ذكريات وتجارب - الحلقة الحادية والثلاثون

Samadit.com سماديت كوم

بقلم الأستاذ: عثمان بداوى عمريت

قيل ان صيادا رمى بسنارته والامواج تتلاطم، ليس املا في الصيد بل لإسكات افواه لا تكف عن التشكي من الجوع قضت مضجعه

ولم يصدق عندما تعلقت بها سمكة، وبالكاد استقرت في يده حتى شق بطنها لتجهيزها للطهي فور وصوله البيت، الا ان تلألأ لؤلؤة بداخلها جعله يرمي بها وينطلق بالأخيرة الى زوجته فأثار بهرولته شكوك بعض العسس، اخبرهم فرحا بما انعم الله به عليه، وعندما سألوه عن السمكة المزعومة اخذهم الى المكان ولكنها لم يجد لها اثرا، وريثما يثبت العكس، اعتبر متهما بالسرقة، وهذا بالضبط ما حصل لبلطي وزمرته.

تحدثت في الحلقة السابقة عن الخيط الاول الذي ادى الى اعتقال الزميل حمدو محمد قعص والذي انقطع باعتقالي نظرا لفشل بلطي في اثبات ما يبيض به وجهه امام ممثل الامبراطور ويعزز مكانته لديه. فحاول تعويض ما مضى من خلال تطبيق مبدأ ان الكل متهم الى ان تثبت براءتهم . فوضع قائمة بأسماء من قد تكون لديهم نزعة وطنية وقدرة مادية من تجار وموظفين تسمح لهم دفع اشتراكات شهرية، وعلى هذا الاساس رمى بسنارته التي سرعان ما التقطت خيطا اخرا وضعه في قفص الاتهام.

من مساوئ الصدف، كان في مقدمة الاسماء المدرجة اسم الاخ عبد الله محمد سعيد صايغ - عضو اللجنة. اعتقله بلطي في مصوع يوم جمعة ثم اطلق سراحه بكفالة صهره العم محمد عمر عامر كيكيا على ان يحضر يوم الاثنين الى رئاسة المباحث في اسمرا. التزم عبد الله بالموعد وقابل بلطي الذي اجرى معه تحقيقا بديباجة روتينية ذكر فيها انهم يعرفون انه شخصية مسالمة وطموحة - كان عبد الله مرشحا للترقية الى درجة مدير شركة كالتكس في مصوع - وانه مغرر به من قبل اناس خبثاء، وانه اذا اعترف طواعية بكل ما يعرفه وما قام به فانهم سيعتبرونه مجرد شاهد، اما اذا انكر فستكون مغبته وخيمة جدا لا تليق بمثله من الشخصيات المرموقة. بينما كان بلطي يتحدث ويبحث عمن يدفع اشتراكات، فاجأه عبد الله بالاعتراف انه، بناء على طلب بعض الاشخاص، يحتفظ في بيته بأسلحة لا علاقة له بها بالمطلق وانه مستعد لتسليمها على الا تحمله الحكومة المسئولية. لم يصدق بلطي ما سمع واستفسر منه مرارا ومع هذا لم يثق في كلامه، والى ان يتوصل الى تفسير اودعه في معتقل كزيرما موسوليني في نفس الغرفة التي قضى فيها معي ليلته كما ورد سابقا. واثناء التحقيق في اليوم التالي تمسك عبد الله بما قاله سابقا، فلم يجد بلطي امامه سوى العمل بالمثل القائل ’وصل الكذاب لحد الباب‘ فأخذه الى المكان الذي ذكره.

في مصوع بمنطقة عداقة، كان الاخ عمر ادريس شيخاي جالسا في فرندة بيته مع خاله حسن ادريس نائب وشقيقته فاطمة في امان عندما دخل عليهم عبد الله محاطا برجال المباحث. امر بلطي العم حسن والاخت فاطمة بالدخول الى البيت ومن ثم طلب عبد الله من عمر الحفر في مكان قريب من المزيرة، كان بلطي ومن معه يراقبون عمر وهو يحفر بعين الريبة والارتياب الا تكون في الامر مكيدة فكانت صدمتهم كبيرة وكبيرة جدا عندما شاهدوا حاويات معبأة بأسلحة لم يخطر ببالهم البتة ان تقع في يدهم بهذه الكمية وبهذه البساطة. ترك بلطى عددا من افرادا الامن لحراسة عبد الله والاسلحة وطار الى مصوع ليعود ومعه مدير اقليم سمهر ومحافظ مدينة مصوع ليشاهدا ما تم العثور عليه كما طلب من العم حسن نائب والاخت فاطمة الخروج والمشاهدة، ثم قفل الى اسمرا مبهورا بالإنجاز التاريخي وتم ايداع عبد الله في معتقل اجيب. من المثير في هذا الامر، عندما سأله الصديق حسن حمد امير يوم اعتقالي ان كانت لديه اية اسلحة لإبعادها، كان رد عبد الله نفيا قاطعا.

بطبيعة الحال، لم تكتف المباحث باستلام الاسلحة بل طالبت عبد الله بتحديد مصدرها والاشخاص الذين كان يتعامل معهم وكل من له علاقة بها. وجد عبد الله نفسه في مأزق لا مجال للتراجع فيه بعد ان وفر قرائن وادلة دامغة تدينه، فذكر انه استلمها من احمد شيخ ابراهيم، عاد بلطي الى مصوع واعتقل احمد شيخ قبل ساعة فقط من مغادرة الباخرة التي كان يعمل بها برتبة كابتن. تحت ضغط التعذيب اقر احمد شيخ بنوعية الاسلحة التي سلمها لعبد الله فظهر تناقض بين ما تم ضبطه وما ذكره احمد شيخ، فذكر عبد الله انه سلمها لمحمود صالح سبي، وزادت الاسلحة التي ضبطت مع محمود من التناقض من حيث النوعية والكمية الاسلحة، ولهذا اعترف عبد الله انه استلمها من صالح جابر وراك. كانت الباخرة التي يعمل بها صالح في هذا الوقت في طريقها من جدة الى مصوع وبالتالي لم يعلم لا باعتقال عبد الله ولا باعتقال احمد شيخ، فاعتقل فور رسو الباخرة. ولقد ادى اعتقال صالح واعترافه باحضار بعض الاسلحة الى توسيع الاختلافات حيث ذكرت اسلحة لم يتم التطرق اليها، وهي الاسلحة التي كانت بحوزة محمود في المستودع الذي لم يعثر على مكانه في المرة الثانية.

