى عبد الله تكرونى، قيل انه كان قاطع طريق في منطقة جلوج.

لا ريب في اننا كنا متضعضعي الحواس والجسد نتضور جوعا ونرتعد من شدة البرد القارس. جثا كل منا على ركبتيه أو القرفصاء كيفما صادف يتحسس تارة نفسه وأخرى يتفقد الزنزانة التي ربما قضى فيها بقية عمـره، إن كتب للعمر بقية. استعادة ذكريات الماضي كانت افضل بكثير من التفكير في المستقبل و ما يحمله.

صراحة.. تمنى المرء لو لم يدخل السجن، أو بالأحرى لو لم ينخرط في السياسة ومشاكلها، بل وحتى لو لم يولد أصلا طالما هذه هي النهاية. مضت علينا فترة طويلة دون أن ينبس أحدنا ببنت شفة، كل مستغرق في المناجاة مع الذات وبمعنى اخر محاكمة ذاتية كل بما له وما عليه: الاعتقال، التحقيق، التعذيب، والمواد القانونية المقدمة من قبل المدعى العام. وفجأة حلقت بي أماني عريضة بعيدا في السماء ثم عجزت ان تهبط الى الارض لان التمني والامنيات لهما جناحان ولكن بلا اقدام تقفان عليها على ارض الواقع.

لاستمر بنا الوضع طويلا على هذا المنوال لولا حركة في الباب دخل على اثرها عامل مطبخ يحمل جردلا سكب منه لكل منا في كوبه حليبا. لم نفكر ما إذا كان الكوب نظيفا ام لاء حيث كانت فرحتنا برؤية حليب لا تقل عن فرحة الطفل به وخصوصا ان للحليب تقليديا معاني تفاؤلية دغدغتنا قليلا. كنا نعتقد انه جزء من المصروف اليومي حتى ازال العامل اللبس حين قال وهو يخرج ’هذا الحليب هدية من محمد ايرا وهو يسلم عليكم‘. تبادلنا نظرات متسائلة.. من يكون هذا الشخص الذي لم نسمع به قط يستقبلنا بحليب ونحن فى وضع اعتبرناه بمثابة نهاية العالم!. حاولنا الاستفسار منه ولكن الباب كان قد اقفل. اوضح لنا زميلنا عبد الله أن محمد ايرا أسير من الجبهة محكوم عليه بالإعدام.

محمد ايرا.. أسير من الجبهة محكوم عليه بالإعدام.. يستقبلنا بحليب! كانت لفتة تنطوي على معاني كبيرة وعظيمة لم تخف علينا بل كانت بمثابة صدمة كهربائية اعادت الينا وعينا أننا الذين أتينا إلى السجن عندما اخترنا طريق النضال المحفوف بكل أنواع المخاطر وليس العكس، وأن العديد من زملائنا وأصدقائنا قد استشهدوا منذ بعض الوقت وان بعضهم في طريقه إليها. ورويدا رويدا انقشعت الغفلة وزالت الغيمة والغمة وشعرنا بالاسترخاء وبدأنا تنفيسا عن النفس ومن باب التسلية في تجاذب الأحاديث وبعض التعليقات والنكات عن التجربة التي مررنا بها ولاسيما أن البعض منا لم يلتق او لم يتحدث عنها من قبل.

نتيجة الجرح والالم الذي يسببه القيد مع ضيق المكان وضيق التنفس ووجود مجنون في غرفة انفرادية مجاورة لم نذق طوال الليل طعم النوم، فمنذ وصولنا لم يطبق هذا المجنون فاه ناهيك عينيه، يبكي ويضحك ثم يغنى ويرقص الى ساعة الفجر. في الصباح وفور انتهاء الشاويش المناوب من احصاء العدد، التهمنا الفطور، اذا صح التعبير، استعداد للخروج الى الساحة. اما زملاؤنا في الزنزانة الاخرى فقد كانت ليلتهم ليلاء، ففضلا عن المنغصات المشتركة التي ذكرتها، لم يستطع معظمهم حتى الرقود او الجلوس نظرا لضيق الحيز طولا وعرضا حيث كان بعضهم فارع الطول والبعض الاخر بدينا جدا.

اقل ما يقال في ما عرفناه اثر خروجنا الى الساحة، خيبة امل كبيرة ان لم تكن بالفعل صدمة. علمنا اننا سنظل في هذا القسم لحين انتهاء المحاكمة وصدور الحكم وبالتالي سنظل مقيدين وحركتنا محصورة في مساحة لا تزيد عن اثني عشر مترا مربعا، وانه لن يدخل الينا سوى الحارس المناوب، عامل نظافة وعمال المطبخ، وانه لن يسمح لنا مقابلة ذوينا كما لا يسمح لنا استلام طعام او ملابس.

لم يكن امامنا سوى تقبل الواقع والتعامل معه وبالتالي الدوران في الساحة في شكل حلقة كما تفعل عقارب الساعة. كنا محبطين جدا عندما دخل احد عمال النظافة وانكب على اداء عمله ولم نهتم به الا عندما استغل غفلة الحارس وغمز بعينه ودخل الى اتجاه الحمام في مؤخرة الغرف فتبعه احدنا للتأكد اذا كانت حركته مقصودة ام عفوية. ذكر ان اسمه حمد شيخ وانه سجين سياسي من مدينة تسني حكم عليه بسنتين، ثم نقل الينا تحيات الحاج محمد ايرا ووصيته لنا بالصبر والثبات. وبالاستفسار عن مكانه، قال انه في غرفة صغيرة امام قسمنا ولكن لا نستطيع رؤيته لان توقيت خروجه ودخوله عكس توقيتنا تماما. مرة اخرى عدنا الى سيرة الحاج محمد ايرا وشخصيته وحنكته في نقل رسالته من خلال معتقل سياسي وليس مع أي معتقل اخر كما فعل بخصوص الحليب.

خرج ’المجنون‘ تخستي وكان شابا طويل القامة رشيقا وبدأ في اداء رقصاته وحركاته البهلوانية التي يمثل فيها دور صياد يطارد فريسة بعضها مقززة ولكنها في نفس الوقت مسلية، فآخذنا نصفق له ونضحك له، والصحيح كنا نضحك على أنفسنا لما وصل اليه حالنا. بعد عدة اسابيع، تم اطلاق سراحه بالمدة التي قضاها تقديرا لحالته العقلية. وكانت جريمته اصابة احد القساوسة بفأس ولولا هذا التمثيل المتقن لمدة سنتين لحكم عليه على الاقل عشر اعوام. ودعنا يوم خروجه بكل أدب واحترام اعتذر للجميع لما كان يبدر منه من إزعاج وتصرفات مخجلة. قابلته بعد الاستقلال في اسمرا يتاجر في مجال بيع عسل، وعندما سألته عن النوعية قال ’يا ابن مصوع اذا اردت الشراء احضر في الغد نوعية ممتازة‘. ’الجنون فنون وخذ الكمة من افواه المجانين‘ مثال يستحق التدبر.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click