ذكريات وتجارب - الحلقة الثلاثون
بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت
قبل الاستطراد في الموضوع، لابد من الاشارة الى ان سجن اسمرا المركزي الذي نقلنا اليه تم انشاؤه في العهد الايطالي وحافظ على
طابعه العام وطبيعة عمله في العهد البريطاني ثم الحكم الفيدرالي حتى طرأت عليه بعض التغييرات منذ بدايات الاحتلال الاثيوبي كما سيأتي ذكره في سياق الموضوع.
وكانت اقسام الجزء الخاص بالمساجين على النحو التالي:-
• ثلاثة عنابر كبيرة مفصولة تستوعب كل منها اكثر من مائة وعشرين نزيلا تتوسطها ساحة للفسحة، وتقام فيها في يوم الجمعة وفي الاعياد الاسلامية حلقة دينية عبارة عن قراءة السيرة النبوية الشريفة يشرف عليها شيخ من خارج السجن ويحضرها المسلمون من كل الاقسام عدا قسم العزل والعقاب. وفي يوم الاحد والاعياد المسيحية يقام فيها وعظ للطائفة الأرثوذكسية واخر للطائفة للبروتستانتية في اوقات مختلفة يشرف عليها قسيس من خارج السجن ويحضرها معتنقي المذهبين من كل الاقسام عدا قسم العزل والعقاب. كانت التجمعات في نظر المساجين مجرد فرصة اجتماعية للقاء وتبادل الاخبار ليس الا.
• ثلاث عنابر كبيرة مفصولة للمحكوم عليهم تتوسطها ساحة مشتركة.
• عنبر مفصول مقسم على ست غرف صغيرة بفناء امامي صغير للعزل والعقاب.
• عنبر كبير مفصول للمحكوم عليهم بالإعدام بساحة.
• عنبر مفصول مقسم بين بين ذوي الامراض النفسية والعقلية وذوي الامراض المعدية تتوسطها ساحة.
• كنيسة كاثوليكية يشرف عليها قسيس يقيم فيها قداسا اسبوعيا وفي المناسبات الدينية.
• مستشفى عبارة عن عنبر كبير مفصول يستوعب نحو عشرة اسرة وملحق بها مطبخ مخصص لخدمة مساجين اوربيين والمساجين المحكوم عليهم بالإعدام وقسم الامراض العقلية والامراض المعدية بشتى انواعها بإشراف راهبات ايطاليات يداومن يوميا.
• عيادة عامة يكشف فيها دكتور ايطالي مرة في الاسبوع.
• غرفة مجاورة للعيادة لاستراحة ممرض.
• غرفة خاصة بغسل وكوي ملابس الضباط والحراس يقوم به المساجين مجانا.
• غرفة كبيرة يقابل فيها المساجين ذويهم كل يوم سبت، ولاستلام الاطعمة (والملابس لمن هم تحت المحاكمة) كل يوم ثلاثاء.
• مطبخ مركزي ومستودع للمساجين - عدا الاقسام المرتبطة بمطبخ المستشفى.
• غرفتين تسع كل منهما شخصين يبيت فيها الشخص الذي سيتم اعدامه في اليوم التالي (بالنسبة للأرثوذكس يبيت معه قسيس يستمع الى اعترافاته بما ارتكب من ذنوب وجرائم في حياته وطلب التوبة والغفران.
• مشنقة وهي عبارة عن عنبر كبير مزود بأدوات ومعدات الاعدام شنقا كان او رميا بالرصاص مزودة بعدد من المقاعد والكراسي لجلوس المسئولين والمشرفين والاهالي من اصحاب الدم ورجال دين شهودا على تنفيذ العملية.
بما ان ابواب كل هذه الاقسام كانت تطل على ساحة واسعة تعتبر ممرا من والى الاقسام، وبينما نحن محصورون في مساحة اقرب الى علبة كبريت لا نرى فيها الا السماء، كنا نسمع كافة الاصوات والحركات والتحركات بما فيها صرير الابواب وخشخشة السلاسل والقيود من حولنا. لقد افتقدنا كثيرا حركات زميلنا المجنون تخستي الذي كان يلهينا لساعات حتى اصبح دخول عامل النظافة الشيء الوحيد الذي نترقبه وكأنه سيحمل الينا بشرى سارة او خبرا عاجلا. ومن محاسن الصدف كان عمال النظافة الاربعة من السياسيين: الاخوة حمد شيخ، عبد القادر عثمان بادمي وعبد الرحيم محمد بادمي طلبة من تسني اعتقلوا بتهمة توزيع منشورات وتعليق ملصقات في المدارس والمحلات التجارية وحكم على كل منهم بسنتين، وكان رابعهم الاخ عمر ايم عمر من قندع اعتقل في اسمرا بتهمة مماثلة وحكم عليه ايضا بسنتين.
ظلوا يتبادلون الادوار ويتكررون الى القسم حتى بدون عمل يؤدونه ادراكا منهم مدى العزلة التي نعاني منها، ولهذا ولو قال احدهم كلمة او قام بإشارة فهذا بمثابة خبر نفسره كما يحلو لنا وما اخصب الخيال عند الفراغ.
بدأ حراس القسم يدركون اننا مسالمون ولسنا اشرارا كما صورنا مسؤولوهم، ورويدا رويدا بدأوا في التخلي عن التحفظ والحذر الشديد في مراقبة حركتنا ما اتاح لنا فرصة الدخول الى الغرفة للاستراحة قليلا او الذهاب الى الحمام بدون استئذان وهذا في حد ذاته عامل مهم. من باب ابداء حسن النية ذكر لنا احدهم في احد الايام انه لاحظ منذ قدومنا ان اشخاصا يطلون من عمارة مقابلة ويركزون على هذا القسم وكأنهم يبحثون عن مساجين معينين ولعلهم يبحثون عنا، وكانت العمارة التي اشار اليها ملك العم عمر بادوري فرجحنا انهم من ذوينا فطلبنا منه ان يشعرنا اذا ما ظهروا مرة اخرى.