في النهاية انحصرت تهمة حيازة واحضار السلاح على الزملاء الاربعة، الا ان اعترافاتهم كانت متناقضة بشكل كبير عجز بلطي في الربط فيما بينها بشكل منطقي وقانوني. كانت الاسلحة التي تم ضبطها: عدد من الالغام والمفجرات، قنابل امريكية، قنابل بريطانية، قنابل بلجيكية، مسدسات بلجيكية، مسدسات نمساوية ومسدسات امريكية، وكمية ذخائر من أنواعها.

على ضوء دراسة القضية وحيثياتها، لاحظ المحامي وجود ثغرات قانونية مهمة يمكن النفاذ منها لنسف او، على الاقل، اضعاف اهم مرتكزات الادعاء وهى صلة المجموعة بالأسلحة، لهذا اوصى القيام بالخطوات التالي:-

1. ضرورة التفاهم مع رئيس المحكمة للتعامل مع القضية من منطوق قانوني بحت بدون الخضوع لضغوطات المباحث.
2. التفاهم مع المدعى العام لئلا يتمسك بالمواد القانونية المقدمة والتي لم تتناسب مع حجم الاتهامات.
3. اختفاء عمر ادريس شيخاي نهائيا.
4. التأكيد على شهود الدفاع للإدلاء بما شاهدوه فعلا.
5. تحذير شهود الادعاء من مغبة الادلاء بشهادة زور.
6. تأجيل تنفيذ حكم الاعدام بحق الجاسوس محمد عبد الله لحين انتهاء القضية بشكل نهائي.
7. انذار محمد حمودة (باحبيشي) بالإعدام اذا ادلى بشهادة زور، وكانت الجبهة قد فرضت عليه غرامة مالية.
وفعلا تم تنفيذ التوصيات بحذافيرها، فبدأت عملية الحشد والحشد المضاد.

مدير السجن الذي قام بتقسيم العنابر وعزل بعضها عن بعض بجدران وطبق قوانين ولوائح عقابية قاسية جدا كان ارتريا برتبة كولونيل يدعى بلاي. كان حقودا انتقاميا لم ينج من اذاه احد. وشاءت الأقدار أن يأتي بلاي إلى ذات السجن سجينا محكوما عليه بتهمة اختلاس. بمجرد ان سمع المساجين خبر قدومه، حذروا الإدارة، وعلى لسـان واحد، انهم، وفي أول فرصة تسنح لهم، سوف يمثلون بجثته شر تمثيل، ولم تشك الإدارة في جدية نواياهم لما تعرفه من سوابق بلاي الإجرامية فوقعت في حيرة من أمرها. اخيرا لجأت الى الحاج محمد ايرا مستفسرة أن كان يوافق على أن يودع بلاي معه في زنزانته – نفس الزنزانة الانفرادية التي عزله فيها بلاى تعسفا. قال الحاج محمد ’اساء بلاي على الجميع ووقع في شر أعماله وأنا لا احمل أية ضغينة تجاهه‘ فظل رفيقا ودودا لعدو لدود الى انهى حكمه قبل اعتقالنا بوقت قصير.

نتيجة لهذه التعديلات، كان علينا ان نمر عبر خمس بوابات وصولا الى غرفة المقابلة مع الاهالي، لم تكن المشكلة في بعد المسافة بقدر ما كانت في بطء خطواتنا نتيجة القيود التي تثقل ارجلنا وتؤلمها. كان عدد المساجين كبيرا وعدد الزائرين اضعافا مضاعفة، والفارق الوحيد بين الجميع من مساجين وزوار، في مثل هذا الموقف هو القدرة على التحكم على المشاعر الانسانية والعاطفية، فترى زوار يبكون ويشجعهم السجين وسجناء يبكون وتوسيهم اسرهم، بصرف النظر عن عامل السن، الوضع الاجتماعي او الحالة الاجتماعية وبعيدا عن مدد الاحكام الصادرة او المتوقعة. وبالطبع، كان هناك من لا تبدو فيه اية اثار وان كانت درجة التهم والقضايا المرفوعة ضده كبيرة.

يمكن القول انه، حتى هذا الوقت، كانت قضيتنا اكبر قضية سياسية وبالتالي حظيت باهتمام وتعاطف كبير من الاهالي والمعارف حتى من عناصر وطنية لم نعرفها. من المواقف التي اذكرها، زارنا ذات مرة الخليفة محمود عمر قرباش وكان رجلا معروفا بالصلاح والطيبة من شدة تأثره عندما رآنا مكبلين دعا الله ان يجعل سجننا كسجن نبي الله يوسف‘ فرد عليه احد الزملاء منفعلا ’هل جننت .. أتريدنا ان نقضى في السجن عشر سنوات!‘ فانكمش خليفة محمود وقال ’حاشا لله .. حاشا لله.. حاشا لله‘. وفعلا قضينا في السجن عشر اعوام بالتمام والكمال.

للتواصل مع الكاتب: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

Top
X

Right Click

No Right Click