بما ان الطبيعة الانسانية في مثل هذا الوضع تختلف من شخص لآخر، كان هناك من لم يهدأ له بال منذ ان سمع هذه المعلومة فاخذ يسأل الحارس بشكل متكرر الى درجة الاحراج، فكان يتجاوب تارة ويتجاهل اخرى لان التأكد من وجود الاشخاص يتطلب وقوفه خارج باب القسم من حين لآخر ما يعرضه للمساءلة. واخيرا صادف ظهورهم مع خروجه ودائما في ساع العصرية فسمح للعم عبد الله بالوقوف خارج الباب لعلهم يميزونه. وفعلا تبادل معهم العم عبد الله السلام ولكنه لم يستطع التعرف عليهم معرفة ما يرمزون اليه من خلال الاشارات المختلفة التي قاموا بها. اجتهد الجميع في تفسير وتأويل ما قاله العم عبد الله كل واحد على طريقته، وكان اطرف تفسير قيل ان المجموعة ستحضر لنا خروفا!‘. استمراره في الموقع بالرغم من دخول العم عبد الله اوحى لنا انهم ينتظرون ردا، وكان الحارس الاسرع في ادراك القصد، فطلب مني الخروج. كانوا الاصدقاء، على سيد عبد الله، حسن حمد امير واحمد طاهر بادوري. يتناقض هذا التاريخ مع ما ذكره الصديق بادوري في كتابه ’رحلة مع الذاكرة‘ انه غادر ارض الوطن الى السودان اواخر عام 1965 وفي تقديري انه غادر حوالي شهر ابريل من عام 1966 بدليل انه زارنا عدة مرات قبل ان اعرف بمغادرته من الصديقين علي وحسن.
فيما يتعلق بكيفية اكتشافهم موقعنا، فبمجرد ان اعلموا انه تم تحويلنا الى هذا السجن، قاموا بمسح كامل لأقسام السجن الى ان لاحظوا طاقية تتحرك في الهواء لا يظهر رأس صاحبها بسبب ارتفاع الجدار فرجحوا انها تعود للعم عبد الله، وبعد هذه المشاهدة الشخصية ابلغوا الادارة التي كانت تنفي باستمرار تواجدنا لديها انهم متأكدون من وجودنا مع التلميح ان هناك من رآنا فعلا، وعندئذ فقط اعترفت وطلبت منهم احضار تصريح من المحكمة.
بعد جهد جهيد حصل الاخ الاستاذ محمد سعيد عبد القادر بشير على تصريح من المحكمة لمقابلة شقيقه الاخ صالح لمناقشة موضوع تعيين محامي. ذكر محمد سعيد في اللقاء انه، وبناء على تزكية من المحامي والشخصية الوطنية المعروفة محمد عمر قاضى، كلف المحامي الوطني اماوئيل مبرهتو المشهود له بالكفاءة والوطنية للدفاع عن المجموعة، وكانت قضيتنا الاولى التي يتولاها اماوئيل حيث كان يعمل لحساب القاعدة الاميركية في اسمرا فقط. وعلى ضوء تزكية المحامي محمد عمر قاضي زودناه بتفويض رسمي للدفاع عنا امام المحكمة وعليه اعتمدته المحكمة.
اول شىء طالب به المحامي كان تزويده بكامل تفاصيل القضية. فطبقا للتحري الذي قامت به الجبهة في هذا الصدد، اتضح ان الاتصال الهاتفي الذي اجراه حمدو محمد بصالح بشير من مدينة دسى التي نزل فيها في طريق عودته من اديس ابابا الى اسمرا كما ذكر سابقا، لم يكن مباشرة انما عن طريق محمد حمودة (باحبيشى). ولم يكتف باحبيشي بايصال المعلومة الى صالح بشير فقط بل نقلها ايضا الى شخص يدعى برمبراس محمد عبد الله (قوبا Gobba احدب باللغة الايطالية) الذي كان يعمل رئيسا لشئون السفن الشراعية في ميناء مصوع ومعروفا بولاء مطلق لإثيوبيا اذ كان يستغل القسم لجمع معلومات استخباراتية عن تحركات الجبهة داخل الشواطئ الارترية وفي الدول المجاورة، وهو الذي اعطى محمد باحبيشي المسدس الذي عثر في بيته لحظة اعتقاله.
استنتج محمد عبد الله بحسه الاستخباراتي ان وراء وجود حمدو محمد في دسي وطلبه نقود من صالح بشير المعروف بنشاطه السياسي وعدائه التاريخي لاثيوبيا سر كبير لا يستهان به فاسرع بنقل المعلومة الى مدير عام ميناء مصوع اثيوبي الجنسية من قومية الامحرا وفي نفس الوقت يتولى منصب رفيع في جهاز الامن. وهو بدوره نقلها رأسا الى ممثل الامبراطور اسراتي كاسا الذي اصدر تعليمات سريعة الى المباحث في اسمرا لترقب وصول حمدو واعتقاله فورا، وفعلا هذا ما حصل. وكان هذا السبب في نزول المعلومات والتعليمات الى المباحث من جهة عليا وليس العكس كما كنا نعتقد، ولهذا قابلني الشاويش بيان بالتهديد لحظة وصولنا الى رئاسة المباحث - اجيب بينما لم تعرف المباحث في مصوع شيئا..
للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.